الحويني نسيج وحده 3/2
«أبو إسحاق الحويني في ميزان الشيخ كشك»
بقلم: د. محمد الصغير
في طبقات العلماء المختلفة
نرى عناية الله تسوقهم إلى طلب العلم، وتذلل لهم مسالكه وهم في بداية الطلب، قبل
الإدراك الكامل لعظم المهمة التي تنتظرهم.
وأحيانا يتأخر الأمر ليكون
تحولا من طريق إلى طريق، ومن فريق إلى فريق، وهنا يترقى الأمر من الهداية والعناية
إلى ظهور الكرامة، وهذا في التاريخ كثير، ومن أوضح أمثلته المعاصرة، ما حدث للشاب
حجازي شريف، الذي أصبح بعد ذلك الشيخ الحويني، حيث عُرف أشقاؤه بجودة التحصيل
الدراسي والتفوق العلمي، وكان شقيقه الأكبر الدكتور رزق شريف في كلية الطب ساعة أن
كان شقيقه حجازي في مرحلة الثانوية، وهي نقطة التحول في حياته، حيث انشغل عن
دراسته بالقراءة والثقافة العامة والاطلاع، وخاصة كتب الشعر والأدب حتى حفظ ديوان
الحماسة لأبي تمام كاملا، وهذا في عرف الأسر المصرية ضياع للوقت والمستقبل.
وهنا تدخل شقيقه الأكبر
رزق، وطلب منه أن يصحبه إلى القاهرة، ليرى طلاب الطب كيف يجتهدون في التحصيل
ويستفيدون من الوقت، فيعدل ذلك من سلوكه، ويرى مثالا يحتذي به.
وكان الدكتور رزق يسكن
قريبا من شارع مصر والسودان بمنطقة حدائق القبة، وفيه مسجد “عين الحياة” الذي يخطب
فيه فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك عليه سحائب الرضوان، وساقت الأقدار الشاب الوافد
إلى القاهرة بصحبة أخيه لصلاة الجمعة في أقرب المساجد إليه، وإذا به يرى المسجد
غاصا بالمصلين، بل وامتلأت الشوارع المحيطة به، فصلى معهم وكان يسمع الخطبة من
خلال مكبرات الصوت المنتشرة في الشوارع.
اللقاء بالشيخ كشك
وحانت اللحظة الفارقة
عندما تحدث الشيخ كشك عن فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر أثرا من جملة
هذه الفضائل وفيه “أن الله تعالى يتجلى لأهل الموقف العظيم عامة، ويتجلى لأبي بكر
خاصة”، وهنا تحركت الملكة الحديثية المغروسة في فطرة الشاب القادم من بعيد، ولم تسترح
نفسه لهذا الأثر، فخرج ينظر في الكتب التي أمام المسجد لعله يجد فيها شيئا عن هذا
الأثر فلم يجد.
فدخل مكتبة للغرض نفسه،
فوجد كتاب “المنار المنيف في الصحيح والضعيف” للإمام ابن القيم ووجد فيه الأثر
المقصود وحكم ابن القيم عليه بالبطلان وعدم الصحة.
وهنا قرر سؤال الشيخ عما
اعتمل في نفسه وجال في خاطره، ووجده عند ابن القيم، فلم يستطع من زحمة الحشود،
ولما سأل عن كيفية الوصول إلى الشيخ والاقتراب منه، قيل له إذا أردت الصلاة في
المسجد والسلام على الشيخ كشك فعليك أن تحضر مبكرا قبل التاسعة صباحا، أو تحضر الدرس
الذي بين المغرب والعشاء.
وبالفعل ذهب الحويني إلى
الدرس، واصطف خلف الناس للسلام على الشيخ وسؤاله عن مقولة خطبة الجمعة، ونظرا إلى
أن الشيخ كشك لا يبصر محدثه ولا يعرف تخصصه، سأله عن سبب بطلان الأثر أو علامة عدم
صحته، مما جعله يعترض عليه.
فقال الحويني فلم أجد
جوابا وكان موقفا شديدا على نفسي، فقال له الشيخ كشك بما انفتحت له أبوب السماء:
“يا بني تعلم قبل أن تعترض” في نصيحة عابرة لم يلق لها الشيخ عبد الحميد بالا، لكن
الشاب الحويني اتخذها دستورا ونبراسا، وأدرك أن هناك علما عظيما خلف الحكم على صحة
الأقوال والآثار وتضعيفها، وأن لهذا العلم رجالا اختصهم الله به.
العلاقة مع الألباني
ولا أدري أهي كرامة الشيخ
كشك الذي كان سببا لظهور محدث جديد في الأمة، بكلمة مخلصة خرجت من قلبه قبل لسانه
لشاب عابر لا يعرفه، أم هي كرامة الشاب الحويني الذي ساقته الأقدار إلى ذلك، وهيأت
له ما بعد ذلك، لأن قصة مسجد الشيخ كشك لم تنته، فإن عادة المساجد الكبرى أو
المزدحمة أن يتحلق حولها باعة، يبيعون الكتب والعطور والسواك والفواكه وأشياء
أخرى، فوقع نظر الحويني على كتاب بعنوان “صفة صلاة النبيﷺ من التكبير إلى التسليم
كأنك تراها” للعلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني، أحد رموز علم الحديث في
العصر الحديث.
فنظر فيه الحويني على
عجالة، فوجده يذكر الأحاديث ويخرجها ويذكر الحكم عليها، وهو ما تعلقت به نفس
الحويني فقرر أن يشتريه ولكن النقود التي معه لا تكفي لشرائه، فوضعه أسفل الكتب
ليشتريه في الجمعة القادمة، ومن هنا بدأت العلاقة مع الشيخ الألباني الذي سافر
إليه الحويني بعد ذلك ليطلب علم الحديث على يديه، ورجع الحويني إلى بلدته وهو أشد
تعلقا بالعلم وحرصا على القراءة في كل فن، وحصل على الثانوية بمجموع لم يؤهله
لدخول كلية الطب كما كانت تؤمل أسرته، فدخل كلية الألسن، واختار قسم اللغة
الإسبانية وكان من أوائل دفعته، وحصل على منحة للسفر إلى إسبانيا، ورجع منها
لاستكمال مشواره الذي خطه لنفسه وساقته الأقدار إليه، فعمل فترة مترجما وفترة أخرى
مذيعا، لأن الشيخ الحويني حباه الله نداوة الصوت، وجودة الخط، وجمال الخلق والخلق،
كما رزقه الصبر الجميل على الابتلاء والمرض.
مع الشيخ كشك في السجن
وعلى هامش هذه القصة أذكر
أمرين لتمامها:
* الأول: في عزاء الدكتور حمادة الدمنهوري الأستاذ
بطب الأزهر وأحد خاصة أصدقائي -رحمه الله- ومنه أخذت بعض جوانب قصة الحويني مع
أخيه الدكتور رزق حيث كان زميلا له، ومن عجائب القدر أني التقيت الدكتور رزق المرة
الوحيدة في عزاء الدكتور الدمنهوري، وكان وقتها الشيخ الحويني ملأ الدنيا شهرة،
فاقترب مني رجل في كامل الهيئة والهيبة، وقال لي هل تعرف الشيخ الحويني؟ فقلت له
ومن لا يعرفه؟ فقال لي أنا أخوه الكبيييير ومدها، فمازحته قائلا لا يوجد من هو
أكبر من الشيخ، فقال لي “طيب هسمَّعك” واتصل بالشيخ الحويني وفتح الميكرفون، وقال
له: الشيخ محمد الصغير بجواري، ولم يصدق أني أكبر منك! وإذا بالشيخ الحويني يرد
بخجل وتواضع، ويخاطبه مخاطبة الولد لوالده، وأخذ يمتن له على الاتصال والسؤال.
* الثانية: جمع الله بين الشيخ الحويني والشيخ كشك في
السجن، بعد أن أصبح الحويني من رجال الدعوة وتعين عليه دفع ضريبتها، وفي حديث عن
الشيخ كشك جمعنا في قناة الناس، قال الشيخ أبو إسحاق: أكثر شيء تعلمته من الشيخ
كشك، هو عاطفتي نحو ديني، وذكر أنه كان إذا حدثهم في السجن يبكيهم ويضحكهم في آن
واحد!
ولا يسعد الداعية والمربي
بشيء كسعادته برؤية ثمرة دعوته وبركة تربيته، ومن ذلك أن الشيخ الحويني ودعوته
ومسيرته، كل ذلك في ميزان حسنات الشيخ كشك صاحب الكلمة الأولى والدرس الأول، جمعنا
الله بهما في عليين غير خزايا ولا مبدلين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.
* د. محمد الصغير: رئيس
الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ ، وعضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.