إلى أين يذهب
الحزن؟
بقلم: د.
منذر القضاة
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
هو سؤال عميق؛ فالحزن شعور إنساني، وقد يختلف تأثيره ومكانه من
شخص لآخر وهو يصيبنا جميعاً في
بعض الأحيان.
وقد يكون الحزن بادٍ على صفحات وجهك، لا يخفى على المقربين منك،
وكلنا قاسينا الفقد، أو الإحباط أو الخذلان وخيبات الأمل، والحزن يأتي كاستجابة
لهذه المشاعر.
لكن إلى أين يذهب هذا الحزن؟
وقبل الإجابة على ذلك دعونا نتعرف إلى آيات ورد فيها
"الحزن"
لقد وردت آيات فيها كلمة الحزن ومشتقاتها في القرآن الكريم،
وسنذكر ثلاث صور في القرآن الكريم لثلاثة أشخاص أصابهم عارض الحزن على بلاء وقع لهم؛ فالحزن من طباع البشر:
الصورة
الأولى: حزن النبي يعقوب -عليه السلام-:
نبي الله يعقوب - عليه السلام - وصل حزنه على ولده يوسف عليه
السلام لدرجة أنه فقد بصره من كثرة البكاء وشدة الحزن عليه؛ فنبوة يعقوب -عليه
السلام- لا تلغي طبيعته البشرية، والإنسان الطبيعي هو الذي يحزن للمصائب التي يصاب
بها.
قال الله تعالى: ﴿وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ
عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [سورة يوسف: الآية 84]،
أَيْ: أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ وَقَالَ مُتَذَكِّرًا حُزنَ
يُوسُفَ الْقَدِيمَ الْأَوَّلَ: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ جَدَّد لَهُ حزنُ
الِابْنَيْنِ الْحُزْنَ الدَّفِينَ.
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ كَمِيدٌ حَزِينٌ.
(تفسير ابن كثير - ابن كثير ٧٧٤ هـ).
وفي آية أخرى قال الله تعالى حكاية عن نبيه يعقوب -عليه السلام-: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى
اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)﴾ [سورة يوسف: الآية 86]، إنَّما ﴿أشْكُو بَثِّي﴾ والبَثُّ أشَدُّ الحُزْنِ، سُمِّيَ
بِذَلِكَ لِأنَّهُ مِن صُعُوبَتِهِ لا يُطاقُ حَمْلُهُ فَيُباحُ بِهِ ويُنْشَرُ
﴿وحُزْنِي﴾ مُطْلَقًا وإنْ كانَ سَبَبُهُ خَفِيفًا يَقْدِرُ الخُلُقُ عَلى
إزالَتِهِ ﴿إلى اللَّهِ﴾ أيِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وقُدْرَةً
تَعَرُّضًا لِنَفَحاتِ كَرَمِهِ، لا إلى أحَدٍ غَيْرِهِ .
(تفسير نظم الدرر للبقاعي - البقاعي ٨٨٥ هـ).
الصورة
الثانية: حزن أم موسى -عليه السلام-:
وهذه أم موسى التي أصابها الحزن على ابنها موسى، ولقد ابتليت
هذه المرأة بموقف من أشد المواقف وأصعبها فثبتت فيه، وظهرت بشخصيتها من خلال
الأحداث التي ذكرها الله تعالى في سورة القصص.
قال الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ
أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي
وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(7)﴾ [سورة القصص: الآية 7]،
﴿ولا تَحْزَنِي﴾ أيْ: ولا يُوجَدْ لَكِ حُزْنٌ لِوُقُوعِ
فِراقِهِ. ولَمّا كانَ الخَوْفُ عَمّا يَلْحَقُ المُتَوَقَّعَ، والحُزْنُ عَمّا
يَلْحَقُ الواقِعَ، عَلَّلَ نَهْيَهُ عَنِ الأمْرَيْنِ، بِقَوْلِهِ في جُمْلَةٍ
اسْمِيَّةٍ دالَّةٍ عَلى الثَّباتِ والدَّوامِ، مُؤَكِّدَةً لِاسْتِبْعادِ
مَضْمُونِها: ﴿إنّا رادُّوهُ إلَيْكِ﴾ فَأزالَ مُقْتَضى الخَوْفِ والحُزْنِ؛ ثُمَّ
زادَها بُشْرى لا تَقُومُ لَها بُشْرى بِقَوْلِهِ: ﴿وجاعِلُوهُ مِنَ
المُرْسَلِينَ﴾ أيْ: الَّذِينَ هم خُلاصَةُ المَخْلُوقِينَ. (تفسير نظم الدرر
للبقاعي - البقاعي ٨٨٥ هـ).
الصورة
الثالثة: حزن مريم أم عيسى -عليه السلام-:
وهذه مريم التي أصابها الحزن لما ولدت ابنها عيسى،، قال الله تعال: ﴿فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَاۤ أَلَّا تَحۡزَنِی
قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِیࣰّا﴾ [سورة مريم: الآية 24]
لَمَّا سَمِعَ كَلَامَهَا وَعَرَفَ جَزَعَهَا نَادَاهَا أَلَّا
تَحْزَنِي (تفسير البغوي - البغوي ٥١٦ هـ)
﴿ألّا تَحْزَنِي﴾، أيْ أنَّ حالَتَكَ حالَةٌ جَدِيرَةٌ
بِالمَسَرَّةِ دُونَ الحُزْنِ لِما فِيها مِنَ الكَرامَةِ الإلَهِيَّةِ
(تفسير التحرير والتنوير - ابن عاشور ١٣٩٣ هـ).
وفي قصص
الصالحين أئمة الهدى:-
قال الذهبي – رحمه الله - في كتابه سير أعلام النبلاء وهو يروي
اللحظات الأخيرة للإمام أحمد بن حنبل على لسان ابنه صالح -رحمهم الله-.
وقال صالح: (...فلما كان قبل وفاته بيوم أو يومين، قال: ادعوا
لي الصبيان، بلسان ثقيل. قال: فجعلوا ينضمون إليه، وجعل يشمهم ويمسح رءوسهم، وعينه
تدمع، وأدخلت تحته الطست، فرأيت بوله دما عبيطا. فقلت للطبيب، فقال: هذا رجل قد
فتت الحزن والغم جوفه. واشتدت علته يوم الخميس ووضأته، فقال: خلل الأصابع، فلما
كانت ليلة الجمعة، ثقل، وقبض صدر النهار، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى
كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع). (سير أعلام النبلاء)
أمَّا أين يذهب الحزن؛ فقد يذوب الحزن في تفاصيل الحياة
اليومية، أو يختلط بأفراح صغيرة تطفئه رويداً، وحين نشارك الحزن مع من نثق بهم،
يتوزّع ثقله، وكأنه ينتقل من القلب إلى قلوبٍ تحمله معنا، ويمكن أن يذهب الحزن إلى
الذاكرة مما يؤدي إلى تذكر الأحداث المؤلمة وتجربة المشاعر السلبية مرة أخرى، يمكن
أن يذهب الحزن إلى اللاوعي، حيث يمكن أن يؤثر على سلوكنا ومشاعرنا دون أن نكون على
دراية بذلك، ويمكن أن يظهر الحزن على الجسد، مثل التعب، الصداع، أو مشاكل في
النوم.
ومن الأدعية التي تذهب الهم والحزن:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ
إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ
والبُخْلِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ". (صحيح البخاري: رقم الحديث 6369).
وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم -بالتلبينة وهي حساء
يُصنع من الدقيق أو النخالة "التَّلْبِينَةُ
مَجَمَّةٌ لِفُؤادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ ببَعْضِ الحُزْنِ". (صحيح البخاري: رقم الحديث 5417).
وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. منذر القضاة. عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين. عضو رابطة علماء الأردن.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا
تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.