حول تجاوز التجارب.. متى تكون الدعوى
مشروعة؟
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ونقصد بالدعوى هنا أو الدعوة، تجاوز الفكرة، أو المرحلة،
أو الهيئة، أو الطرح، إلى غيرها من الأفكار، والمراحل، والهيئات، والطروحات.
ترددت
في كتابة هذا العنوان، بأي اللفيطين أفضل؟ هل أكتب كلمة "الدعوى" هكذا
بالألف المقصورة، على اعتبار إن المقصود هو الكلام عن ادعاء وليس حقيقة؟ أم أكتيها
بالتاء المربوطة، باعتبار أن الموضوع متعلق بالدعو إلى ما ينبغي من أمور في حياتها
الثقافية والدعوية...؟ وكلا اللفظين مناسب للموضوع، من حيث هو يناقش مسألة ادعاء
ودعوة في نفس الوقت، لتبني أفكار يراد لها أن تتحقق... وفي الأخير استقر الأمر على
اختيار لفظ "الدعوى" لمناقشة ادعاء لم تكتمل أركانه، بما يعني أن فكرة
الدعوة لهذا الأمر غير قابلة للتنفيذ لكونها مضادة لطبائع الأشياء، أو قل يتعذر
تنفيذها لأسباب موضوعية.
وهذه
الدعوى هي الدعوة إلى تجاوز بعض الطروحات والأفكار وفتح المجال لغايات سامية جديرة
بالظهور وتعرُّف الناس عليها!
عندما
كنت في قيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خلال سنوان 2008/2019، كنت
حريصا على إحياء أدبيات الجمعية التاريخية وخطاب الماهدين، فيما تركوا لنا من نصوص
وتنظيمية للجمعية وأفكار ومناهج تربوية ودعوية، ومنهم على وجه الخصوص عماد الجمعية
فكرة وممارسة وسلوكا: الشيخان عبد الحميد ابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، اللذان
خلفا لنا تراثا هاما مطبوعا في ثمانية مجلدات، لا تزال أفكارا قابلة للإستثمار
والدراسة والإفادة منه، إعتقادا مني أن أدبيات رجال النهضة خلال القرن التاسع عشر
والنصف الأول من القرن العشرين، كانت متطورة جدا على طروحات الذين جاؤوا من بعدهم،
وفي مستوى التحديات المطروحة يومئذ، على خلاف ما ظهر بعد ذلك من خطابات ضعيفة
متقهقرة... ولكم أن تقارنوا بين اهتمامات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
والكواكبي والبنا وابن باديس وغيرهم كثير، وبين خطاب أبناء الصحوة وشعاراتها من
بداية الستينينات وما بعدها... ستدركون الفرق جليا؛ بل إن من تعلق بذلك الخطاب
الحضاري العام الذي يتبنى الفكرة الإسلامية ببعدها الإنساني العالمي، اتُّهم في
نيته، مثلما وقع مع الأستاذ مالك بن نبي الذي اعتبر عند البعض مجرد ناقل للفكر
الغربي ومتأثر به، ولكنني فوجئت بأن شباب
الجمعية أو بعضهم، يرى أن خطاب الماهدين من رجال الجمعية قد تجاوزه الزمن،
والجمعية اليوم لها اهتماماتها وانشغالاتها وأولوياتها ومن ثم فإن ما تحدِّثنا عنه
قد تجاوزه الزمن... وسمعت ذات يوم من أحد الذين كتبوا عن فكر مالك بن نبي يقول: لا
ينبغي أن نبقى حبيسي بن نبي ولا بد من أن نتجاوزه!!
والموضوع
كما ترون مهم، وفي كلام كل واحد من هذه الفئات شيء من الحقيقة المعتبرة، ومن الصدق
والحرص على الانتقال بالأفكار إلى الأعلى والأوفق والأنفع... وهذا الشيء من الحقيقة
والصدق وحسن النية، لا يكفي في مثل هذه الأمور، لاعتبارين
إثنين هما:
أولا: أن الخطاب الإسلامي قد تقهقر كثيرا، خاصة بعد سقوط
الخلافة، حيث فقدت الأمة الكثير من روافد النخبة التي على عاتقدها النهوض
بالأمة... فتضاءل الفكر من مستوى النهوض بالأمة ومراجعة المناهج وسبب النهوض، إلى
مناقشقة المسائل الفقهية والموازنة بين الفاضل والمفضول والاجتهاد في القضاء على
المسائل الخلافية...، وفي كل ذلك خير، ولكن لمنطق الأولويات سلطانه الذي لا يسمح
بالانتقال من حال إلى حال إلا بشروط لم تتوفر.
ثانيا: أن بعض الذين انتبهوا إلى الاختلالات
الكبيرة الحاصلة في الأمة، لم يرتق بهم انتباههم إلى استيعاب هذا ذلك الذي نريد
تجاوزه، في مثالنا لخطاب جمعية العلماء ومالك بن نبي.
ولنا
مثال آخر في تاريخنا الثقافي وهو الدعوة لفتح باب الاجتهاد... وتجاوز بعض
المفكرين... والعلماء... والحركات الإصلاحية... وهي دعوات لها جانب من الحق، ولكن
هل حقيقة أن مشكلاتنا في غلق باب الاجتهاد؟ وهل من ادعى فلانا من الناس مُتجاوز
دعوى صحيحة؟ وهل كل التجارب التي خاضتها الأمة ينبغي تجاوزها؟
إن
قانون التجديد في حركة المجتمعات والتاريخ، يقرر بالفعل استبعاد كل ما انتهت
صلاحيته من الساحة، واستباله بما هو خير منه، حتى لا تبقى الأمة تجتر الميت من
الأفكار والتعلق بالأشخاص والتجارب الفاشلة.
فهل
ما يدعو إليه البعض ممن ذكرنا، يدخل في هذا الإطار التجديدي المقرر سننيا؟
في
تقديري أن تلك الدعاوى، لا علاقة لها بما يغرره قانون التجديد لاعتبارات موضوعية،
منها على وجه الخصوص استيعاب الواقع والأفكار والتجارب... فمثلا من يدعو إلى فتح
باب الاجتهاد، لا أظنه جادا أو صادقا مع نفسه؛ لأن باب الاجتهاد لا يمكن غلقه، وإن
ادعى من ادعى ذلك كما روي عن بعض علمائنا، وإنما يتعطل عندما لا يكون هناك مجتهدون،
وعندما يوجد المجتهد فإنه يكسر الأبواب إذا كانت مغلقة، وكذلك من يدعى تجاوز
الرجال والأفكار أو الحركات الإصلاحية.
فالشباب
المنتمين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ويدعون أن أدبيات الجمعية التاريخية
قد تجاوزها الزمن، أنا متأكد أنهم لم يستوعبوا أدبيات الجمعية، فضلا عن أن
يتجازوها...، واقرأوا إن شئتم الوثيقة التي وضعها ابن باديس تحت عنوان "أصول
دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وهي المعروفة بالأصول العشيرن لابن
باديس، فقد تناول فيها مسائل –قد حسم فيها الشيخ- وكانت محل جدل بيننا في سبعينيات
وثمانينيات القرن العشرين...، ولا تزال بقايا منها إلى اليوم.
في
إحدى المناسبات جلست إلى مجموعة من الشباب وطلبوا مني أن أحدثهم عن مالك بن نبي،
فسألتهم وكيف تعرفتم عن بن نبي، فقالوا لي إن أحد أساتذتهم كان يحثهم على
قراءته... فقالوا... فقرأنا بعض كتبه، ولكننا شعرنا أننا لم نفهم كل شيء! فأردنا أن نغتنم هذه الفرصة
وأنت جزائري ربما تقرأ له باللغة الأصلية التي كتب بها وهي الفرنسية... فكانت جسلة
طيبة، وقد افتتحتها بأن لغة مالك بن نبي، لغة علمية ومن طبيعة اللغة العلمية أنها
شحيحة، مثل المتون عند القدامى فيما يعدونه للحفظ في كل العلوم، من نحو وفقه مصطلح
وأصول...إلخ، ومن أراد أن يفهم مالك بن نبي فعليه أن يقرأ كل كتبه؛ لأن المفردات
الأصلية الأساسية لمنظومته الفكرية يُفصِّل فيها في مجموع كتبه بطرق مختلفة، ومن
يقرأ كل كتبه يصل إلى المعاني الأشمل في الموضوع الذي يتكلم فيه. وقد عجبت للأستاذ
جودت سعيد ذات مرة عندما قال لي إنني قرأت كتاب الفكرة الآفروآسيوية أكثر من عشر
مرات! أما
فيما يتعلق بجمعية العلماء، فقد لاحظت أن ما كتبه الابراهيمي وابن باديس، لا يزال
يحتاج إلى دراسة؛ لأن فيه من الفكر العميق، ما لا أجده في الكثير من طروحات
الإسلاميين على متسوى التنظيمات وخطابات الفاعلين في الساحة الإسلامية.
إن
مشروعية التجاوز تستمد قوتها من الاستيعاب، بحيث لا يمكن نتجاوز الشيء إلا بعد
استيعابه، وذلك بفهمه والتشبع به بحيث يصبح التجاوز مطلبا...، أما قبل ذلك فلا
يمكن أن تكون الدعوة إلى التجاوز معقولة ولا مقبولة، لا سيما ومثلنا بالنسبة
لأسلافنا الذين نريد تجاوزهم، إلا كمثل الأقزام مع العماليق، فلا نرى ما يرون إلا
عندما نصعد على أكتابهم،
وإلا سيكون التجاوز بمثابة القفز وحرق المراحل، الذي ليس بعده إلا الإخفاق المحقق
والفشل الحتمي.
وإذا
كان البحث العلمي في المؤسسات الأكاديمية، يتطلب البحث والتنقيب، حتى يتوصل المرء
إلى الإضافة والإبداع، فإن الجانب العملي أيضا يتطلب من المفكر والمناضل والناشط
في الشأن العام، الإحاطة بالفكرة أو البرنامج أو المشروع، للوصول إلى أن ذلك قد
استنفذ ما فيه وما عنده من عطاء، حتى يتمكن من الإضافة الفاعلة والمثمرة، وإلا كان
مكررا لغيره ولما قيل وما فُعِل وما عُمِل. والتكرار ليس تجاوزا وإنما تكرار يثقل
كاهل الأمة ويبقيها في مربعها الذي تريد الخروج منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.