البحث

التفاصيل

الوحدة الإسلامية هي المخرج الوحيد من الأزمات

الرابط المختصر :

الوحدة الإسلامية هي المخرج الوحيد من الأزمات

بقلم: د. محمد وثيق الندوي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

حربُنا ليست في قطاع غزة فقط، سنُغِيِّر خريطة الشرق الأوسط"، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وتدل على ذلك عملياتُه العدوانية الوحشية التي يمارسها منذ أكثر من 16 شهرًا في غزة العزة، خارقًا سائر المواثيق والمعاهدات الدولية والإنسانية، ولا يراعي إلاًّ ولا ذمًّا في تحقيق الحلم الإسرائيلي المزعوم "إسرائيل الكبرى" كما يدل على ذلك مشروع ترامب للتهجير القسري بغزة باسم "ريفييرا الشرق الأوسط"، وهذا المشروع الأمريكي يهدف إلى نقل سكان قطاع غزة إلى دول مجاورة تحت ذريعة تحويل القطاع إلى وجهة سياحية عالمية، كما ورد في خطة المشروع التي صاغها البروفيسور جوزف بيلزمان (أستاذ الاقتصاد والعلاقات الدولية بجامعة جورج واشنطن) وقدّمها لفريق ترامب عام 2024م عبر مركز التميز للدراسات الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حسب ما أفادته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، وقد قال في السابق الرئيس الأمريكي بوش في عهده :"إلى نظام عالمي جديد". فإن هذه التصريحات تشير إلى تغيير النظام في العالم بعامة، وفي الشرق الأوسط بخاصة.

فوفق الخطة الاستعمارية الغربية وقعت في عدد من البلدان الثورات الشعبية، كما حدث في العراق، وأفغانستان، وتونس، ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، والسودان، وبنجله ديش وغيرها، ثم تحولت هذه الثورات المزعومة إلى حروب داخلية، تدخلت فيها الدول الكبرى، فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وروسيا، باسم المساندة أو الإعمار، وإن هذه الأوضاع هيأت للدول الاستعمارية فرصة لوضع أقدامها على أراضي هذه الدول، وإن تدخُّل الدول الاستعمارية في الشئون الداخلية للبلدان وعدم الاستقرار وغياب الأمن، واستمرار الصراعات الداخلية الدامية يشير إلى أن هذه الثورات كانت جزءًا من الخطة الاستعمارية الجديدة.

فالعالم الإسلامي كله اليوم كالجسد المثخن بالحروب التي فُرضت عليه، والصراعات والنزاعات الداخلية الدامية التي تستنزف القوى، وإذا كان عدم الاستقرار والصراع والاضطراب سائدًا فكيف يمكن أن يُتَصوَّر التقدُّم وبناء الوطن، فإن الاستقرار والأمن هو الشرط الأول للبناء والتقدُّم، نشرت صحيفة" الغارديان" البريطانية و"BCC" في نسختها العربية في 2/ديسمبر 2024م مقالاً بعنوان "من بيروت إلى الخرطوم، العالم العربي يتغيَّر بدرجة تجعل من الصعب التعرُّف عليه" بقلم الكاتبة السودانية "نسرين مالك" التي تقيم في لندن، وقد وصفت الكاتبة السودانية الأزمات والحروب التي تمرُّ بها العديد من دول العالم العربي في الوقت الراهن، ومنها الحرب الأهلية في السودان منذ أكثر من عام ونصف، والحرب الإسرائيلية في غزة، ولبنان، والأحداث الأخيرة في سوريا، وغير ذلك من التطورات.

ترى الكاتبة أن المشهد في مختلف أنحاء العالم العربي يبدو بائسًا بشكل استثنائي تاريخيًا، موضحة أن "الواقع أن العديد من البلدان ــ ليبيا والعراق واليمن وسوريا ــ إما منقسمة بسبب صراعات مستعرة أو منخفضة الدرجة، أو تكافح من أجل التغلُّب على الأزمات الإنسانية".

وتشير الكاتبة إلى ما شهدته السنوات الماضية من حصيلة صادمة في أعداد القتلى والنزوح أيضا"، وتستعرض الكاتبة الدمار الذي تعرضت له المدن التاريخية الكبرى في العالم العربي.

وأما غزة، فهي تتعرَّض منذ أكثر من سنة ونصف، للعمليات البربرية والقصف الوحشي الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي، يقتِّل الأطفال والنساء والشيوخ، ويدمِّر البيوت والمساجد والمدارس والمستشفيات، وتسفك الدماء البريئة، على مرآي ومسمع من العالم، ففي كل مكان في غزة آهات وصرخات، وجثث ممزقة، ومحرقة، والأطفال تحت الأنقاض، أو يموتون جوعًا،  فإن الوضع المأساوي في فلسطين وغطرسة قادة إسرائيل وإصرارهم على المضي قدمًا لقهر أهل غزة، وطردهم، وإبادتهم، يهدد مأساة إنسانية عالمية إذا تحقق الحلم الإسرائيلي، فالوضع يطالب بتحالف عالمي لمنع الوضع من الانفجار، ووفقا للتقارير الصحفية تواجه غزة " كارثة إنسانية وقانونية غير مسبوقة، اتسمت بانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، فأدى الاستهداف المنهجي للمدنيين، والاستخدام العشوائي للأسلحة المتفجرة والمحظورة دوليًا، والتدمير المتعمد للبنية الأساسية إلى معاناة إنسانية غير مسبوقة ودمار واسع النطاق لم يعهد في التاريخ الحديث"، وإن الدول العربية والإسلامية لا تحرك ساكنًا، فهي مكتوفة الأيدي، بل هي مشتتة ومتناحرة، وشعارُ الوحدة الإسلامية بينها مفقود.

وأما المسلمون في الهند فهم يمرون بأسوء وضع في التاريخ الحديث، والحكومة تضيق عليهم خناق الحياة، وتحرمهم من الحقوق المشروعة، وتسلب منهم ممتلكاتهم، وتدمر منازلهم بالجرافات بدون محاكمة أو مبرر، وتجعلهم في الهامش، بوسائل شتى، وأخيرًا نُفِّذَ القانون المعدَّل للوقف بقوة، بعدما وافق البرلمان الهندي بجزئيه مجلس الشعب ومجلس الشيوخ على إجراء تعديلات مثيرة في القانون القديم للوقف الإسلامي، وقبل ذلك دُمِّر المسجد البابري التاريخي وألغي الطلاق الثلاث، فثار المسلمون واحتجوا في مختلف مدن الهند، ولكن الحكومة مصرة وسائرة في خطتها الرامية لتهميش المسلمين وهم مشتتون ومنقسمون في خانات ضيقة، تستنزف قواهم، وتبدد شملهم، وتضيع ثروتهم.

إن المشهد العالمي يبدي أن أمريكا والدول الغربية تبحث عن مبررات للتدخل في العالم الإسلامي الزاخر بالثروات، واستيلائها المباشر عليه، والعودة إلى عهد الاستعمار المباشر، وذلك لوضع الإفلاس الاقتصادي، وتدهور وضع الأمن الداخلي، والبطالة المتفشية في الدول الغربية.

ولقد أحكمت أمريكا سيطرتها على الدول، فلا يُسْتَبْعَدُ أن يعود العالم الإسلامي وخاصة العالم العربي إلى عهد الاستعمار الغربي الجديد إذا بقيت الخلافات والنزاعات والصراعات بين الحكام والجماهير، واستمرت الخلافات والعصبيات العلمية والفكرية والمذهبية في المسلمين.

وقد زالت هيبة المسلمين من القلوب في العالم كله، وتشجَّع غير المسلمين عليهم في كل مكان، وقد وصل الوضع إلى حد إهمال العالم كله معاناة المسلمين وشقاءهم، ولا تحرِّكه مواكب الشهداء وجثث القتلى وإن بلغت المئات والألوف، كما يجري في غزة، ولا تثار قضاياهم في محافل الحقوق الإنسانية وأجهزة الأمن العالمي، لأن الهيئات والمنظمات العالمية والمنابر الدولية للحقوق الإنسانية أصبحت رسما باليا، وفقدت نفوذها وتأثيرها، فقد أكد المؤتمر المنعقد في إسلام آباد بباكستان في 10/ أبريل 2025م بعنوان "فلسطين ومسؤولية الأمة الإسلامية": " لقد ارتكبت إسرائيل، بدعمٍ مباشرٍ من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وبتأييدٍ مادي ومالي وعسكري كامل، أبشعَ المجازر والفظائع في حق أهل غزة من الفلسطينيين المظلومين، والتي تُعدُّ من أكثر الجرائم تدميراً في هذا القرن، ولا يوجد في التاريخ القريب مثالٌ لمثل هذه الوحشية، وقد استشهد قرابة 55 ألفاً من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وأُصيب نحو 200 ألف بجروح خطيرة وإعاقات دائمة، كما تحوّل أكثر من70% من مناطق غزة إلى أنقاض، وقد تم تدمير البنية التحتية للخدمات المدنية بشكلٍ كامل، وشمل ذلك المستشفيات، والمؤسسات التعليمية، والمرافق الإدارية والخدمية، إنّها ليست مجرد حرب، بل هي إبادة جماعية ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني".

وأكد المؤتمر أنه: " يبدو أن الضمير العالمي قد مات، فالمجاهدون الذين يُقاتلون من أجل تحرير أرضهم يُوصَفون بالإرهابيين، بينما يُمنح القتلة والمجرمون صفةَ الشرعية والدفاع عن النفس. وأصبحت الأمم المتحدة ومجلس الأمن عاجزين تماماً، حيث قامت أمريكا مراراً باستخدام "الفيتو" لإفشال قرارات وقف إطلاق النار غير المشروطة. كما أصبحت منظمات حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، والمحاكم الدولية، والمؤسسات الدولية الأخرى مشلولة وعاجزة تمامًا".

إن هذا الوضع المهين الذي يعيشه المسلمون، نتيجة مباشرة لتفرُّق كلمتهم، وتوزُّعهم على معسكرات، وانتماءاتهم إلى أفكار ونظريات متصارعة، والبحث عن حلول القضايا عند من يتربّص بهم الدوائر، ويكيد لهم مكايد، ويسعى للقضاء عليهم.

إن هذا التفرّق والتمزُّق سبب الشقاء والحرمان، والنكبة والنكسة، والذل والهوان الذي يمرُّ به المسلمون في العالم اليوم، ولا يصعب على من يتابع الظروف في العالم أن يشاهد آثار هذا التمزُّق، ونتائج هذا التشتُّت، فالنتيجة الحتمية لهذا التفرّق، هي غلبة الهوان، وذهاب هيبة المسلمين من النفوس. "وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال:46]، [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (آل عمران: 103-105).

ولا عِزَّة ولا قوة للمسلمين، سواء كانوا عربًا أو عجمًا، إلا بالإسلام، وبالاعتصام بحبل الله المتين، وإن هذه العزة والقوة لا تتحقق إلا بالوحدة المنشودة الإسلامية، فمن واجب المخلصين من قادة الأمة أن يتصدوا للتفرُّق والتشتُّت، ويقوموا بلمِّ شمل المسلمين، وجمع كلمتهم، وجَعْلِ صفوفهم، كبنيان مرصوص، والقضاء على الخلافات المذهبية والانتماءات الفئوية والفكرية، وإيجاد الوعي الإسلامي الصحيح، وعندما تتحقق الوحدة المنشودة الإسلامية، ستزول الذلة والنكبة، وتحصل الغلبة والقوة، والعزة، وما العزة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] (النساء:138). [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ] (فاطر:10).

 

_____

** ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
تفكيك منظومات الاستبداد (٥٤): غزة تموت جوعًا.. رسالة إلى (أولي الأمر) من المسلمين
السابق
بعد أكثر من نصف قرن في الغياب.. الشيخ عدنان العرعور يعود إلى دمشق ويسجد شكرًا لله (فيديو)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع