استثمار الثوابت واستحصال المتغيرات
بقلم: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عاشت
الإنسانية في عهودها المتأخرة موجات من المتغيرات تكاد تعصف بكيانها وتقلعها من
جذورها وتحرمها من كرامتها وتمسخها مسخا وتقلبها إلى كيان آخر أرذل من البهائم. موجات
من المفاهيم والممارسات والسياسات ضد الثوابت الفطرية الإسلامية.
لقد
انبرى الغيورون للدفاع عن الثوابت في مواجهة تلك الموجات العاصفة... إلا أننا
بإمكاننا أن نصعد تلك المواجهة من موقع الدفاع إلى مرحلة الهجوم.
إن
ثوابتنا ليست أصولا جامدة ولا نصوصا ميتة، بل هي جذور راسخة حية، وجذوع شامخة لها
أغصان وارفة، وأشجار باسقة مثمرة ﴿أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الرعد:
24-25]
إن
هذه الثوابت لها قوة دافعة، وحيوية محركة، وطاقة ذاتية متنامية. فمن عاش بها وعاش
لها اكتسب منها البركة، والنماء، والرفعة، والظهور.
قال
عليه الصلاة والسلام: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ
بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ."
فدفاعنا
عن ثوابت الإسلام دفاع عن وضع كُتب له الظهور، والنصر، والتمكين، والتمدد.
قال
عليه الصلاة والسلام: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا
أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا
يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ."
وذلك
مصداق قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:
33، الصف: 9]
وهذا
التفاؤل الذي بثه القرآن الكريم والحديث النبوي لا يؤخذ منه التخدير والاتكال، بل
هو شحذ للهمة ودفعة نحو التقدم والاندفاع الواثق.
وما
نراه في أيامنا من تغول موجات الهجوم على الثوابت ما هو إلا فصل من فصول المواجهة
الطويلة التي ستنتهي بانتصار الحق وثبات الدين وظهور أهله بإذن الله تعالى. قال
تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم:
27]
وبناء
على كل ذلك فإن أمامنا فرصة سانحة لتطوير مواجهتنا لتلك المتغيرات الفاسدة المفسدة
من حالة الوقوف على خطوط الدفاع إلى مرحلة التقدم نحو التغيير وإحداث المتغيرات
المضادة.
قد
يهولنا تلك القوى المادية التي تقف وراء المتغيرات الفاسدة المفسدة، ولكن ثوابتنا
ليست مخلوقات ضعيفة مسكينة تحتاج إلى الشفقة، بل هي مصدر قوتنا وسبب انتصارنا،
فالقرآن منابع الأنوار ومصادر العلوم وباعث الأرواح ومفجر الطاقات، وهدي نبينا صلى
الله عليه وسلم مخزن العلوم ومنابع الحكم ومناهل الأفكار ومولد الإلهام ومحيي
الأرواح وباعث الحياة. والإسلام دين الفطرة التي تنسجم معها قوى الكون مجتمعة
ويرتطم إزاءها كل فساد ناشز. قال تعالى: ﴿إِنَّ
اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس:
81-82]
يجب
أن نستثمر هذه الثوابت استثمارا نستحصل منه حصادا من أمواج حركات الإصلاح الفطري، فإن
البشرية اليوم قد رأت في الإسلام منقذا لها وموئلا آمنا لها من شقاء الانحراف عن الفطرة
والمنطق السليم.
إن
إظهار الثوابت كأدوات الإنقاذ وكمصادر السعادة وطرق العيش الكريم لهو مكسب كبير
وربح عظيم ومقام حميد لكل من التجأ إليها واحتمى بها من لهيب الخواء الروحي
والانهيار الأخلاقي والتفكك الاجتماعي.
"إن
الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها..." تلك الكلمات أطلقها صاحب
الظلال رحمه الله كانت ملهمة وكاشفة عن مدى عظمة هذه المنحة السماوية، ومثلها هدي
نبينا الكريم ونور ديننا القويم.
ثم
إن التمسك بثوابت الدين ليس عبارة عن حياة جامدة وحالة واقفة، بل هي حالة متحركة
وحركة متقدمة نحو التغيير الإيجابي. والتمسك بالثوابت يدفع الإنسان إلى تحسين
الأحوال، فإن القرآن يرشدنا نحو التغيير، قال تعالى: ﴿إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:
11]
ومن
الخطأ فهم هذه الآية كتحذير فقط من التغير السلبي. وإن كانت الآية تحتمل معنى حدوث
التغير السلبي بسبب قيام الإنسان بالتغيير السلبي، ولكن المطروح هنا ليس التخيير
بين حدوث التغيير السلبي وبين التمسك بالحالة الراهنة، بل المطروح ضرورة إحداث
التغيير الإيجابي لنحصل على حدوث التغيير نحو الأحسن.
وهذه
هي روح القرآن التي تدفع الإنسان إلى الحركة الدائمة نحو الأحسن، قال تعالى: ﴿إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف:
7] وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2] فهذه الحياة جعلها الله مسرحا
للسعي نحو الأحسن.
والتمسك
بالثوابت والدفاع عنها من الإيمان والتقوى اللذان يجلبان البركة في الدنيا قبل
الآخرة، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96] فهذه من ثمرات التمسك بالثوابت
واستثمارها في حياتنا الدنيا. فهي تحسن الأحوال وتصلح الأوضاع.
والتقوى
ليست جلوسا في الزاوية بعيدا عن المشاركة الفعالة في المجتمع والعطاء الكريم لدنيا
الناس. فثمرات التقوى بادية حاضرة في حياة المتقين، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا،
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3] وقال
تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]
وليس
هذا كلاما وعظيا لا علاقة له بواقع الناس وأعمالهم، بل لا بد أن يبنى عليه رؤى
استراتيجية وخطوات عملية.
إن
التمسك بالثوابت يحدث متغيرات تواجه تلك المتغيرات المعاكسة، فالمتغيرات المنطلقة
من الثوابت الفطرية أقوى وأثبت من المتغيرات التي تنبت من شجرة خبيثة، فهي اجتثت
من فوق الأرض ما لها من قرار.
ينبغي
أن تكون لنا متغيراتنا التي نصنعها من إيماننا ومبادئنا وقيمنا، ثم نقذفها على
الباطل، وهكذا يكون الانتصار، ﴿بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء:
18]
والله
ولي التوفيق والقادر عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.