تفكيك منظومات الاستبداد (٥٤): غزة تموت جوعًا..
رسالة إلى (أولي الأمر) من المسلمين
بقلم: جاسر عودة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
إن كنت حاكمًا مسلمًا أو ذا سلطة في دوائر الحكم على
المسلمين، فاعلم أن قرار "الامتناع عن الفعل" في مقابل حرب التجويع على إخوانك في دين الإسلام في غزة، حتى الموت بمئات الألوف
من النفوس البريئة، هو شرعًا في حقك "اشتراك في جريمة قتل" لكل نفس تقتل من هذه النفوس، مما يستوجب المسؤولية في الدنيا والعقوبة في الآخرة!
عدم الفعل الذي قد يمنع القتل -ولو لنفس واحدة- مع القدرة عليه يعتبر اشتراكًا في القتل
يعاقب عليه الشرع، ولا يبرؤك من مسؤوليتك الكلام وإنما لابد من الفعل والعمل الحقيقي
من خلال السلطات الكثيرة والكبيرة التي تفوضها الشعوب -في كل النظم السياسية- لحكامها.
وإن ظننت أنك لا تستطيع أن تفعل شيئًا بالمرة، فاستقل من منصبك حتى لا تلقى الله تعالى
يوم القيامة وعلى يديك دماء المسلمين، ولعل من يخلفك في منصبك يمتلك من الإيمان والقيادة
والحزم ما لا تملك، فينقذ نفوس المسلمين من الموت جوعًا ليبرئ ذمته أمام الله كحاكم
مسلم.
وكونك حاكم على بلد آخر غير فلسطين، أو مملكة، أو جمهورية أو دولة أو أيًا كانت التقسيمات السياسية التي قسّمنا بها المستعمرون
القدماء، فلا تعفيك حدود دولتك من مسؤولياتك الشرعية عن دماء المسلمين في فلسطين، خاصة
في مثل هذا الموقف. أنت حاكم على مسلمين، والمسلمون أمة واحدة مسؤولون عن دماء بعضهم!
وإذا كان حكام الدول الأوروبية -مثلًا- لا يقبلون بإهدار دم أوروبي في أي من بلاد قارتهم،
فضلًا عن تجويع شعب من شعوب أوروبا إلى الموت -مثلًا-، فنحن في أمة الإسلام أولى منهم
بالتضامن والإنسانية والرجولة!
إن كنت حاكمًا مسلمًا أو ذا سلطة في دوائر الحكم على
المسلمين، فاعلم أن هذا جزء أصيل من مسوؤلية وأمانة وثمن أن تكون حاكمًا على بلاد المسلمين!
ليس هناك موازنة مصلحية، ولا تخريجة فقهية، ولا عذر حقيقي أمام الله تعالى لأي مسلم
بيده قرار عسكري أو سياسي أو اقتصادي أو أمني أو مائي أو غيره من السلطات التي تحتكرها
الدولة اليوم، وهو تارك لإخوانه في غزة اليوم يموتون جوعًا بمئات الألوف فلا يفعل شيئًا
إلا كليمات ”دبلوماسيات“ يقولهن على استحياء، أو مزاعم بخطط طويلة المدى لمواجهة العدو
بالتدريج، أو مزاعم بحماية السيادة الوطنية، إلى آخر هذا الكلام الذي لا يليق بالموقف
- دون فعل أي شيء في الواقع لمجرد توفير كسرة خبز أو شربة ماء للذين يهلكون جوعًا بمئات
الألوف من المسلمين!
مر قرابة الشهرين ولم نر أفعالًا لمواجهة هذا التجويع
إلى الموت لشعب من أمة محمد ﷺ، على الهواء مباشرة! ولا حتى بإلغاء معاهدات ”السلام“
و”التطبيع“ الباطلة أصلًا، ولا حتى بالدخول في المحاكمات الدولية ضد الإبادة الجماعية
ولو حسب المعايير المنقوصة لـ ”القانون الدولي الإنساني“، ولا حتى بتعليق اتفاقات التجارة
المتبادلة، ولا حتى بوقف التنسيق الأمني والتدريبات العسكرية المشتركة، ولا حتى بتجميد
الشركات الغازية للأسواق المحلية، ولا حتى بالكف عن التعاون والتآلف والتشابك الثقافي،
ولا حتى بمنع الإمدادات الحيوية والآلات الحربية التي تقتل المسلمين من المرور من المياه
والبر والجو في نطاق ما يسمى بـ ”السيادة الوطنية“، ولا حتى بفتح الأبواب -خاصة في
دول الطوق- لمؤسسات المجتمع المدني ولا المؤسسات الأممية التي تحاول أن تقدم شربة ماء
أو كسرة خبز للجوعى المحاصرين من غير المقاتلين! ماذا بعد؟ ليس بعد هذا إيمان ولا إسلام
ولا إنسانية.
وإننا نشهد في هذه الأيام النحسات انقسام مواقف الدول
التي تسمى” إسلامية“ إلى فريقين: الفريق الأول من المنافقين -لا يمكن
أن نصفهم بإنصاف إلا بهذا وقد بدت منهم علامات النفاق جميعًا-، وهؤلاء عندهم عداوة
أصلية مع الإسلام وأهله، اللهم إلا المسلم الذي ليس للإسلام أثر في حياته إلا في خويصة
نفسه فلا يهدد سلطتهم، ولو أن الأفضل عندهم أن لا يكون المسلم مسلمًا أصلًا. هؤلاء
المنافقون يتظاهرون هذه الأيام ببعض الاحتفالات والشعائر والشعارات الإسلامية، وقد
ينفقون بعض الفتات -من أموال الشعوب التي سرقوها- على بعض المظاهر والمعمار الإسلامي
ذرًا للرماد في العيون، ولكنهم -والله- أسعد الناس بقتل المجاهدين، وهم أكثر الناس
ترحيبًا بقتل عموم الشعب الفلسطيني الذي انتخب ”الإسلاميين“ ومنحهم حاضنة شعبية، تلك
الحاضنة التي ورطت المنافقين في بطانات الحكم وكشفت نفاقهم، بل كشفت كثيرًا من الحقائق
والكوارث المخفية لشعوب الدنيا جميعًا أمام دولها التي كانت تحسبها نزيهة، شرقًا وغربًا
وشمالًا وجنوبًا.
وأما الفريق الثاني من حكام المسلمين ومن في دوائر
التأثير حولهم، فيتعلّلون بمقاصد الشريعة في اتخاذ موقف قريب من موقف الفئة الأولى،
والشريعة ومقاصدها من تمحّلاتهم براء. قد نتفهم أن تُغلَّب موازنات درء المفاسد وجلب
المصالح على بعض القرارات السياسية أو السياساتية في واقع الدولة الحديثة، فيُرتكب
أخف الضررين وأهون الشرّين، وقد نتفهم أن يتبنى من ينتمون إلى الإسلام في عالم السياسة
بعض الشعارات القومية أو حتى بعض الأدلوجات العَلمانية أو يلتزمون ببعض الاتفاقات الموقّعة
مسبقًا من باب الحفاظ على المكاسب السياسية أو تحقيق بعض المصالح العامة في ظنهم، اتفقنا
أو اختلفنا معهم. ولكنّ الذي يحدث لا ينطبق عليه تلك التوصيفات والتكييفات! الذي يحدث
هو تجويع لإخوة في دين الإسلام حتى الموت بمئات الألوف! مما يستوجب شرعًا وعقلًا وإنسانيةً
الفعل -أي فعل- لمنع هذه الكارثة. ليس مقبولًا في دين الله من الحكام ذوي السلطات الواسعة
في الدولة الحديثة أن لا يكون هناك فعل، أي فعل! بل عدم الفعل مع امتلاك أدواته هو
اشتراك في جريمة قتل عمد مكتملة الأركان، بل هي جريمة حرابة على المسلمين، مكتملة الأركان.
يا من تصديتم بكامل إرادتكم لمسؤوليات الحكم أو "ولاية الأمر "في بلاد المسلمين: لا عذر لكم أمام الله تعالى! قرار "الامتناع عن الفعل" مع تجويع مئات الألوف من المسلمين إلى الموت، بلا ذنب إلا أنهم اختاروا أن يدافعوا
عن أرضهم وديارهم وأعراضهم، وعن المسجد الأقصى قبلة الإسلام الأولى نيابة عن أمة محمد
ﷺ، وخاصة النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والجرحى والمرضى، قراركم بـــ"الامتناع عن الفعل" ليس من دين الإسلام الذي بُعث به محمد ﷺ في شيء، ولا
من السياسة في شيء، ولا من التفكير الاستراتيجي في شيء، ولا من الأمن القومي في شيء،
ولا حتى من المصلحة الشخصية لبقائكم على كراسيكم في شيء! عدم محاولة وقف هذه المقتلة
الهائلة للمسلمين في أرض الرباط من الجوع على الهواء مباشرة، وأنتم من حكام المسلمين
هو في شرع الله -لمن يعبأ منكم بشرع الله- نفاق، واشتراك فعلي في جريمة قتل ستلقوا
الله تعالى بها ودماء القتلى على أيديكم!
اللهم فاشهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله
ونعم الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** ملحوظة: جميع
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.