إجابات عن تساؤل بريء؟!
1/2
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
التساؤل البريء خُطّ
بقلم الدكتور بدران بن لحسن، من مركز ابن خلدون بالدوحة، سجلته في أوراقي يوم
صدوره ولا أدري متى؟ المهم أنني سجلت التساؤل بنية الإجابة عنه؛ لأنه تساؤل جاد
وجدير بالهتمام والإجابة عنه.
والتساؤل كما ورد عن صاحبه:
أريدكم التفكير معي
وليس إطلاق أحكام الضلال والخسران وغيرها:
أريد أن أفهم كيف يبدأ
الإنسان حياته داعية إلى الإسلام ويصير يدعو إلى الوثنية والقومية، والعنصرية، والأساطير،
والخرافات؟! ما أسباب ذلك؟
هل هو خلل في التركيبة
النفسية والتربويّة؟
هل هو مكر الشيطان
وكيده؟ هل هو الهوى؟ أم ماذا؟
كيف تخسر الأمة عقولا
كبرى فيرتكسون إلى دركات سحيقة، بل ويتحولون إلى رصيد سلبي وعامل من عوامل أزمتها
ويندرجون في مشاريع خصومها؟
وكيف نقي الأمة من هذا
النزيف؟!
هذا هو نص تساؤل الأخ
العزيز الدكتور بدران، وهو تساؤل مشروع، وحري بالأمة الوقوف عنده؛ لأنه من المداخل
الرئيسية لتحريف الأمة عن مسارها الصحيح، عندما تفقد قدرا من نخبها المعول عليها.
لا شك أن الهدى هدى
الله، فهو سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ بل
لا يدخل المرء الجنة وينال الرضوان الإلهي بسبب عمله، وإنما ينال ذلك برحمة الله
وفضله، ولكن عدل الله يقتضي أن تكون تلك النهاية مسبوقة بمقدمات نفسية اجتماعية ثقافية
سلبية تعتري الإنسان وهو يمارس أنشطته بطرق سلبية وهو يحسب أنه يحسن صنعا...، وهذه
المقدمات هي التي تمثل المداخل الموضوعية لكل ما يطرأ على الإنسان من تحولات في
حياته، ومنها الحالة التي نحاول فهمها وتحليلها إلى العناصر المؤثرة فيها
المداخل المعرفية
الجانب المعرفي اليوم
يعيش اهتزازات كثيرة وكبيرة، بسبب التجزيء الذي تعاني منه العلوم، والتباعد
المعرفي، بحيث أن الجميع يعاني ويشتكي من النقص، حداثيون ومحافظون على حد سواء.
فالحداثيون يعتقدون أن التقدم والتطور والتجديد لا يتحقق إلا بالاستغناء عن
القديم؛ بل عدوا ذلك شرطا معرفيا لا تنازل عنه، والمحافظون لا يرون لهم مستقبلا
ومصيرا خارج القديم والمألوف، في حين أن الحقيقة موزعة بين الطرفين، فالتقدم
والتجديد والتحديث لا يقتضي الاستغناء عن القديم بالضرورة، كما أن القديم ليس كله
صالح بإطلاق؛ بل يوجد فيه منتهي الصلاحية، الذي لا يقوى على الاستمرار، ولذلك سهل
على الجميع التحول من حال إلى حال أخرى، فيمكن أن يتحول الحداثي إلى محافظ أو إلى
جداثي أكثر تطرفا، كما يمكن للمحافظ أن يتحول إلى محافظ اكثر إيغالا في الماضي أو
حداثيا متحللا من كل الاتزامات؛ لأن كلا منهما يفتقر إلى منهجية تضعه في قالب
منهجي معين، يعصمه من التنطع ومن التحولات الطارئة والمفاجئة، من غير مبررات
معرفية مقبولة.
والمنهجية تقتضي أن
توضع كل في فكرة في مكانها وموقعها بحسب مرتبتها من المنظور الكلي، فالمسألة
الفكرية العقدية التصورية، غير المسألة الفقهية السلوكية، والمسألة الكلية غير
المسألة الجزئية، والمسألة المجمع عليها غير المسألة المختلف فيها...، فهذه القضية
رغم أنها واضحة ومقررة ويعرفها كل الناس، لا سيما وعلماؤنا القدامى قد وضعوا مناهج
للفهم وكيفيات للتعامل مع نصوص الوحي وفهم الواقع وفق الخبرة التاريخية ببعدها
الإنساني، بحيث لو تتبعناها وحافظنا على اصطحابها في مسيرتنا العلمية، لما وقع
الذي وقع، أو على الأقل لما عانينا هذه المعاناة التي تعيشها الأمة اليوم، حيث
يتحول الواحد منا من حالة إلى حالة وكأنه يغير قمصانه وسراويله...
لقد فرق العلماء بين
القطعي والظني... وفرقوا بين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم دائما وغالبا
ونادرا وبنوا على ذلك أحكاما مختلفة من حال إلى حال أخرى، وكل ذلك باستقرائهم
لنصوص الوحي والوقائع التاريخية.
ولعل من أهم ما يحضرني
الآن من الأساسيات المنهجية مقدمات الموافقات للإمام الشاطبي، التي وضعها ليحصر
علم الأصول في بابه، ويجرده من غيره من العلوم الأخرى مثل علوم السنة واللغة
والبلاغة...، وبناء الفروع على الأصول للإمام الزنجاني، ليكشف لنا عن أسباب
الاختلاف بين الشافعية والجنفية في الفروع، والأصول التي بنى عليها كل مذهب مسائله
الفرعية،
ولكن في تعاملهم معها
في الواقع، نجدهم كثير ما ينقضونها عمليا... فالخوارج قديما رغم تقواهم وتمسكهم
بظاهر التعبد قد انحرفوا، بسبب تركيزهم على مسألة اجتهادية وفهم خاص لمن لم يحكم
بما أنزل الله... وكذلك الشيعة فقد شقوا صفوف الأمة بسبب مسألة سياسية وهي اعتقادهم
بإمامة علي وفضله عن غيره من الخلفاء، ثم بنوا على ذلك ما لا نهاية له من الأحكام
الفرعية... وكذلك في التعصب المذهبي فيما بين المذاهب السنية... ولعل من أحدث ما
نلاحظ اليوم أن المؤمن قد يقاطع المؤمن ولا يسلم عليه ولا يكلمه، بسبب اختلاف في
مسألة فقهية مختلف فيها، بحجة "التبديع أو التفسيق".
ولذلك كان من المسلمات
أن من يقدم الفروع على الأصول في التعامل مع الواقع، يتحول إلى طائفي
تلقائيا...
والفعل اللامنهجي، لا
يمكن أن ينتج فكرا أو سلوكا مستقيما، ومن ثم فهو معرض للإهتزاز دائما وباطراد وهو
أقرب للانحراف، كما قال بن نبي رحمه الله لأحد محاوريه... مثلا خطئي أفضل من
صوابك؛ لأن خطئي مبني على منهج، أما صوابك فصدفة، والحياة لا تبنى على الصدف.
والجانب المعرفي دائما
هو المدخل الأساس؛ لأن الجهل أصعب المسشكلات التي لا يمكن التغلب عليها إلا
بالعلم، سواء في المسائل الكلية وهي الأخطر او في المسائل الجزئية.
المداخل النفسية
والمداخل النفسية هي
المداخل التي أن تحرف المرء عن مساره، وهي ليست أقل أهمية من المداخل المعرفية
المذكورة؛ بل ربما كانت أخطر، لكونها تتجاوز الجانب المعرفي إلى اعتماد الذوق
والهوى على حساب العلم، فينحرف المرء عن الجادة وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وهي كثرة،
ولكن يمكن اختزالها في أربع حالات.
** نرجئ الكلام عن هذه
الحالات إلى الحلقة الثانية في الأسبوع المقبل إن شاء الله
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.