وقفات مع منهج الدكتور
الهلالي في الفتوى (1)
بقلم: إسماعيل فيوض
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
مع ظهور القنوات الفضائية ومواقع
الشبكة العنكبوتية أصبحت الفتوى تتجاوز حدود الأقاليم والبلدان، تقال الفتوى على الشاشات فتطير بذكرها الركبان،
ويتناقلها الصغير والكبير، والمثقف والأمي.
ولا شك أن في هذا خيرا كثيرا، وفوائد جمَّة،
ولكن مع هذا الخير شر، فقد أظهرت لنا الشاشات نوعين من المفتين:
الأول: مفتي مذهبي، لا يذكر
إلا مذهبا ورأيا واحدا، دون الإشارة لخلاف، فضلا عن الترجيح بين الآراء.
والنوع الآخر: مفتي يتوسَّع في ذكر
جميع المذاهب الفقهية، وربما تجاوزها إلى آراء الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان،
وكل قول في المسألة إلى عصرنا الحاضر.
غير أنه من هذا النوع من المفتين من يذكر الآراء دون
تمييز بين الراجح والمرجوح، والضعيف والشاذ، أو بين فتوى على سبيل الاستثناء والرأي
الفقهي المستقر، وتنبيه المشاهدين على ذلك. بل يذكر الآراء مجردة عن الدليل
الذي اعتمدت عليه، ويترك مسألة الترجيح والاختيار للجمهور، يختار من هذه الآراء ما
يشاء، وَفْق الهوى، أو الورع، أو التفضيل الشخصي، أو الميل القلبي.
ويتزعم هذا الفريق د. سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه
المقارن بجامعة الأزهر، ومن العجيب أنه يذكر الآراء الفقهية الشاذة والمهجورة والمتروكة
جنبا إلى جنب مع الآراء المعتبرة!
ويقول للمستفتي: أنا لست وصيا دينيا حتى أقول رأيي.
بل
إنه يطالب العلماء والوعاظ أن يحذوا حذوه، حتى لا يكونوا أوصياء على الدين!!
مُغفلا أن
أغلبية الناس لا تستوعب قضية الخلافات الفقهية، ومنهم بسطاء وأميون لا يستطيعون فهم
الآراء والأدلة، فضلا عن الاختيار بينها!!
وإذا كان في الناس من يستفتي قلبه ويترك ما حاك في
صدره، ومنهم من يتورع عن الحرام، ويجعل بينه وبينه حاجزا بترك الشبهات، بل بترك
بعض الحلال خوفًا من الوقوع في الحرام، فإن منهم كذلك صاحب الهوى، والفاسق، والمبتدع،
وأعداء الدين، الذين يأخذون بعض الفتاوى على سبيل التندُّر والسخرية أحيانًا. وفي
الأثر الذي رواه البخاري عن علي رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرفون،
أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله"؟!
ولي
على مسلك الدكتور الهلالي ثمان ملاحظات:
أولًا:
المفتي خبير في علوم الشريعة، وليس وصيا ولا كاهنا:
المفتي موقِّع عن الله، أي: مبيِّن لحكمه من خلال تخصصه
في علوم الدين، وليس وصيا على الناس ولا كاهنا، مثله مثل كل المتخصصين في العلوم التجريبية،
والإنسانية، والأدبية، والفلسفية.
وفي ذلك يقول الشاطبي: (المفتي هو القائم في
الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم) [الموافقات (5/253)]. أي يعلِّمها أحكام
الله سبحانه وتعالى كما علَّم النبي صحابته.
ويعرف ابنُ
حمدان الحنبلي المفتيَ بقوله: (هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله ...
وقيل: هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعا بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه) [صفة
الفتوى صـ4].
وهذه التعريفات وغيرها مما ذكره العلماء في كتبهم توضِّح
أن المفتي مخبر عن حكم الله سبحانه وتعالى في هذه المسألة أو النازلة بمقتضى تخصصه
في علوم الدين.
وقد وضع العلماء للمفتي شروطا منها: أن يكون مسلمًا،
ثقة، مأمونًا، متنزهًا عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة، كما في كتب (آداب المفتي
والمستفي) و(كتب أصول الفقه).
ويعقد ابن القيم موازنة بين الحاكم (أي القاضي) والمفتي
والشاهد فيقول: (كلٌّ منهم مخبر عن حكم الله؛ فالحاكم مخبر منفذ، والمفتي مخبر غير
منفذ، والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري؛ فمن أخبر
منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدا) [إعلام الموقعين (4/133)].
ثانيًا: هل يجوز عرض المسألة على العامة
دون ترجيح؟
في بعض النوازل والفتاوى الجديدة يكون دور المفتي هو الاجتهاد لمعرفة
حكم الله تعالى فيها، وفي بعض القضايا المشهورة التي يكثر السؤال عنها يكون دوره
هو نقل الحكم الشرعي المعروف سلفًا لمن يجهله، ثم يرجح أحد هذه الأقوال تبعا لقوة
الدليل، مراعيا الواقع وما طرأ عليه من تغير. لا أن يترك المفتي المستفتي حائرًا بين
مجموعة من الآراء الفقهية القديمة التي حكاها، مكلفا إياه بما لا يطيق، ولم يتأهل
له، من ترجيح بين الأقوال، والبحث عن الأدلة، واختيار الرأي الصحيح، إذ لو كانت
لديه هذه القدرة لما سأل.
يقول الإمام الشاطبي: (عامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما
تدور بين النفي والإثبات، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛
فهو قائل له: أخرجني عن هواي، ودلني على اتباع الحق. فلا يمكن - والحال هذه - أن
يقول له (أي المفتي): في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت!
فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول
(المستفتي): ما فعلت إلا بقول عالم. لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس
وقايةً عن القال والقيل، وشبكةً لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليطُ المفتي العامي على
تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه: رمي في عَماية، وجهل بالشريعة، وغش في
النصيحة. وهذا المعنى جارٍ في الحاكم وغيره، والتوفيق بيد الله تعالى). [الموافقات
(5/97)].
فانظر إلى شناعة الوصف الذي وصف به الشاطبي هذا المسلك: رمْي في عَماية،
وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة. نعوذ بالله تعالى من ذلك.
يتبع المقال..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة
تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.