معركة الهوية ومؤسساتنا الإسلامية
كتبه: أ.د. جمال عبدالستار
الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
في ظل
المتغيرات المتسارعة والتحولات العميقة التي يشهدها العالم المعاصر، تقف الأمة
الإسلامية على مفترق طرق حضاري، تواجه فيه موجات هائلة من التحديات الفكرية
والثقافية، وضغوط العولمة، وسياسات التغريب الناعمة، التي تستهدف جوهر كيانها
العقدي والثقافي، هذه التحديات لا تمس الهامش، بل تضرب عمق الذات، فتسعى إلى تفكيك
المرجعيات، وإعادة تشكيل أنماط التفكير، وطمس الخصوصية الحضارية باسم الانفتاح
والتحديث.
تجد
الأمة نفسها اليوم في معركة وجودية، عنوانها الكبير «الهوية»، لم تعد المسألة
مرتبطة فقط بالسيادة أو الموارد أو السياسات العامة، بل بماهية الإنسان المسلم،
وعلاقته بدينه، وثقافته، وتاريخه، ودوره الحضاري، وفي هذه اللحظة الفارقة، تبرز
المؤسسات والمنظمات الثقافية الإسلامية بوصفها الحصن الأخير للدفاع عن الذات،
والمخزون الإستراتيجي لإحياء الأمة.
المؤسسات الثقافية مدعوة لدعم البحوث وتطوير المناهج الدراسية
وإنشاء مراكز الفكر والتاريخ الحضاري
يُقرّ
القرآن الكريم قانون المدافعة بوصفه سُنة إلهية وقانوناً تاريخياً لازباً، تستمر
به حركة الحياة، ويُحفَظ به الخير، وتُرد به عاديات الباطل: (وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) (الحج: 40)، وإذا كانت المدافعة في الأمس
تجلّت في ساحات السيوف، فإنها اليوم تشتد وتتعقد في ميادين الفكر والقيم والهويات،
وهنا تبرز مسؤولية المؤسسات الثقافية الإسلامية، في إعادة تموضعها ضمن خريطة
الصراع الحضاري، لا بوصفها أدوات تعليمية تقليدية، بل كفاعلين إستراتيجيين في
معركة الوعي.
المهام المركزية للمؤسسات الثقافية في صيانة الهوية
1- ترسيخ الانتماء الواعي للإسلام:
الانتماء
الحقيقي لا يتحقق عبر الشعار ولا الوراثة، بل من خلال فهم عميق للإسلام من مصادره
الأصلية؛ القرآن والسُّنة، بمنهجية واعية، بعيدة عن الغلو أو التفريط، وعن
التصورات الموروثة التي شابها التحريف أو الجمود، ينبغي أن يُعاد تقديم العقيدة
الإسلامية بوصفها منظومة متكاملة للوجود، تجيب عن أسئلة الإنسان الكبرى، وتفتح
أمامه أفقاً روحياً ومعرفياً وسلوكياً متماسكاً.
وهنا
تبرز ضرورة تجديد الخطاب العقدي، وتحريره من الجدل الكلامي التقليدي، والانطلاق
نحو تقديم العقيدة بمضامين قرآنية إيمانية، تتكامل مع فطرة الإنسان، وتُشبع حاجاته
الفكرية والروحية.
2- بناء الوعي بالثوابت والمتغيرات:
الخلط
بين الثوابت والمتغيرات أدى إلى ارتباك واسع في الفهم والسلوك، إذ لم يعد كثير من
المسلمين يميّزون بين ما لا يتغير بتغير الزمان والمكان، وما هو مجال لاجتهاد
وظرفية التقدير، هنا تبرز مهمة المؤسسات في بناء منهجية علمية رصينة تفرّق بين
القطعيات والظنيات، وتُربّي الأجيال على فقه السنن، وفقه المآلات، والقدرة على
التفاعل الرشيد مع الواقع دون التفريط في الأصول.
3- حماية اللغة العربية:
اللغة
ليست أداة تواصل فحسب، بل هي حاملة للمعنى، حافظة للهوية، مرآة للثقافة، واللغة
العربية بالذات هي وعاء الوحي، ورافعة الأمة في تاريخها المجيد، غير أن العربية
اليوم تواجه محاولات ممنهجة للتهميش والإزاحة من ساحات التعليم والإعلام؛ لذا فإن
إن إحياء العربية، وربطها بالإبداع العلمي والفكري المعاصر، مهمة جوهرية في معركة
الهوية.
4- دعم الإنتاج الفكري والثقافي الإسلامي:
لا يمكن
حماية الهوية من دون عقل ينتج المعرفة من مرجعية إسلامية، والمؤسسات الثقافية
مدعوة لدعم البحوث الأصيلة، وتطوير المناهج الدراسية، وإنشاء مراكز دراسات متخصصة
في الفكر الإسلامي، والتاريخ الحضاري، ومقارنة الأديان، والدراسات الاستشرافية.
نحو أفق إستراتيجي
إن معركة
الهوية تتطلب مشروعاً حضارياً متكاملاً، يتجاوز رد الفعل إلى بناء الفعل، ولا سبيل
إلى ذلك إلا بإعادة هندسة العمل الثقافي الإسلامي، من خلال:
- صياغة
خطاب علمي عقلاني، يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، بعيداً عن التحريف، والتجريف، والتهويل،
والتهوين.
الأمة لا تعيش أزمة نصوص، بل أزمة فهم ولا تعاني من قلة الإمكانات،
بل من ضعف التخطيط وسوء التوظيف
- ترسيخ ثقافة العمل المؤسسي
والتكامل بين الجهات، فما تزال أكثر المؤسسات تعمل كجزر معزولة لا رابط بينها، ولا
تعاون بناء يبرز صدق الاصطفاف في خندق المدافعة عن الهوية والثوابت، ونسيان ألوان
الرايات والشكليات والمسميات، في الوقت الذي يرمينا العدو عن قوس واحدة رغم تباين
معتقداتهم ولغاتهم!
- استثمار التقنيات الحديثة في توسيع التأثير
الثقافي والتعليمي، فالأمة تحتاج إلى النموذج العملي التطويري وليس مجرد نظريات لا
واقع لها، وتطلعات لا سعي خلفها، وأماني لا جهود لتحقيقها.
- ربط
العمل الثقافي بحاجات الواقع ومستقبل الأمة.
ففي زمن
التفكك والارتباك، تصبح المؤسسات الثقافية الإسلامية منارات هادية، وصمامات أمان
فكرية، وقلاعاً حضارية، والمسؤولية التاريخية تقتضي أن يتحول خطابها من الدفاع عن
الماضي إلى الإسهام في صناعة المستقبل، من اجترار التراث إلى توليد الفكرة، من
التنظير إلى الفاعلية.
إن الأمة
لا تعيش أزمة نصوص، بل أزمة فهم، ولا تعاني من قلة الإمكانات، بل من ضعف التخطيط
وسوء التوظيف، فهل تنهض المؤسسات بواجبها؟ وهل يدرك القائمون عليها أن وقت التراخي
قد انتهى؟
إنها
معركة الوعي، من ينتصر فيها، هو من سيكتب الصفحة القادمة من تاريخ الأمة.
وفي خضم
هذا الزمان المضطرب، يلزم كل رائدٍ وصاحب رسالة أن يضع يده على صدره ويقول بثبات:
أنا لها.
أنا
للأمة في خندق هويتها، صخرة تتكسر عليها معاول التغريب والتخريب.
أنا
زادها إذا أظلمت المسالك، ومأواها إذا تتابعت رماح الشبه.
أنا طريق
النجاة حين يضيع الاتجاه، وأنا طليعتها إذا ارتبك الركب.. أنا الرائد.. ولا يكذب
الرائد أهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.