الاستدراكات التّوضيحية
حول تعقبات دار الافتاء المصرية على فتوى الاتحاد العالمي للنّفير العام
كتبه: أ.د/ بلخير طاهري الإدريسي
عضو مجلس أمناء الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
مقدمة:
الخطاب القرآني للجيل الرّباني.
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله الكريم
يقول تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا]
(سورة النّساء: 83)
فالعلماء هم أهل الفزع، عند الاختلاف، وعند التياث الظلم، واختلاط الحابل
بالنابل، وعند لبس إبليس لباس القديس، ورفع الخسيس بمجالسة النفيس. وجب البيان
وعدم تأخيره عن وقت الحاجة.
وإنَّ ما يقع لإخواننا في أرض الرّباط، أضحى من أوجب الواجبات التّي يجب
الالتفات اليها، والتّركيز على أخبارها، ومسايرة واقعها، ومنه كان واجب العلماء
البيان، وواجب الحكام التّنفيذ، ولا غنى لهذا عن هذا، فإنّ اللّسان لا بد له من
سنان، وإنّ واقع إخواننا اليوم جعل الحليم حيران، والحيل تصدم بالجدران، فكان لا
بد من واجب البيان.
يقول تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)] (سورة الحجّ).
فهؤلاء ظلموا، وشُرِّدوا وقُتِّلوا، وأُخرجوا، فما هو واجب المسلمين نحوهم؟
كلّ بحسب قربه وبعده، وكلٌّ أدرى بثلثه.
وفي هذا الجو المبكي والمؤلم للأمّة جاءت فتوى الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين، بالدّعوة إلى النّفير العام، بكلام مسؤول يُحمِّل فيه الحكومات والشّعوب
مسؤولياتها، كلّ بحسب ما آتاه الله من وُسع، لينصر إخوانه المستضعفين، بحسب ما
قررته النّصوص الشّرعية والمقاصد المرعيّة والمآلات الاعتبارية.
ولكن قبل الحديث عن تعقبات دار
الافتاء المصرية، هناك أسئلة واقعيّة تطرح نفسها قبل تحرير محل النّزاع في الفتوى والتّعقيب:
-
دعوى المرجعية الرّسمية:
أين كانت دار الافتاء في المجازر المُسلّطة على أهل غزة طيلة 16 شهر؟
ومن واقع سوريا ولبنان وتكالب
الصّهاينة والأنظمة الدّكتاتورية عليهم؟
أو غيرها من المؤسسات الرّسمية الدّينية في بقية
الأقطار.
وعليه هناك اعتباران في هذا المقام لابد من استحضارهما عند الحديث عن
الهيئات الرّسمية.
الاعتبار الأول: استقلالية الأقطار وإذن السّلطان.
هل دار الافتاء المصرية، هي للمصريين أم للعالم الإسلامي؟
والجواب المنطقي أنّها للمصريين،
لأنها تقر أنّه لكلّ قطر علماؤه، وهم أدرى بواقعهم.
والسّبب في ذلك أنّ الهيئة المشكلة من العلماء، كلهم من أهل البلد، وأهل
مكة أدرى بشعابها.
وعلى
هذا الأساس لا يجوز شرعا الحجر على علماء مصر المتمكنين من الإفتاء، وأنْ يُصدروا
فتاوى بما يُمليه عليه ضميرهم، ونفس الشّيء يُقال على بقية الأقطار، فلا وصاية
لقطر على قطر ولا لعالِم على عالِم آخر، ولهذا قالوا: إنّه يحرم على العالِم أن يُقلِّد
عالما إلَّا إذا سقط الحافر على الحافر.
ولم يقل أحد من أهل العلم عبر التاريخ، أنّه من شروط الاجتهاد والافتاء إذن
السّلطان، أو الانضواء تحت هيئة رسمية، وكُتب الأصول بين أيدينا، ولم نَسمع بهذا
إلَّا في عهد استبداد الأنظمة المعاصرة، ونشوء فقهاء السّلاطين، والفتاوى تحت الطّلب،
ومحاولة تحنيط العقول وتأطير الفهوم.
ولولا
هذه الحريّة التي كان يتمتع بها الفقهاء عبر التّاريخ، لما رأينا هذه الثّروة
الفقهيّة الهائلة في مدونات الفقه والتّفسير والحديث، بين موافق، ومعترض ومعقب،
وقابض وباسط، وبين مفصل ومؤصل.
فأسس الإبداع أربعة: الحرية، والمسؤولية، والمكنة، والواقعية.
فإذا تقرر هذا، علمنا أنّه من شروط الاجتهاد والفتوى في كلمة موجزة: أن
يكون من أهله في محله.
فالفتوى:
ملكة ودربة وصنعة، وفتح من الله، ومَن عُدم هذه الرباعية، فهو قُرص مضغوط.
ولا إخال أنّ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي ينتمي له ألاف العلماء
في شتى التّخصصات وبمختلف الكفاءات، وبمختلف الجهات، والمشارب والمذاهب والتوجهات،
أنْ يكون عاجزا عن صناعة فتوى مسؤولة، مؤصلة ومفصلة، بعيدة عن الأهواء، أو
الولاءات، أو تصفية الحسابات. ولا ربما
يكون شيء من ذلك في آحادهم بسبب خلفيات ما، أو مواقف ما. ـ ونستبعد ذلك من باب حسن
الظّن، ونحسبهم بخلاف ذلك والله حسيبهم ـ ولكن أن يعمَّ هذا المرض جميعهم، فإنّنا
ننزههم عن اتباع الهوى لإرضاء فلان أو علان، لأنّه كما قال الصّادق المصدوق لا
تجتمع أمتي على ضلالة.
الاعتبار الثاني: وهو
واقعي
إن أغلب العلماء الرّسميين، الذين
وصلوا إلى هذه المناصب، متهمون عند العامة، ولا تثق في فتاويهم، ولا يعوَّل عليها،
ولا يعرج عليها ولا يلتفت إليها، بل تجد عامّة النّاس تنصب فقهاء يثقون في علمهم
ودينهم، يجعلونهم حجة بينهم وبين ربهم.
وهذا ليس اتهاما ولا افتراء، بل هو الواقع المعاش، من خلال تخاذل كثير من
العلماء عن الصّدع والصّدح بكلمة الحقّ عند افتراق الرغائب، بين ما يطلبه السلطان،
وبين ما يقرره المنّان.
يقول تعالى: [وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] (سورة الأحزاب: 67).
والخلاصة: أن واقعنا، العلماء على دين ملوكهم، وهم
جاهزون للفتاوى تحت الطّلب، وحصة ما يطلبه المستمعون، والعامة على دين أتقيائهم،
وجهالهم، وممن سجّل واقعهم أنّهم يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم.
فالأصل في العلماء الأحرار أنهم مصدر دعم واحتياط، وتكملة واستدراك، لا ضرّة
ولا شقاق، فالعلم رحم بين أهله، وقبل كل ذلك هو توقيع عن رب العالمين.
-
دعوى الفتنة والاستقرار:
وهذه من ثلاثة الأثافي التي تتعلق بها الأنظمة كفزاعات لشعوبها، إمّا نحن
وإمّا الفوضى، إمّا أنْ تصبروا على قهرنا وجنوننا، وانقلاباتنا، وإمّا الفوضى
الخلاّقة، التي يُكذَّب فيها الصادق، ويُصدَّق فيها الكاذب، ويُخوَّن فيها الأمين،
ويُؤمَّن فيها الخائن.
فلا طالما سادت دكتاتوريات سنوات عجاف على شعوبها قهرا وسلبا، وسجنا
وتنكيلا، تحت دعوى الحفاظ على الاستقرار، ولكن بأيّ يثمن.
وإنَّ
واقع الأمة منذ سقوط الخلافة الإسلامية، وهو يتقلب بين مُستدمر يسيطر على أرضه
وعرضه بالنّار. وإمّا بوكلاء نصّبوا بعد خروج هذا المستدمر على حين غفلة الشّعوب
والأتقياء الذين ضحوا بالنّفس والنّفيس على هذه الأوطان.
والمستقرئ للتاريخ المعاصر، أنّه ما يسمى بالزّعماء العرب (زعماء من الزّعم)
كيف كانوا مورطين إلى الأعناق بملفات جنائية، أو جنسية أو مالية. وهؤلاء أصبحوا
يقادون كالقطيع، ومَن أراد أن يزيد تأملا، فليسأل عن أصل أمهاتهم، أو زوجاتهم،
فعندها سوف ينقطع العجب، وينطق العجم بلسان العرب.
والخلاصة: أنّه كمِّمت أفواه، وقطعت ألسن، وغيِّبت شخوص باسم الاستقرار،
ووحدة الأوطان، وشراء السّلم الاجتماعي بأبخس الأثمان.
وليكن شعاركم ما كتبه الأديب معروف الرّصافي:
يا قوم لا تتكّلموا
إن الكلام
محرَّم
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز
إلاّ النُوَّم
وتأخّروا عن كل ما
يَقضي بأن
تتقدّموا
ودَعُوا التفهُّم جانباً
فالخير أن لا
تَفهموا
وتَثّبتُّوا في جهلكم
فالشرّ أن
تتعلَموا
أما السياسة فاتركوا
أبداً
وإلاّ تنموا
إن السياسة سرّها
لو تعلمون
مُطلسَم
وإذا أفَضْتم في المباح
من الحديث فجَمجموا
والعَدلَ لا تتوسَّموا
والظلمَ لا
تتجَّهموا
من شاء منكم أن
يعيش اليوم وهو
مُكرَّم
فَليُمسِ لا سمعٌ ولا
بصر لديه ولا
فم
لا يستحق كرامة
إلاّ الأصمّ
الأبكم
بيت القصيد فيما أوردته دار الإفتاء من تعقبات
واعتراضات.
نص البيان:
بسم الله الرحمن الرحيم
اطلعت دار الإفتاء المصرية على ما
صدر مؤخرًا من دعوات تدعو إلى وجوب الجهاد المسلح على كل مسلم ضد الاحتلال
الإسرائيلي، وتطالب الدول الإسلامية بتدخل عسكري فوري وفرض حصار مضاد.
وفي إطار مسؤوليتنا الشّرعية، وبناءً على قواعد الفقه وأصول الشريعة
الإسلامية، تؤكد دار الإفتاء النقاط التالية:
التوضيح الأول:
أولا: هي دعوى للجهات المسؤولة وليس للشعوب أو الأفراد حتى تتحمل مسؤوليتها
الأخلاقية والدّينية والتاّريخية.
1_ الجهاد المسلح الواجب على كل مسلم، وهذا التّوصيف الشّرعي، مع مراعاة
التّفرقة بين جهاد الدّفع وجهاد الطّلب، وبين من يتعين عليهم بسب التّلبس بالواقع
الجهادي الذي يتطلب الأقرب فالأقرب.
2_. ضد الاحتلال الإسرائيلي: وهذا التّشخيص حقيقي وليس وهمي.
3_ تطالب الدّول الإسلامية، وليس الجماعات المسلحة ولا الأفراد، بل الدّول
الإسلامية، بالتّدخل العسكري والفوري، وفرض حصار مضاد. وهذا الكلام تصدر بفعل الطّلب
الموجه الى جهات مسؤولة أن تتحمل مسؤولياتها اتجاه هذه الحقائق الواقعية، فأبن وجه
الغرابة في هذا الطلب.
فهو من باب إخلاء مسؤولية العلماء وإبراء الذّمة، وإلقائها إلى الحكام فهم
أصحاب التنفيذ، فإن تقاعسوا، سوف يسأل كل راع عما استرعاه الله.
التّعقب الثّاني لدار الإفتاء:
أولًا: الجهاد مفهومٌ شرعيٌّ
دقيق، له شروط وأركان ومقاصد واضحة ومحددة شرعًا، وليس من حق جهة أو جماعة بعينها
أن تتصدر للإفتاء في هذه الأمور الدقيقة والحساسة بما يخالف قواعد الشريعة
ومقاصدها العليا، ويعرِّض أمن المجتمعات واستقرار الدول الإسلامية للخطر.
التوضيح الثاني:
الحقيقة الأولى: أنّ
واجب العلماء البيان وواجب الحكام التنفيذ.
الحقيقة الثّانية: إنّ
العالم الأصل فيه هو عالم الأمّة، وكل من توفرت فيه شروط الاجتهاد والفتوى، يحرم
في حقه السّكوت أو الكتم فقل تعالى: [وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلَا تَكْتُمُونَهُ..] (سورة آل عمران).
الحقيقة الثّالثة: أنّه ليس
بعالم واحد أو من قطر واحد، بل هم علماء من شتى أقطار الكرة الأرضية، فتاويه مرضيّة،
عند عامة النّاس من أمة خير البرية، كلّهم كفاءات علمية وشهادات جامعية وإجازات
مشيخية، يشهد بها العام والخاص، بل أغلبهم إن لم أقل كلّهم تقلد مناصب رسميّة
عالية من وزراء ومديرين، ومستشارين وخبراء وغيرهم، فهم ليسوا مبتورين عن واقعهم
ولا عن شهودهم الحضاري.
الحقيقة الرّابعة: وهي دعوى
تعريض المجتمعات والدّول للخطر وعدم الاستقرار
فهل وصلت السّفاهة بنخبة من علماء الإسلام أنْ يصلوا إلى درجة التّهور،
لارتكاب حماقات فقهيّة، لا تدرس فيها المالات الشّرعية، وما يترتب على ذلك من
مصالح ومفاسد؟
فهل يحجر على عقول علماء الأمة، لتختزل في
مجموعة ارتضاها السّلطان بغض النّظر عن مستواها الحقيقي، ونحن نعرف منهم قامات
علمية حقيقية، ولكن زوحموا بطلبة علم صُنعوا على عجل، وتصدروا من غير وجل.
فهل نحن في سوق، حتى نمايز بين العلماء الرّسميين والعلماء الأحرار؟
بل نقول أنّ الميزان والعبرة، في مقارعة الحجّة
بالحجّة، ومن كان مدعيًّا فالدّليل ومن كان ناقلا فالصّحة، وكفى المؤمنين الجدال.
ولا يُعرف في علم رفع الخلاف، أنّ من كان من حاشية السّلطان فقوله مقدم على
غيره، وعدم التّلبيس على العامة أنّ رأي الحاكم رافع للخلاف، فإنّ هذه القاعدة كما
بسطها وضبطها العلامة القرافي المالكي رحمه الله أنَّ المقصود بها (القاضي، القاضي
القاضي). وكلنا يعلم حقيقة مستوى حكامنا من الجانب الشّرعي حتى لا نحملهم ما لا
يطقون.
الحقيقة
الخامسة: أنَّ هذا مطلب وجه للحكام بما أناطه الله بهم من
مسؤوليات، ففي الأخير هم من لهم سلطة التّقدير، وتقرير المصالح والمفاسد لأيّ موقف.
التّعقيب الثّالث:
ثانيًا: تؤكد دار الإفتاء المصرية
أنّ دعم الشّعب الفلسطيني في حقوقه المشروعة واجب شرعي وإنساني وأخلاقي، لكن بشرط
أن يكون الدّعم في إطار ما يحقق مصلحة الشّعب الفلسطيني، وليس لخدمة أجندات معينة
أو مغامرات غير محسوبة العواقب، تجرُّ مزيدًا من الخراب والتّهجير والكوارث على
الفلسطينيين أنفسهم.
التّوضيح الثّالث:
حدد بيان دار الافتاء في النقطة الثّانية مُسلَّمات لا يُجادل فيها، ولكن للأسف
زايد فيها.
1_ الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ودعمها شرعا وإنسانيا وأخلاقيا،
بل وحتى قانونيا، لأنّه بلد محتل بنص القانون الدّولي.
2_ ثم جاء الاستدراك بشرط ما يُحقق مصلحة الشّعب الفلسطيني.
وهل مصلحة الشّعب الفلسطيني أن يبقى تحت الاحتلال ثلاثة وسبعين سنة ويزيد
(73).…؟
هل من مصلحة الشّعب الفلسطيني أن تصادر 82 % من أراضيه، ويُنازع على 18%
وهي مقطعة الأوصال.؟
هل من مصلحة الشّعب الفلسطيني أن يرزح تحت الاستدمار الصّهيوني وهو يلتهم أرضه،
ويُهتك عرضه، ويخرجه من وطنه؟
هل من مصلحة الشّعب الفلسطيني أن لا يعترف به لحد الآن على أنّه دولة وعاصمتها
القدس الشّريف؟
هل من مصلحة الشّعب الفلسطيني أن يصدر في حقه قرار أمريكي صهيوني لتهجيريه وإخلاء
أرضه؟
هل من مصلحة الشّعب الفلسطيني أن يبقى محاصرا لأكثر من 17 سنة من قبل إخوانه
من الدّول العربية، ولا تدخل له شربة ماء، أو خروجا للعلاج إلا بعد إذلال؟
فعن أيّ مصلحة تتحدثون في حق الشّعب الفلسطيني، وهو لم يأخذ حتى حقوق
الحيوان شرَّفكم الله.
3_ عن أيّ أجندات تتحدثون، وعن أيّ مغامرات تتذرعون؟، هل من يطالب بتحرير
أرضه لا يضع أجندة لإخراج جلاّده ومستدمريه؟، إذا كانت هناك أجندة واحدة في
المنطقة فهي أجندة إخراج المستدمر من أرضه بكل وسيلة ممكنة حسب ما قررته مواثيق
الأمم المتحدة، أنَّ البلد المحتل يقاوم محتله بكل ما أمكنه، لا أنَّ أصف المقاوم
بالإرهابي أو الدّاعشي أو المخرب وهو يدافع عن عرضه وأرضه، ما لكم كيف تفكرون؟
أما المغامرات غير المحسوبة، فعندكم حق، لأنّهم لم يضعوا في حساباتهم
الخيانة العربية، بأن يزود الكيان بالوقود والغذاء والسلاح من دول الجوار، ولم يضع
في حسبانه ظنًّا منهم أنْ يتعامل مع الشّرفاء، فيحاصروه ويضيقوا عليه، ولا يتركون
حتى الهواء يدخل لهم.
نعم في هذه عندكم حق فيها، لأنه لم يضع في حسبانه أن يتجسس عليهم إخوانهم،
ليس فقط من دول الجوار، بل السّلطة في الدّاخل تبيعه بأبخس الأثمان، وتقولوا لهم
عندكم الوقت للحصار والتّدمير، المهم لا تبقى حماس ولا السّلاح في القطاع، وبعد
ذلك نحن من يمسك القيادة، ويجعلون وسادة، ودوسوا علينا بالبيادة ونحن كلنا نخلص
لكم العبادة.
بهذه الاعتبارات الثلاث أنا معكم يا أصحاب البيان والالزام.
التّعقيب الرّابع:
ثالثًا: من قواعد الشّريعة
الإسلامية الغرَّاء أنَّ إعلان الجهاد واتخاذ قرار الحرب والقتال لا يكون إلا تحت
راية، ويتحقق هذا في عصرنا من خلال الدولة الشرعية والقيادة السياسية، وليس عبر
بيانات صادرة عن كيانات أو اتحادات لا تمتلك أي سلطة شرعية، ولا تمثل المسلمين
شرعًا ولا واقعًا، وأي تحريض للأفراد على مخالفة دولهم والخروج على قرارات ولي
الأمر يُعدُّ دعوة إلى الفوضى والاضطراب والإفساد في الأرض، وهو ما نهى عنه الله
تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
التّوضيح الرّابع:
الحقيقة الأولى: نعم الجهاد لابد من راية واضحة غير عمية، وأمير مجمّع
على السّير تحت قيادته.
الحقيقة الثّانية: أنّ
رؤساء الدّول هم من يمثلون أمراء الحرب بغض النظر عن استقامتهم الدّينية، أو شرعيّة
وصولهم عن طريق التّغلب، كما هو حال كثير من الأنظمة عن طريق الانقلابات أو تزوير
الانتخابات، ولكن يبقى حاكم بقوة الواقع بغض النّظر عن الشّرعية.
ولكن هنا يطرح سؤال: إذا كان الحاكم عميلا أو خائنا لوطنه مهدّد من طرف أعدائه
في خاصة نفسه، بسبب مصالحه الخاصة وعائلته، كما كان حال بشار الأسد في سوريا، حاكم
يستعين بدول كافرة لقمع شعبه وتفجيرهم بالبراميل، ويهادن الكيان الصّهيوني على
حساب شعبه، فأي شرعيّة له؟
أو رئيس السّلطة الفلسطينية عبّاس الذي لا يتحرك في الضّفة الغربية إلا بأذن
أبسط جندي في مغفر عسكر أو شرطة صهيوني، ثمّ يقوم بحصاره شعبه في جنين 41 يوما،
يقطع عنه الماء والكهرباء، ويُسلط عليهم العملاء بالإبلاغ عن كل بيت أو مقاوم ينصر
المقاومة، ثمّ يُسلم البلدة للعدو لكي يجرفها ويهتك أرضها وأعراضها.
فهل عن هذا النوع تتحدثون، أنك تقاتل تحت رايتهم، فهؤلاء لو يمد الله وفي أعمارهم
لا سلموا لهم نساءهم وبنانهم ولا تهتز لهم شعرة.
الحقيقة الثّالثة: هل
الاتحاد العالمي قال للشعب اِحمل السّلاح واقتحم الحدود؟، أم وجّه كلامه للشعب من
خلال حكامه .
نعم طالب الشّعوب بالضغط على حُكامها من خلال المسيرات والاحتجاجات، والوقفات،
وهذا مثل ما يحدث في أغلب البلدان الأوروبية ومن غير نكير، فلماذا عندنا نحن فقط
في الدول العربية تعتبر المسيرات والاحتجاجات والوقفات السلمية تستلزم الفوضى
والخروج على الحكام؟
ها هي أمريكا اليوم خرج 100 مليون أمريكي في الشّوارع ضدّ السّياسة
الاقتصادية لترامب، فهل رأيت القنابل المسيلة للدّموع؟، هل رأيت خراطيش المياه؟،
هل رأيت الاعتقالات؟
هي صورة من صور التّعبير عن الرّأي وإرسال رسائل
لمن يهمّه الأمر.
فلماذا نحن الدّول العربية استثناءً؟
والجواب: شتّان بين رئيس يصعد بالصّناديق
ورئيس يصعد بالبنادق.
وعليه: فالدّعوة للتّعبير عن الرّأي ليس خروجا عن الحكام، ولا نيّة في
الانقلاب وإنّما هي رسائل موجّهة لمن يهمه الأمر، أنَّ الشعوب غير راضية، ولو
فتحنا لهم الباب لأغرقوا الكيان بالبُصاق فضلا عن غيره ...
فرجاءً كفى مزايدة بهذه الأسطوانة المشروخة التي تستعملها الأنظمة الدّكتاتورية
منذ خروج المستعمرين من أوطانهم.
التعقيب الخامس:
رابعًا: إن الدعوة إلى الجهاد دون
مراعاة لقدرات الأمة وواقعها السياسي والعسكري والاقتصادي -هي دعوة غير مسؤولة
وتخالف المبادئ الشرعية التي تأمر بالأخذ بالأسباب ومراعاة المآلات، فالشريعة
الإسلامية تحث على تقدير المصالح والمفاسد، وتحذر من القرارات المتسرعة التي لا
تراعي المصلحة العامة، بل قد تؤدي إلى مضاعفة الضرر على الأمة والمجتمع.
التوضيح الخامس:
وفي هذه النّقطة حول الجهاد مغالطة صارخة، ألبت العامة وخاصة المَداخلة ومن
سار في ركبهم، أنَّ مفهوم النّفير العام هو كسر الحدود والانقلاب على الأنظمة،
وتجاوز ولاة الأمور.
وهذا كله تدليس، وتخليط، وتثوير للأنظمة، والشّعوب.
فإن فتوى الاتحاد العالمي واضحة ومحددة
المراتب والمآلات.
الحقيقة: أنّه يجب التّفريق بين جهاد الدّفع وجهاد الطّلب.
والذي
تتحدث عنه الفتوى هو جهاد الدّفع، ولا يختلف اثنان أنّ ما يقوم به إخواننا في أرض
الرّباط هو جهاد الدّفع بما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
والآية التي صدرنا بها هذا التّوضيح صريحة في هذا المقال من غير لبس ولا
تأويل،. قال تعالى :" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن
دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن
مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ (41) سورة الحج.
فالآية
في جميع مفرداتها تتحدث عما يقع لإخواننا في أرض الرباط، ولا أريد أن افككها لأقف
على هذه المعاني فيكفي اللبيب الإشارة عن التّصريح بالعبارة.
فهذا النّوع لا نعلم فيه مخالفا بين أهل العلم قديما وحديثا، أنّه لا يشترط
فيه إذن ولي الأمر، بعد أن يقتحم العدو أرضك ويستبيح عِرضك.
ثم أخذ مفهوم النّفرة يتوسع تدريجيا، أنّه يصبح فرض عين على أهل الضّفة
الغربية، فإنّ عجزوا، ننتقل إلى أهل أراضي 48 في المناطق المحتلة، فإن عجزوا أصبح
فرض عين على دول الطّوق الأقرب فالأقرب، مصر، سوريا، لبنان الأردن، فإن عجزوا انتقل
إلى بقية الأقطار.
فهل في هذا الكلام خروج عن قواعد الشّرع ومقاصد الأحكام؟، بل هو الفقه الحيّ
الذي يعُيد للأمة عزّتها ومجدها وشرفها.
التعقيب السادس:
خامسًا: من قواعد الشرع أن من
يدعو إلى الجهاد يجب عليه أولًا أن يتقدم الصفوف بنفسه، كما كان هدي النبي صلى
الله عليه وسلم في الغزوات بدلا من استثارة العواطف والمشاعر، تاركين غيرهم
يواجهون العواقب.
التوضيح السادس:
والله
تعجبت من هذا التعّقيب، كأن الذي كتبه صحفي أو خواطر العامّة وطروحاتهم.
دعوى أنّ العلماء يتقدمون الصّفوف والسيوف هذا شرف إذا وجدوا إلى ذلك
سبيلا، وما عز الدّين القسام عنكم ببعيد وأحمد ياسين ببعيد، فضلا عن كبار القادة
في الداخل والخارج رحمهم الله.
ولكن حتى لا يلبس على العامة، هل النّبي صلّى الله عليه وسلم شارك في جميع
الغزوات؟
عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع سواريه
63 غزوة، شارك منها في 28 غزوة فقط.
وهل في البقية نأى بنفسه وضحى بالصّحابة؟
هي طبيعة المعركة، فإذا أمكنتهم الفرصة تقدّموا،
وإذا لم تمكّنهم الفرصة نصحوا وحرضوا على القتال.
ولم نسمع في تاريخ الفقه الإسلامي، أنّه لابد للعلماء أن يتقدموا الحروب،
ولكن سمعنا أنّ الخلفاء والأمراء والوزراء والسّلاطين والحكام، هم من يتقدموا
المعارك.
فهذه شنشنة ساقطة بسقوط مستوى طرحها، وأمّا إلهاب العواطف من طرف العلماء
هذا واجبهم ومهمتهم "... حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ..." الأنفال – 65 - فهذا مطلوب ليكونوا وقودا للأقدام وكم
عرفتِ الأمّة من مسعري الحروب، الذين كانت أصواتهم توقف المعدوم، وتسمع الأصم.
التعقيب السابع:
سادسًا وأخيرًا: من الحكمة
والمقاصد الشرعية أن تتجه جهود الأمة الإسلامية نحو العمل الجاد من أجل إيقاف
التصعيد ومنع التهجير، بدلًا من الدفع نحو مغامرات غير محسوبة تُعمِّق الأزمة
وتزيد من مأساة الفلسطينيين.
وبناءً على ما سبق: تؤكد دار
الإفتاء المصرية ضرورة التحلي بالعلم والحكمة والبصيرة، وعدم الانسياق وراء شعارات
رنانة تفتقر إلى المنطق والواقعية.
والله تعالى أعلى وأعلم، وهو
الهادي إلى سواء السبيل"
التوضيح السابع:
إذا كان اختزال مأساة 16 شهر، في
ايقاف التصعيد ومنع التهجير، فبئس الأفق، نحن أمة المعالي، قال تعالى:" فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ (35) سورة محمد
وعن أي شعارات تتحدثون، هناك شعار
واحد، حسمه القران الكريم في قوله تعالى: هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) سورة آل عمران.
فهذا هو المنطق وهذه هي الواقعية
التي تتحدثون عنها واضحة في قوله تعالى:" وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ
الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) سورة النساء.
........هذا و
أسال الله عزوجل أن يغفر لي ولمشائخي من دار الإفتاء المصرية الموقرة، فالأزهر هو
منارة الإسلام، وهو شرف الأمّة.
وباسمي الخاص أتقدم بأسمى عبارات
التّقدير والاحترام لشيخ الأزهر العلامة أحمد الطّيب حفظه الله على مواقفه الصّارمة
والواضحة اتجاه قضايا الأمة.
ولا مستقبل لفلسطين من غير مصر، فمصر
هي بوابة الخير والنّصر والتّمكين
فاللّهم احفظها من كيد الكائدين ومكر الماكرين
يا رب العالمين. ويسر أمرها لتكون عونا للتّنفيس على إخواننا في أرض الرّباط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبه: أ.د / بلخير طاهري الإدريسي
الحسني المالكي الجزائري، عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وأستاذ
الشريعة والقانون جامعة وهران 1 الجزائر وهران.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر
عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.