البحث

التفاصيل

الاعتكاف لأهل غزة في ظل الحرب.. رؤية مقاصدية

الرابط المختصر :

الاعتكاف لأهل غزة في ظل الحرب.. رؤية مقاصدية

بقلم: أ.د. وصفي عاشور أبو زيد

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

في ظل العشر الأواخر من رمضان هذا العام (1446هـ)، وفي ظل ما يجري في غزة الآن من استمرار لمعركة «طوفان الأقصى»، ونقض الصهاينة للهدنة كما هي عاتهم طوال التاريخ، واستئنافهم للقتل والتدمير حتى قتلوا أكثر من 400 طفل وشيخ وامرأة؛ فضلاً عن الخسائر في البنية التحتية.. في ظل هذا كله وفي ظل رمضان والعشر الأواخر يسأل كثير من أهالي غزة عن حكم الاعتكاف لهم، وهذا يقتضي بيان حكمه ومقاصده أولاً.

حكم الاعتكاف ومقاصده

من المقرر أن الاعتكاف سُنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم «إذا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ» (1).

ففي هذا الحديث تُبين لنا أمنا عائشة رضي الله عنها حال النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت هذه العشر، وهو الاجتهاد في العبادة بشد المئزر وهو ما يُلبس من الثياب أسفل البدن، كناية عن اعتزال النساء، وإحياء ليله بالسهر والعبادة، وإيقاظ أهله ليصلوا معه من الليل، وفيه تشجيع الرجل أهل بيته على أداء العبادة وتحصيل ثوابها.

وفي المقصود من الاعتكاف نورد كلام ابن القيم؛ فهو أجود ما وجدتُه في التعبير عن طبيعة الاعتكاف وآثاره ومقاصده، يقول في «زاده»: «لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله، ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة.

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم» (2).

الاعتكاف لأهل غزة مع الحرب

الاعتكاف يقتضي أن يجتمع المسلمون في مسجد، وقد عُلم أن العدو يستهدف مساجدهم ومستشفياتهم، ويهدم بيوتهم، ويدمر بنية مجتمعهم، ويُخشى إذا اجتمع المسلمون في مسجد أو مساجد يكونون لقمة سائغة وفريسة لأسلحة العدو وذخائره، وهنا نكون قد فوتنا نفوسًا كثيرة، وليس نفسًا واحدة.

ولما كان الاعتكاف سُنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحفاظ على النفوس فريضة والتفريط فيها حرامًا، فكان تقديم الواجب على النافلة هو المتجه والمختار في هذه الحال، وكذلك الأمر ينطبق على صلاة العيد، فيمكنهم الاعتكاف في بيوتهم، كما يمكنهم صلاة العيد في بيوتهم دون أن يتجمعوا في مكان فيكونون هدفًا للعدو، ومن فعل ذلك يتحمل إثم النفوس التي ستزهق والدماء التي تسيل.

كما أننا يمكن أن نحقق مقصود الاعتكاف بقيام ليلة القدر في البيوت في هذه الحال، فالاعتكاف ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو وسيلة لعكوف القلب على الله والانقطاع عن الأغيار، وضمان إدراك ليلة القدر وتحصيل ثوابها.

كلمة عن المقاصد والوسائل

وقد يقول قائل هنا: إن الاعتكاف وسيلة لتحقيق مقصوده وهو إدراك ليلة القدر، فمتى تحقق المقصود فالوسيلة تتغير، ويمكن أن نُقيم ليلنا في البيوت، ولا داعي للاعتكاف!

وهذا كلام لا يستقيم هنا؛ لأنه إذا كان «الثبات» صفة دائمة في المقاصد، فإن «التغير» ليس صفة دائمة في جميع الوسائل، فهناك وسائل ثابتة ووسائل متغيرة، فالمتغيرة هي التي لم ينص عليها الشارع أو سكت عنها أو ذكرها ولم يبين هيئتها ولا صفتها، والثابتة هي الوسائل التي وردت بها نصوص تبينها، وتوضح هيئاتها وصفاتها لا تتغير، وذلك مثل الأذان، فهو وسيلة للإعلام بدخول وقت الصلاة، ولكنها غير قابلة للتغير مهما وجدنا وسيلة أخرى تحقق المقصود، ومن ذلك الاعتكاف أيضاً.

وهذا أمر يحتاج لدراسة وتأصيل وتفصيل؛ لأننا إذا لم نميز بين الوسائل الثابتة والمتغيرة فسيكون هذا باب شر كبير للعبث بالشريعة وأحكامها، ومدخل سوء لإبطال أحكام الشريعة جملة وتفصيلاً.

ومن هنا نقول: إن ترك الاعتكاف في حالة غزة التي تعيشها الآن في ظل «طوفان الأقصى»، وفي ظل ما يقوم به العدو الصهيوني الغادر ويرتكبه من جرائم، ليس من باب أن الوسائل تتغير متى تحقق المقصود بوسيلة أخرى؛ لأن الاعتكاف وسيلة ثابتة لا تتغير، ولا يصار لغيرها، وإنما ترك الاعتكاف هنا هو من باب الضرورة التي تقدر بقدرها، والتي بها يقارف المسلم الحرام؛ فضلاً عن ترك سُنة، والأمر هو ترك سُنة مقابل تحصيل واجب، والمتمثل هنا في حفظ النفس مقابل ترك سُنة لا يأثم الإنسان على تركها أصلاً في الأحوال العادية، على أن هناك بدائل يمكن التزامها، ومنها إحياء ليالي القدر في البيوت للرجال والنساء والأسر، وفي هذا تحصيل خير كثير، ودفع شر عظيم، والله تعالى أعلم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* مصادر:

(1) صحيح البخاري (2024)، وصحيح مسلم (1174).

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 82-83)، طبعة مؤسسة الرسالة.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يستنكر الهجوم الإرهابي على مسجد في النيجر ويؤكد ضرورة حماية دور العبادة (تصريح)
السابق
رمضان ورفع نوعية مطالب الإنسان

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع