وقفات تدبرية مع سورة
القدر
بقلم: بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
بسم الله
الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه
إلى يوم الدين.
ليلة القدر في الكتاب
والسنة:
** ليلة القدر في
القرآن:
يقول تعالى في سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
عند النظر في
الآيات القرآنية من سورة القدر وتدبرها، نجد أن الله تعالى في القرآن الكريم قد تحدث
عن اختياره لليلة بعينها من بين العام كله لكي تحمل حدثاً عظيماً، هذه الليلة هي
التي قال تعالى عنها في سورة الدخان: ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ [سورة الدخان،
الآية: 3]، وهي التي خص الله سبحانه وتعالى لها سورة كاملة، وسماها سورة
القدر، هذه الليلة المباركة
ذات القدر العظيم، نزل فيها أشرف وأعظم كتاب، وهو كلام الخالق الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، (ففي ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى
الكتبة أمر السَّنَة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها) [ تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 4/173.]، (وأنه
أنزل القرآن ليلة القدر وهي الليلة المباركة) [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 4/529.].
**ليلة القدر في السنة النبوية
أضاف النبي صلى
الله عليه وسلم لهذه الليلة مكانة جديدة، عندما حث العابدين على إحيائها بالعبادة
والطاعة والتسبيح والاستغفار وكل أنواع البر، ليزيدها بذلك علوا ورفعة يليق بها،
بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه: (مَنْ قَامَ ليلة القدر إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). [صحيح البخاري1/ 21، ح35].
ليلة القدر ودورانها على أيام السنة كلها
نظرا لشرف ليلة القدر وعظمتها وبركتها، فإنه سبحانه
وتعالى أراد أن يشرف بها كل يوم من أيام السنة، فجعلها
سبحانه وتعالى تدور على كل أيام السنة الشمسية، إذ لو أخذنا اختلاف
السنة القمرية عن السنة الشمسية، لوجدنا أن ليلة القدر جاءت في كل يوم من أيام
السنة الشمسية، فرمضان يأتي تارة في الربيع، وتارة في الخريف، وأخرى في الصيف،
وأخرى في الشتاء، أي أنه يدور في العام كله، فما من شهر من شهور السنة الشمسية،
إلا وتشرف برمضان، أو جزءاً من رمضان، ومع طول الزمن نجد أن ليلة القدر هي الأخرى
قد مرت في العام كله، وفي كل يوم من أيامه، لتشمل الزمن كله. فالزمن كله تشرف بهذه
الليلة العظيمة والمباركة.
السر
في اختيار نزول القرآن بالليل
قد يتساءل كل
واحد منا عن السر في اختيار الليل لهذا الحدث العظيم الذي هو نزول القرآن
العظيم بدل النهار، وفي ذلك حكم عديدة، منها أن الليل هو الوقت الذي تكون فيه
العبادة لله وحده فيه صفاء وهدوء، وصدق في التعبير، قال تعالى في سورة المزمل: ﴿إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 5، 6]، أي إنا سننزل عليك
- أيها النبي- قرآنًا عظيمًا مشتملا على الأوامر والنواهي والأحكام الشرعية، والعبادة
التي تنشأ في جوف الليل، هي أشد تأثيرًا في القلب، وأبين قولا لفراغ القلب مِن
مشاغل الدنيا. قال تعالى في سورة المزمل: ﴿وَاللَّهُ
يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [المزمل:
20]، والذي يرائي بعبادة الله، لا يمكن أن يقوم الليل، كما أن الذي يريد أن يقال عنه: إنه رجل صالح
رياءً ونفاقاً، لا يمكن أن يقوم الليل، وإنما يقوم الليل هو الخاشع لله سبحانه
وتعالى، المؤمن به، وهذا سر من أسرار اختيار الليل على النار. [من كتاب معجزة
القرآن لمحمد متولي الشعراوي رحمه الله، بتصرف].
الإعجاز
العددي في سورة القدر
إن الله تعالى قد شرف ليلة القدر،
بشرف القرآن الذي أنزل فيها، وخص لها سورة مستقلة بها، ليلفت نظرنا إلى عظمتها،
ولنعرف بذلك فضيلة هذا القرآن الذي أنزله سبحانه في تلك الليلة، سواء من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا، أو من السماء إلى الأرض في ابتداء إنزاله على الرسول
صلى الله عليه وسلم، فواجبنا قراءة هذه السورة المكية التي نزلت قبل الهجرة
النبوية، وتدبرها، فهي:
1- خمس آيات فقط: بعدد الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر،
فقد روى البخاري، ومسلم، والترمذي، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (تَحَرَّوْا
لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)، [أخرجه البخاري
(2/710، رقم 1913)، ومسلم (2/828، رقم 1169)، والترمذي (3/158، رقم 792)، وقال: حديث
حسن صحيح]، وهي خمس ليالي: (21 – 23 – 25 – 27 –
29)، إذن فليلة القدر هي خمس آيات بعدد الليالي التي تُرجى أو تلتمس فيها ليلة القدر.
2- سورة القدر كلها ثلاثون
كلمة: بعدد
أيام الشهر الذي شرفه الله بنزول القرآن فيه، وهو شهر رمضان، وبعدد أجزاء القرآن الكريم
الذي نزل فيها، فالقرآن ثلاثون جزءا.
3- عدد حروف سورة
القدر: عدد
حروف سورة القدر 114 حرفا، بعدد سور القرآن، من سورة الفاتحة إلى سورة الناس.
مقصد سورة القدر وأقسام
السورة
بيان فضل ليلة القدر
الفصل الأول: ليلة
القدر وإنزال القرآن:
من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾
يتحدث هذا الفصل عن إنزال القرآن، من
اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ومن السماء الدنيا إلى الأرض، يقول ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري، صح
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن القرآن الكريم أُنزل في ليلة القدر جملة واحدة، من اللوح المحفوظ إلى بيت
العزة في السماء الدنيا، أو هي الليلة التي بدأ نزول القرآن الكريم فيها على قلب
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو هي الليلة التي أمر الله تعالى القلم أن يكتب
القرآن الكريم في اللوح المحفوظ). في هذا الفصل
تنويه
بشأن القرآن، والإعلاء من قدره، والرد على من زعم أنه أساطير الأولين، وبيان فضل
الليلة التي نزل فيها، وحثّ المسلمين على إحيائها بالعبادة والطاعة لله رب
العالمين.
وقفات تدبرية مع الفصل
الأول من سورة القدر:
إن ربنا جل وعلا عظّم ليلة القدر تعظيماً
كبيراً، فسماها: " ليلة القدر"، وأنزل في شأنها سورة كاملة سماها
باسمها، وهي سورة القدر، ورغم قصر هذه السورة والتي لا تتجاوز خمس آيات، نلاحظ أنه
سبحانه وتعالى جمع فيها أكثر من أربعة عشر تعظيماً.
1 - استخدم سبحانه ضمير التعظيم
المؤكد: إذ من
تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في السورة، استخدام ضمير التعظيم المؤكد، فقال تعالى: ﴿
إنّا﴾ و: ﴿أنزلنا﴾، ولم يقل: (إني) و(أنزلت)، ودلالة استخدام صيغة الجمع
في القرآن مثل ﴿ أنزلنا﴾، وغيرها مما ورد في القرآن، أن القرآن الكريم
استعمل صيغة الجمع فقال مثلا في سورة الكهف: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً﴾، [ سورة الكهف الآية 11.]، وفي صيغة الجمع يؤتى
بما يسمى ضمير التعظيم، ويستعمل إذا كان المقام مقام تعظيم وتكثير، واستعمل سبحانه
صيغة الإفراد إذا كان المقام مقام توحيد، أو مقام آخر كالعقوبة المنفردة، كقوله
سبحانه في مقام العقوبة في سورة المدثر: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً* وَجَعَلْتُ
لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾،
[ سورة المدثر،11 – 14].
2 - ومن تعظيمه سبحانه لليلة القدر في السورة، ذكر الهاء
للتعظيم في قوله سبحانه: ﴿ أنزلناه﴾، فلم يقل سبحانه: "إنا أنزلنا
القرآن"، وذلك لأن القرآن معلوم معروف؛ وأحياناً الأمر عندما يكون من الظهور بمكان؛
لا يحتاج إلى أن يذكر، وهذا يدل على وضوحه وظهوره، لأنه معلوم لدى المخاطَب والسامعين،
ولظهوره لا يحتاج السؤال عنه، مثل قوله تعالى في سورة فاطر عن الأرض: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ﴾،
[ سورة فاطر الآية 45.]، فلم يذكر الله في الآية الأرض لوضوحها، وهذا لشدة الظهور والوضوح،
والقرآن عظيم بيّن لا يحتاج إلى ذكر، فهذا دلالة على عظمة القرآن بظهوره ووضوحه، فقال
سبحانه: ﴿إنا أنزلناه﴾، ومن عادة القرآن
أنه إذا ذكر ضمير التعظيم؛ لا بد أن يذكر قبله أو بعده ما يدل على أنه سبحانه واحد
لا شريك له، لهذا قال سبحانه: ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِم ﴾ حتى لا يكون في النفس شائبة
شرك، ولا تجد في القرآن الكريم مطلقاً ضمير التعظيم إلا إذا كان قبله أو بعده ما يدل
على أنه سبحانه واحد. ليزيل أي شك من شائبة الشرك، لأن من نزل عليهم القرآن كانوا عريقين
في الشرك، مثال ذلك قوله تعالى في سورة الكوثر: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، فضمير التعظيم لا يمكن أن يستمر إلى نهاية الآيات،
فلا بد من وجود شيء يدل على الإفراد.
3 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، وصف اللَيْلَةِ بالْقَدْرِ، والقدر قد يكون من أشهر معانيها: الشرف والمكانة،
ولم يقل سبحانه وتعالى: شريفة القدر، وإنما قال: ليلة القدر، لتكون الليلة كلها ليلة
الشرف، وفرق أن تكون الليلة شريفة، أو هي ذات مكان، أو ذات قدر، أو أن تقول: هي القدر
نفسه، هي الشرف نفسه، إذن هي ليلة القدر. والليلة تبدأ في التوقيت الشرعي، من المغرب
حتى طلوع الفجر، والأمر الآخر أن القدر له دلالة أخرى، فكلمة القدر لها دلالتان:
الدلالة الأولى: أن ليلة القدر هي ليلة الشرف والمكانة.
الدلالة الثانية: هي تقديرات الأمور، فالتقديرات التي يقدّرها
ربنا في العام كله، تكون في هذه الليلة، فهي قدْر كذلك، كما قال تعالى في سورة
الدخان: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، [سورة الدخان الآية 4.]،
ففي هذه الليلة تقدر كل تقديرات العام. إذن هي ليلة الشرف والمكانة، وليلة تقديرات
ما يحصل في العام كله، فهي ليلة عظيمة، والقدر مصدر، قال تعالى في سورة
الأنعام: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، [سورة الأنعام من الآية
91.]، أي مكانته. إذن لو قالت الآية: ليلة الشرف والمكانة، سيكون لها معنى واحدا، أما
ليلة القدر، فتجمع الأمرين معا، ولما قال سبحانه: هي خير من ألف شهر، معناها هي ليلة
الشرف والمكانة والمنزلة، فهذا يدل على عظمة المنزلة، ولما قال سبحانه: ﴿فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، إذن فيها تقديرات، إذن جاء سبحانه وتعالى
بكلمة واحدة لتدل على المعنيين وهما مرادان، فهي ليلة الشرف، ومن شرفها وعظمتها وجليل
قدرها أنها يفرق فيها كل أمر حكيم.
4 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، استعمال أسلوب التفخيم والتعظيم في قوله سبحانه: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ
مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، فما أدراك، يعني ما أعلمك، وتقال في الأمور العظيمة،
في الأمر الذي يراد به التفخيم والتعظيم تحديداً، يقال: ما أدراك، وليس على أمر سهل
هين، يعني لم تبلغ دراية علمك بهذا الأمر، ولم تعلم علو قدرها، ولم تعلم علو مكانتها،
فالعلم بها خارج عن علوم الناس، وعن دائرة معارف الناس، إذن كل ما أدراك في
القرآن، تستعمل عند تفخيم أي أمر وتعظيمه، سواء في العذاب أو العقاب، يوم القيامة
أو غيره، كقوله تعالى في سورة القارعة: ﴿وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾، وكقوله تعالى في سورة القارعة: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا
أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾، تفخيم وتعظيم، بمعنى ما أعلمك على سبيل
الاستفهام أنه من باب التعظيم. والقرآن كذلك لا يستخدم الماضي فقط في ﴿ وَمَا
أَدْرَاكَ ﴾، بل يستعمل كذلك المضارع فيقول: (وما يدريك)، وكل استعمال قرآني ل(ما أدراك)، يجيب عنه سبحانه وتعالى، وكل
استعمال قرآني ل(ما يدريك) لا يجيب عنه سبحانه وتعالى، وهذه قاعدة مطردة في
القرآن كله، ذكرها القدامى رحمهم الله، مثال ذلك، قوله تعالى في سورة القدر: ﴿
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ
* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾، وقال سبحانه في سورة
الطارق: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ
الثَّاقِبُ ﴾، أما الاستعمال القرآني ل(ما يدريك)، ففي مثل قوله تعالى في
سورة عبس: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ
الذِّكْرَى ﴾، فلم يجب سبحانه في كل ما يدريك، وفي كل ما أدراك أجاب سبحانه
وتعالى، وفي هذا دلالة على أنه تعبير مقصود، وقوانين موضوعة في القرآن الكريم في التعبير.
فأدراك فعل ماضي، ويدريك فعل مضارع، أدراك، أجاب عن الماضي، ولم يجب عن المضارع الذي
يكون للاستقبال أو الامتداد.
5 -
ومن
تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في السورة، تكرير ليلة القدر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾،
وعندنا قاعدة، وهي أن الاسم الظاهر أقوى وآكد من الضمير، فنلاحظ أن تكرار ليلة
القدر يفيد توكيدها وتعظيمها، وهذا مثال لم يرد فيه التكرار، في قوله تعالى في
سورة القارعة: ﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾، فلم يقل
سبحانه: " وما أدراك ما الهاوية"، وإنما اكتفى بذكر الضمير فقال: ﴿وَمَا
أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾، وأجاب سبحانه فقال: ﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾، بينما
في سورة الهمزة، لما ذكر سبحانه وتعالى الحطمة، كررها للتعظيم فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ
مَا الْحُطَمَةُ﴾، ثم أجاب سبحانه: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي
تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾، وعند المقارنة من خلال التعبير القرآني نقول:
أيهما الأعظم والأفخم، "نار حامية" أو "نار الله الموقدة"؟ فيكون الجواب: "نار الله الموقدة التي تطلع
على الأفئدة" هي الأعظم والأفخم. لأنه سبحانه وتعالى قال فيها: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ
مَا الْحُطَمَةُ ﴾، ولم يقل: "وما أدراك ما هي" ، فلما جاء بالضمير،
اختزل في الكلام، ولما ذكر الاسم الظاهر فخم وعظم وجاء بما هو أبلغ.
6 -
ومن
تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في السورة، تثليث ذكر ليلة القدر في قوله تعالى:
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ﴾، فذكر سبحانه وتعالى ليلة القدر مرة ثالثة، ثم ذكر
فضلها بعد ذلك، وهذا التعبير لم يرد نظيره في القرآن الكريم كله مطلقاً، إذ نجد
التكرار مرتين، ولم يذكر ثلاث مرات، مثال ذلك، قوله سبحانه وتعالى في سورة الطارق:
﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ
﴾، لم يقل سبحانه: "الطارق النجم الثاقب"، وقوله سبحانه وتعالى في
سورة الهمزة: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴾، لم يقل سبحانه:
"الحطمة نار الله الموقدة"، وهكذا القرآن كله، ليس فيه إعادة الكلمة
ثلاث مرات إلا في شأن هذه الليلة العظيمة التي هي ليلة القدر، وفي هذه السورة
الكريمة دون غيرها، إذ قال سبحانه مرة ثالثة: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ ﴾، وكان بالإمكان أن يقول:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، خير من ألف شهر". فذكر
ليلة القدر للمرة الثالثة للزيادة في تفخيمها وتعظيمها، لأن الذي أُنزل فيها هو
كلامه سبحانه وتعالى، وهو أعلى من كل شيء، أعلى من الطارق الذي لا يقاس بهذه الليلة
التي أنزل الله فيها القرآن الكريم، ومن هذا
نستشف عظمة هذا القرآن الكريم، ولم يرد في القرآن كله غير هذا التعبير: ﴿ إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾، بهذا التعبير ندرك عظمة وعلو مكانة
هذه الليلة عند الله سبحانه وتعالى.
7 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، ذكر أعلى عدد معروف عند العرب، في قوله سبحانه: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾،
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمُونَ في زمنهم أنّ أكبر عَدَدٍ هو
الألفُ، ولا شَيْءَ غيره، وليس هنالك عَدَدٌ أكبر منه، فلم يعرفوا في ذلك الوقت
العشرة آلاف، ولا المائة ألفٍ، ولا المليون، ولا المليار،... وغيرها، لذلك خاطبهم
القرآن بأكبر عدد يعرفونه ألا وهو الألف. ومعلوم أن الله تعالى لا يخاطب العرب وقت
نزول القرآن بما لا يعلمون، روى الترمذي وقال: حديث غريب، وصححه الحاكم
وقال: على شرط الشيخين، والمنذري، وقال في الترغيب: وإسناده متصل حسن،
ورواته ثقات أثبات، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ
سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ). [وقد حسن المنذري
في "الترغيب والترهيب" هذا الحديث 2/ 531، وقال: إسناد هذا الحديث بعد
أن نسبه إلى الترمذي، وقال الشوكاني في "تحفة الذاكرين" ص 273: والحديث
أقل أحواله أن يكون حسنًا، وإن كان في ذكر العدد على هذه الصفة نكارة، وانظر تمام
الكلام عليه في "المسند" (327)]، ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في
هذا الحديث: مليون، لأنهم لا يعرفون هذه الأرقام، ولما تحدثوا عن ثروة عبد الرحمن
بن عوف رضي الله عنه قالوا: عنده ألف ألف من الإبل، ولم يقولوا: مليون، وقد كان عنده
من الغنم ألفي ألف. ومقصود سورة القدر، أن ليلة واحدة، هي أكثر وخير من كل عدد
وصلت البشرية إلى عده، إذ الطاعة فيها خير من الأعداد التي عرفتها البشرية في
زمانها، ولا يقتصر الأمر على مجرد 83 عاماً كما يعتقد البعض، وهذا يدل على تعظيم
هذه الليلة، فليلة واحدة، الطاعة فيها خير من هذه الأعداد كلها ليس فيها ليلة
القدر.
الفصل
الثاني: ليلة القدر ونزول الملائكة:
من قوله
تعالى: ﴿تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ إلى
آخر السورة.
روى أحمد وغيره، عن أبي هريرة رضي
الله عنه: (...إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ
مِنْ عَدَدِ الْحَصَى)، [أخرجه أحمد
(2/519، رقم 10745)، والطبراني في الأوسط (5/159، رقم 4937)، قال الهيثمي (3/175):
رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات]
وقفات تدبرية مع الفصل الثاني من سورة القدر:
8 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، نزول الملائكة في هذه الليلة، لكي تتميز عن سائر الليالي، فقال سبحانه
وتعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾، ولم يقل تتنزل، لتفيد أن نزول
الملائكة كان في هذه الليلة فقط لعظمها ومكانتها عند الله، وليس في سائر الليالي
الأخرى، ولما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين استمرار نزول الملائكة على الذين
استقاموا على طريق الهدى؛ زاد تاء أخرى فقال تتنزل، وذلك في قوله سبحانه
في سورة فصلت: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾،
[ سورة فصلت الآية 30]، وهذا وفق قانون تعبيري في القرآن الكريم، وهو أنه يقتطع من
الفعل إذا كان الحدث أقل، وإذا كان الحدث أطول، يعطي الفعل درجته كاملة. فالملائكة
هنا تنزل ليلة واحدة، وهي ليلة القدر، بينما في قوله تعالى
في سورة فصلت:﴿ إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾،
فالملائكة تتنزل كل لحظة عند الموت، وعند الاحتضار، وفي كل لحظة على مدار السنة. ومن
حيث اللغة، فإن الفعل المضارع الذي يبدأ بتاءين، لك أن تحذف إحداهما، والدلالة واحدة،
وما يزاد هو قيمة بلاغية مضافة للآية القرآنية، حتى نفهم شيئاً معيناً تقوله الآية.
9 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، تنزل الروح، والروح على الأرجح هو جبريل عليه السلام. وقوله: ﴿فيها﴾،
أي في ليلة القدر.
10- ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في السورة، اشتياق الملائكة
لرؤية المؤمنين، واستئذانهم، وجبريل عليه السلام الروح الأمين، ربهم في النزول، قال
تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ
أَمْرٍ﴾، والمقصود ب(بإذن ربهم)، قيل: الملائكة يشتاقون لرؤية المؤمنين في الأرض،
فيستأذنون ربهم لزيارة أهل الأرض والسلام على المؤمنين، فيأذن الله لهم فيتنزّلون
﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾.
11 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، استغراق جميع الأمور، في قوله تعالى: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، وليس من
أمر واحد، بل عموم الأمور.
12 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، اشتمال الليلة كلها على السلام،
والسلام المقصود في الآية يراد به: التحية
(السلام عليكم)، والأمان والسلامة. ووضع السلام في هذه الآية هذا الموضع، ليحتمل
تعلقه بالأمر وبالليلة، لهذا قدّم سبحانه السلام، فلو قال سبحانه: هي سلام، فسيكون
أمر واحد. إما سلام من كل أمر، أو من كل أمر سلام. ولما جاءت بهذه الصيغة،
فالمعنيان مرادان، لأن الله تعالى لا يقدر في هذه الليلة إلا الخير، إلا ما فيها السلامة،
وفي غيرها يقدر سبحانه ما شاء، وقال سبحانه: ﴿من كُلِّ أَمْرٍ﴾، معناها من أجل
كل أمر، لأن ﴿من﴾، تفيد التعليل أحياناً، كما في قوله تعالى
في سورة نوح: ﴿مِمَّا
خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾، [سورة نوح الآية 25.]،
و﴿من﴾، فيها تعليل، لا تقتصر على
كونها حرف جر، وإنما لها معاني دلالية أخرى، إذن؛ هي هنا تعليلية، أي من أجل كل أمر.
