تحالف الأفكار الميتة والأفكار القاتلة
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
هذا
العنوان أوحى به إلي الأخ العزيز محمد مختار
الشنقيطي، فاستعرته منه للتعبير عن شيء في نفسي أثاره الدكتور برسالته
التي أرسلها إلي حول طريقة صوفية تتحرك وتنشط في الغرب، منطلقها مغربنا الإسلامي
الحبيب، وإسمها "الطريقة الكركرية"،
وهي من مشتقات الطرق الصوفية التي ملأت العالم الإسلامي.
لقد كنت
دائما أنأى بنفسي عن الكتابة والكلام في كل ما يعكر الجوّ بين المسملين وما بينهم
من اختلافات متنوعة، فلا أخوض في ما بينهم من خلافات، سواء فيما بين السنة
والشيعة، وما بينهما والإباضية والسلفية، وما بين الطرق الصوفية وغيرهم عموما، بل
أحيانا أتجنب الاصطفاف لبعض المعارضين لنظمهم السياسية الفاسدة، عندما أحس بحسن
استثمار العدو الأصلي لها والنفخ فيها؛ بل وجدتني أحيانا أحاول الابتعاد عمن هم أكثر
انحرافا من هذه الجهات، ولا زلت ما دام الفرد والجماعة لا يزالون في إطار الأمة الواحدة
توحيدا لله واعترافا بوحدة الأمة، ويسعون جميعا إلى تحسين أوضاعنا؛ لأن ما ينبغي
أن يشغل الأمة من مخاطر تهدد وجودها واستقرارها من هنا وهناك، أولى في تقديري بالاهتمام
والمجابهة والمقاومة، للتخفيف والتنفيس عن النزاعات الداخلية بين الفرقاء.
ولما
وصلتني "صورة الكركريين" وهم في حالة من الرقص والجدب، بلباسهم المرقع
والملون بألوان قوس قزح، التي بعث بها إلي الأخ محمد مختار الشنقيطي، معلقا عليها
بما تستحق بإشارة منه إلى التقاء مصالح بين أهل هذا السلوك ومراصد الغرب
الاستكباري في أمريكا خاصة، فعلقت على تعليق الأخ محمد، بأن هذه الجماعة قد أعيد
بعثها في الجزائر -أظن في سنة 2018-، في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وقد كانت
له ميولات طرقية، ربما وفاء لوالده الذي كان "مْقَدَّمْ" في الطريقة
الهبرية في وجدة بالغرب الأقصى في خمسينيات القرن العشرين، ثم ظهرت في فرنسا التي
مهدت لذلك قبل سنوات بتحريك طرق صوفية أخرى، منها الطريقة العليوية التي أعيدت لها
الروح على يد خالد بن تونس الجزائري، من أجل العمل على بعث تيار يجمع بين
الديانتين: الديانة المسيحية بمذهبها الكاثوليكي والديانة الإسلامية، وتمت لقاءات
في الجزائر وفي فرنسا، يمثل فيها الإسلام خالد بن تونس وابنته ومن يصطفي من أتباعه
وغيرهم، ممن لا علاقة لهم بالفكر الإسلامي إلا كهوية ثقافية تاريخية... وكما قلت للدكتور
الشنقيطي قد كانت لي مقابلة مع ممثل الكركرية في الجزائر عبر قناة فرانس 24
الفرنسية، فذكرني الدكتور الشنقيطي، بمقولة لمالك بن نبي رحمه الله حول "الأفكار
الميتة والأفكار القاتلة"، فكان هذا الموضوع.
إي والله تحالف الأفكار الميتة والأفكار القاتلة.
فالأفكار
الميتة هي الأفكار التي توارثناها عن عصر ما بعد الموحدين، أي عن عهد التخلف
والبدعة والعوائد الفاسدة دينا ودنيا، بسبب الجهل والفقر وفساد الطبع والدين، ومن
بينها مثل هذه الطرق الصوفية المنحرفة، التي زرعت الكثير من الخرافات في أذهان
المؤمنين، فتولد عنها فكرة "القابلية للإستعمار". وهي أفكار بدعية من
أساسها أو أفكارا منتهية الصلاحية تحتاج إلى تجديد ولم تجدد.
أما الأفكار
القاتلة فهي الأفكار المستوردة والدخيلة على عالمنا الإسلامي، متجاوزة خصوصياته واختلافه
عن عالم الغرب، سواء باسم الحداثة أو باسم غيرعها من عناصر العصرنة الخداعة...
وما
وتعرضه الطرق الصوفية وخطابها على العموم، من صنف الأفكار الميتة البدعية أو منتهية
الصلاحية، أما الأفكار القاتلة، فتدخل علينا كعملية إنقاذ، فتلتقي بالواقع المأزوم
فيقع التحالف، وربما يقع التآمر؛ لأن طبيعة الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، على
ما بينهما من اختلاف، فإنهما يلتقيان على نتيحة واحدة في غير صالح المسلم، في مسار
تقريبي بينهما يفضي إلى الغلبة للأفكار القاتلة، بسبب قوتها التي تتمتع بها، وكما
يقول بن نبي "ما إن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة التي لم يعد لها
جذورٌ في بوتقة الثقافة الأصيلة للعالم الإسلامي؛ حتى نصطدم بالأفكار المميتة التي
خلفت في عالمها الثقافي الأصلي جذورها ووفدت إلى عالمنا. وأحياناً يجسّد الأشخاص
أنفسم ظاهرتي هذه المشكلة، فالفيروس الوراثي فيهم يمتص- إذا صح القول- الميكروب
الخارجي الوافد إليه. أي أن الفكرة الميتة التي يحملها تنادي وتستدعي الفكرة
المميتة التي تلقاها المجتمع الإسلامي".
إن الطرق
الصوفية بصيغها المطروحة اليوم وطريقة أعمالها المشبوهة خاصة المقيمة والمُوَطَّنَة
في الغرب، ومنها على سبيل المثال عرض أعمالها بوصفها معرفة روحية للغرب المتعطش
لذلك بسبب خوائه الروحي، وهي في الحقيقة لا تمثل الإسلام ولا غيره من الديانات،
فلا ينتفع بها المتدين لكونها باطلة وأفكار ميتة بدعية ومنتهية الصلاحية، ولا ينتفع
بها غير المتدين لأنه لا يبحث عنها أصلا، أو أنه مستعلي عنها فيستثمر فيها بما
يخدم مشروعه الاستدماري ساري المفعول فينا. الذي عبر عنه أحد رؤساء فرنسا -فرانسوا
ميتران- "إسلام ترانكيل" أيْ إسلام هادئ!!
أما
الأفكار القاتلة فهي الأفكار التي تصنعها مخابر الغرب الاستعمارية، التي لا تمل
ولا تفتر في صنع الأفكار القاضية على رصيدنا الثقافي العربي والإسلامي، وما يهم
هذه المراصد بالأساس هو أن تستقبل هذه الأفكار الميتة لتواجه بها حقائق الوجود والقوى
الفاعلة في الواقع، التي لا تزال تقاوم بفضلها الأمة.
قرأت
تقريرا في سنة 1989، بعد سقوط جدار برلين، يتكلم عن الخرائط الجديدة للعالم، منها
الخرائط الجغرافية، والخرائط الدينية والمذهبية، والخرائط الإثنية السياسية...
وكان من بين هذه الخرائط، الكلام عن الطرق الصوفية وأهمية بعثها في العالم، كعامل
مؤثر في صناعة خريطة العالم الدينية لما بعد الحرب الباردة، ولمواجهة القوى
الإسلامية النامية في العالم؛ لأن المتوقع يومها –ولا يزال- أن القوى الإسلامية لا
تزال حاضرة في العالم، ولا بد من تمزيقها وتشتيها.
والمتابع
يلاحظ أن الكثير من الدراسات التي صدرت في الموضوع خلال هذه العقود كلها 1989/2025،
تصب في هذا الاتجاه ابتدا من "صراع الحضارات" لنغتيغتون، 1989، إلى
"هزيمة الغرب" لإمانويل تود 2025.
وعملية استغلال
الأفكار الميتة، من قبل أرباب الأفكار القاتلة تدخل في هذا السياق، لا سيما وأن
الأفكار القاتلة تمتل من القوة وأسباب البقاء أكثر من أي جهد، إلا الفكرة الصحيحة
والفعالة، التي تمثلها القوى الحية النشطة في العالم، مما أضطر كُبَراء العالم إلى
إدراج "قوى الأفكار الميتة"، كشركاء في صناعة عالم ما بعد الحرب الباردة
في صورة الشرق الأسط الجديد أو غيرها من الصور، بحيث ارتقت العملية من مجرد
الاستغلال إلى مستوى التحالف، ولم يبقى هذا التحالف قاصرا على الطرق الصوفية وحسب،
وإنما اتسعت دوائره لتشمل نظما سياسية تكرس الأفكار الميتة بالقوة وتشكك في
الطروحات القوية ومصادرها الدينية، ومدارس ثقافية تأويلية تحرف الكلام عن مواضعه،
وبعث كل ما هو شاذ في التراث الإسلامي، واستدراج شباب الأمة الإسلامية إلى كل ما
يستنزف قواه الحية، فاستغل التراث بإنشاء مراكز بحثية مهمتها بعث الفتاوى الشاذة في
الفقه والإسلامي، بحيث أن الأمة اليوم تعيش مستوى من الوعي بخطورة الوضع أكثر من
أي وقت مضى، وذلك بسبب التحالف الفاضح بين الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، ولكنها
عاجزة عن المواجهة المكافئة، وكأني بواقعنا اليوم يشبه تلك المرحلة التي مر بها
تحالف النفوس المريضة مع الاستعمار في شكل فتاوى انهزامية، تقول إن الاستعمار دخل
بلادنا قضاءا وقدرا وسيخرج قضاء وقدرا، ومن ثم فإن كل مقاومة لهذا الاستعمار تعد
بمثابة المقاومة لقدر الله!! ومن ثم فما على المسلمين إلا انتظار الفرج
من الله... ولا يلقون بأنفسهم إلى التهلكة!!
هذا هو واقع صور الهزيمة التي وقَّعَت على
القبول بقوى التحالف هذه بين الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، ولا نجاة لواقعنا
المأزوم إلا بالتخلص من هذه اللازمة القاتلة، وكسر هذا التحالف المشبوه، الذي لا
خير من ورائه تحت أي غطاء أو مبرر كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة
تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.