سلام من كل أمر، أو من أجل كل أمر، ثم إن الآيات تحتمل "هي حتى مطلع الفجر"،
و"سلام هي حتى مطلع الفجر"، تحتملها كلها. كما تحتمل "سلام من كل أمر"،
و"من كل أمر سلام"، و"سلام هي حتى مطلع الفجر"، و"هي حتى
مطلع الفجر"، فالآيات تحتمل كل هذه المعاني. ف(سلام هي)، هذا التقديم جمع المعاني
كلها عندما قدمت كلمة سلام على (هي)، لجمع المعاني كلها، ولو قيل: هي سلام، لم تجمع
هذه المعاني، فكل المعاني مطلوبة، وكلها مرادة، وكلها صحيحة، "هي سلام من كل أمر"،
و"سلام هي حتى مطلع الفجر"، و"هي حتى مطلع الفجر". في جملة واحدة،
أشياء عديدة كلها صحيحة مطلوبة، ولو قدّم أو أخّر، تنتفي ويصير معنى واحدا لو قال
تعالى: "هي سلام"، بدل من "سلام هي". إضافة إلى أن الصيغة
القرآنية، فيها من القصر والاهتمام لمّا قدّم السلام، وأهمية السلام، وهذا يتسق مع
المقصد العام للسورة، وشأن السورة، وقدرها عند الله تعالى.
13 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في
السورة، استغراق الليل كله، في قوله سبحانه: ﴿ سَلامٌ هِيَ
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، لم يقل الله تعالى: سلام حتى آخرها، وإنما
قال: ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾، والفجر ليس من الليل، وإنما هو بداية الصبح.
وحتى بمعنى الغاية هنا، أي لغاية مطلع الفجر، إذن لم يبق شيء من الليل، ومطلع الفجر
ليس من الليل، وإنما هو متصل به، وهو من الصبح، فقال سبحانه: ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، يعني استغرق الليل كله، ولم يبق فيه لحظة
واحدة. ثم نلاحظ قوله سبحانه: ﴿سَلامٌ هِيَ
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، ﴿ سَلامٌ هِيَ﴾، تعبير مجازي أصلاً (هي) للزمن،
أي الليلة، وسلام حدث، والمبتدأ والخبر يجب أن يكونا من جنس واحد، فهذه مبالغة، يعني هذه
الليلة كلها تحولت إلى سلام، ليس فيها سلام، ولا سلام فيها، وإنما سلام هي،
وهذا إخبار بالحدث (سلام) عن الزمن (الذي هو الليلة).
14 - ومن تعظيمه سبحانه لهذه الليلة في سورة
القدر، تقدير الخير فقط ﴿ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، (حتى) حرف، قد تكون حرف جر، أو حرف ابتداء.
فماذا نفهم من﴿ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؟
أ – قسم قال: ربنا في هذه الليلة لا يقدّر
إلا الخير والسلام فقط؛ حتى مطلع الفجر، أما بقية الليالي فيقدّر فيها ما يشاء من الخير
والشر.
ب - وقسم قال: إن الله تعالى قال: ﴿تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، قالوا:
هؤلاء يسلّمون على المؤمنين في هذه الليلة ثم ينتهي هذا إلى مطلع الفجر. فإذن هي سلام
من كثرة ما تسلِّم الملائكة على المسلمين والمؤمنين، وهي سلام حتى مطلع الفجر، أي إشاعة
السلام فيها، أي أن الملائكة تحيّي المسلمين في هذه الليلة، إذن سلام هي. لها معنيين:
أن الله تعالى يقدّر فيها الخير؛ ولا يقدّر فيها البلاء، حتى مطلع الفجر، أما في سائر
الليالي يقدّر السلام والبلاء. والأمر الآخر في قوله سبحانه: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، يسلّمون على المسلمين
فيشيعون السلام. فكل ما ذكر في سورة القدر، هو تعظيمات لليلة القدر التي تشرفت
بنزول القرآن العظيم فيها، وهي تستحق كل هذا.
تناسق أول سورة القدر
مع آخرها
في انسجام أول السورة بآخرها، نلاحظ
أنه سبحانه وتعالى بدأ بالحديث عن إنزال القرآن في ليلة القدر ليكون سلاما لمن آمن
به في الدنيا والآخرة، وختم السورة ببيان أن ليلة القدر سلام للمؤمنين، لا ينالهم
فيها مكروه حتى مطلع الفجر.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد كلما
ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون إلى يوم الدين، والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات.