قانون إهلاك الطغاة الظالمين من خلال سورة
الفجر
بقلم: بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
طغيان الكفار وقت نزول سورة الفجر:
يقول تعالى في سورة الفجر: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ
عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ
الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ *
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:
1 - 14]، إن سورة الفجر المكية - والتي نزلت والمسلمون قلة مستضعفون، ومضطهدون من
قبل مشركي قريش في مكة، والذين يمارسون عليهم أنواع العذاب المادي والمعنوي،
والرسول صلى الله عليه وسلم يمر على أصحابه ويراهم يعذبون ويمحنون ويقتّلون
ويدعوهم إلى الصبر - لتجيبنا عن السؤال الذي أصبح عند الكثير من المسلمين إشكالية
لا يعرفون لها جوابا، وهي أن الطغيان الذي وصل إليه دول الاستكبار العالمي بقيادة
أمريكا، والخذلان الذي عرفه حكام العرب، وتطبيعهم مع أعداء الدين الذين يسفكون
دماء إخواننا المسلمين المستضعفين في فلسطين، والمسجدُ الأقصى الذي يدنسه حفدة
القردة والخنازين، لم يبق بعده طغيان، فأين نصر الله للمستضعفين؟ ألا يرى سبحانه وتعالى
هذا الطغيان، وهذا الظلم، وهذا الجبروت، وهذه الظلمات؟ ألا يرى سبحانه وتعالى هذه
الدماء التي أصبحت تراق كالمياه؟
الحياة الجديدة، وانكشاف الحقائق من خلال سورة الفجر:
إننا بمعرفةِ مقصدِ سورة الفجر، تنتظم آياتها، ويظهر لنا
التناسب بينها، فتكون لُحْمة واحدة يجمَعُها معنًى واحدا. فإذا عُرف المقصود من
سورة الفجر، عُرفت الحكمة من ترتيب آياتها، والسر في القسم المقسم به في السورة.
بعد الاستقراء والتأمل، نجد سورة الفجر تناقش قضية من أهم القضايا الإنسانية،
وهي: "الحياة الجديدة، وانكشاف الحقائق"،
الحياة الجديدة بعد الفجر في الحياة الدنيا، والحياة الجديدة بعد فجر الآخرة، فما
هي هذه الحقائق التي تكشفها سورة الفجر؟ وما هي هذه الحياة الجديدة التي تتحدث
عنها السورة؟ وكيف أن سورة الفجر تجيبنا عن التساؤل حول إمهال الطغاة رغم طغيانهم
وجبروتهم؟.
أصناف
الطغيان البشري من خلال سورة الفجر:
هناك
حقائق كثيرة تكشفها سورة الفجر، على رأسها، أن الله مطلع على عباده، من خلال جواب
القسم في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ)، [الفجر: 14]، فهو سبحانه بالمرصاد لكل أصناف
الطغيان البشري الذي صنفته السورة في أربعة أصناف، وساقت له أمثلة واقعية:
*
الطغيان الجسدي: المتمثل في قوم عاد، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ).
*
والطغيان العمراني: المتمثل في قوم ثمود، قال تعالى:
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
بِالْوَادِ).
*
والطغيان السلطوي: المتمثل في فرعون، قال تعالى: (وَفِرْعَوْنَ
ذِي الْأَوْتَادِ).
*
والطغيان النفسي: المتمثل في الإنسان المجرد من منهج الله، قال
تعالى: (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ *
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا
لَمًّا* وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 17 - 20].
والقاسم
المشترك بين هذه الأصناف الأربعة، المعتزة بقوة الجسد، أو العمران، أو السلطة، أو
التجرد عن منهج الله، هو تجاوز الحد في الطغيان، مصداقا لقوله تعالى: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، فبسورة الفجر، ينبلج فجر الحقائق،
وتنكشف عند التأمل، وفي كل كلمة في سورة الفجر بيان، ومصباح نور يكشف حقيقة كونية
أو شرعية أو سنة إلهية.
التناسب
بين الفجر وأصناف الطغيان البشري:
إنه
لم يعرف لهذه السورة اسم سوى (الفجر)، سواء في المصاحف، أو التفاسير، أو كتب الحديث
الستة. ليقول الله لنا من خلال السورة، إنه مهما طال غياب الحقائق، ومهما انخدع
الناس بالمظاهر الزائفة المغرية والخلابة، فإنه لا بد أن تكشف الحقائق وتظهر، إما
في الدنيا وإما في الآخرة.
إن
سورة الفجر تأذن بميلاد جديد، لحياة جديدة، بحركة جديدة، كما تشير كلمة الفجر
عنوانًا على هذه السورة، إشارة إلى موضوعها، والذي هو في نهاية المطاف، يوم
القيامة، قال تعالى في سورة الغاشية: (إِنَّ
إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية:
25، 26]، وقال سبحانه في سورة العلق: (إِنَّ إِلَى
رَبِّكَ الرُّجْعَى) [العلق: 8]، إنها إيحاءات قرآنية لطيفة، كأن اسم
الفجر الذي هو عنوان على هذه السورة، يوحي الله من خلاله إلى العباد، أن الذي قدَر
أن يعيد الحياة للفجر بعد الليل إذا يسري، فيمضي الليل ويأتي الفجر، إيذانًا بيوم
جديد من حياة جديدة، فيه عمل جديد، وفي شؤون جديدة، وفيه رزق جديد، وفيه أحوال غير
الأمس، وقدَر على إحداث تلك الآية مرة بعد مرة، أمام أعينكم، لقادر على أن يعيد
الحياة كلها من جديد، يوم يبعث العباد، فيجازي كل واحد على عمله، يوم يقول للمظلوم
تقدم، ويقول للظالم لا تتكلم، قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)
[الأنبياء: 46، 47].
إذا كان الله تعالى قد خلق حياة
محدودة وزائلة في هذه الدنيا، وجعلها مبتدأ، فقد أعد حياة دائمة أبدية في الآخرة
وجعلها خبرا، والجملة لا تتم إلا بالمبتدأ والخبر، وكذلك الحياة، لا تتم إلا بوجود
بعث ودار آخرة، فلماذا تستعظمون الحياة الأخرى بعد الحياة الأولى، وقد رأيتم يومًا
بعد يوم، وفجرًا بعد ليل، وحركة بعد سكون، حياة جديدة تكون بعد الليل الذي يسري ويذهب، وتتمثل في
بعثة الإنسان المتكررة عند استيقاظه من النوم كل فجر بعد الموتة الصغرى، قال تعالى
في سورة الزمر: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر: 42]، وعند الاستيقاظ يفرح العبد بالبعثة
المتجددة لحياة جديدة، فيحمد الله عليها، ويسعى لتكون أفضل من أمسه،
روى مسلم في
صحيحه، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ
مضجعه قال: ("اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت"، وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور")،
[أخرجه مسلم في صحيحه ج4/ص2083 ح2711].
إن الحياة الجديدة كذلك تكون بعد فترة الظُّلم؛
والظَّلَمة، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن
ربك لبالمرصاد، كما أن الحياة الجديدة الدائمة تكون بعد الموت، ويكون العبد
فيها قد أفلح وفاز في الابتلاء الدنيوي.
إن مناسبة
اسم سورة الفجر، للمقصد الذي هو الحياة الجديدة، وانكشاف الحقائق، أن اسم الفجر في
غاية المناسبة للمقصد، إذ أن الفجر وهو وقت طلوع الصبح، وانتشار الضوء، هو وقت
حياة الإنسان، ووقت استيقاظه من النوم، ووقت ظهور الأشياء والأمور على حقيقتها،
بعد أن كانت ملفوفة في ظلام دامس، أسبغه عليها ليل طال، ثم لم يلبث أن ذهب الليل،
وكذلك حال الأشياء في الدنيا، لا تظهر على حقيقتها أول وهلة، بل تبقى دهرا على ما
هي عليه، تغر كل ناظر ينظر إليها، فيُمهل الله الظالم حتى يظن مَن حَوله
أنه تمكّن، كما هو الشأن لدول الاستكبار العالمي اليوم، حتى إذا جاء أمر ربك
بالعذاب في الدنيا، أو قامت القيامة، تكَشّفت الحقائق وظهرت، فموازين الله مختلفة
عن موازين الخلق، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عَنْ
سَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: « مَا تَقُولُونَ
فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ
أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ:
« مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ،
وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ
الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا»)، وكما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّهُ
لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ
عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَءُوا: "فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَزْنًا")، وكما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، عن حَارِثَةَ
بْن وَهْبٍ الخُزَاعِيَّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟
كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلاَ
أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ)، ومثل
هذا كثير. وأقرب آية في كتاب الله تعبر عن مثل هذا المعنى، ما ورد في قوله تعالى في
سورة مريم: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا
السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)
[سورة مريم، الآية 75]، فذكر سبحانه وتعالى في
هذه الآية، النهايتان: الساعة والعذاب. ففي هذه الآية، جعل الوعد يتحقق بأحد
أمرين:
إما
العذاب النازل في الدنيا؛ كما حصل مع الأقوام المذكورة في سورة الفجر من عاد وثمود
وفرعون، وإما الساعة كما ذكر في آخر سورة الفجر.
ما هي
الحقائق التي وردت في سورة الفجر؟ وما هي الأمور التي كانت مستورة غير مكشوفة؟ وما
هي الأوقات التي تكشفت فيها؟ لقد ذكر الله
تعالى في سورة الفجر نوعان من الأمور التي تغطي عادة على الحقائق، وسنقتصر على الأمر
الذي يغطي عادة على الحقائق، على مستوى الأمم، وهو الاغترار بالقوة،
إذ تغتر هذه الأمم أو طواغيتها بقوتهم، وما وهبهم الله من النعمة والقوة،
فتسلبهم عقولهم وقلوبهم وتغشى أبصارهم، فيظنون أنهم معجزون. قال تعالى في سورة
فصلت، وهو يكشف لنا عن صنف الطغيان الجسدي المتمثل في قوم عاد، وصنف الطغيان
العمراني المتمثل في قوم ثمود: (فَأَمَّا عَادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ *
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت: 15 - 18].
إن سورة الفجر تعلمنا أن زوال دول
الاستكبار العالمي عموما، والكيان الصهيوني خصوصا من الوجود؛ حقيقة قرآنيّة، لهذا علينا
أن لا نسأل هل ستزول هذه الأمم الطاغية أم لا؟ لأنه قانون إلهي ثابت في كل عصر
ومصر، فالظلم لا يدوم، كما أن الظلام لا يبقى؛ بل سيزول ويأتي بعده الفجر، بإذنه
تعالى، إلا أن المسألة مسألة وقت فقط، إذ لا نعلم متى سيكون هذا الزوال؟ والمؤمن
الحق هو الذي لا يبقى قاعدا مكتوف اليدين، ينتظر هذا الزوال، فهذا لا يحبه الله
تعالى، بل إن المؤمن الحق، هو الذي يؤمنُ أن المعجزات إنما تأتي بعد أن يستنفدَ
المؤمنُ أقصى ما يستطيعُ من العمل.
حين يرمي الباطل بكلِّ قوته، حتى يبدو أنه
على بعد خُطوة من الظَّفرِ، ويصمدُ الحقُّ حتى آخر ذرَّة في الصمود، حتى يبدو
أنَّه قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، عندها تأتي المعجزة، قال تعالى في سورة
البقرة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ) [البقرة: 214]، ويقول سبحانه في سورة يوسف: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ
بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) [يوسف: 110].
القرآن الكريم يُعلمنا حقيقة ثابتة، أن
كل الطغاة الذين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدرٍ، إنما أخذهم وهم في قوّة جبروتهم:
* فحين أهلكَ اللهُ (فرعون)، لم يهلكه
بتغيير موازين القوى، فجعله ضعيفا ونزع منه ملكه، وإنما أهلكه وهو يقول: (أنا ربكم
الأعلى)، قال تعالى في سورة النازعات: (فَحَشَرَ
فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)
[النازعات: 23 - 26]، لقد أخذه الله وهو في أوج قوّته، وعلى رأسِ جيشه المدجج.
* وحين أهلكَ اللهُ (النمرود)، لم
يهلكه في لحظة ضعفٍ، وإنما أهلكه وهو في قمّة غطرسته، يُنادي في النَّاس كما جاء
في سورة البقرة: (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)[البقرة: 258].
* وحين أهلكَ اللهُ (عاداً)، لم يهلكها
بتغيير الأسباب، وانقلاب الموازين، وإنما أهلكهم وهم يقولون: (من أشدُّ منّا
قوَّة؟).
قال
تعالى في سورة فصلت: (فَأَمَّا
عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ
مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) [فصلت: 15، 16].
* وحين أهلكَ اللهُ (ثمود)، فإنما
أهلكهم وهم ما زالوا يَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِ الأرض قُصُورًا، وينحتون من الجبال
بيوتا، قال تعالى في سورة الأعراف: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا
فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) [الأعراف: 78]، وقال تعالى في سورة هود: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا
فِيهَا، أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) [هود: 66 - 68].
* وحين شتَّتَ اللهُ شمل (الأحزاب) يوم
الخندق، كانت الأرض قد ضاقتْ على المؤمنين بما رحبت، وبلغت القلوب الحناجر.
*وحين بدأتِ الحربُ على غزَّة، الكثير
من الذين يجهلون سنة الله في الأرض من المؤمنين فضلا عن الكافرين، يعتقدُون أنها
جولة من جولات الحرب، ستنتهي كما انتهتْ كلّ الجولات التي قبلها، أما الآن فشيءٌ
ما في داخل الكثير من الناس، إذ أصبحوا يقولون في شأن دول الاستكبار عموما، وحكام
العرب المطبعين، والكيان الصهيوني خصوصا، إنها الجولة الأخيرة، وإنها لن تبقى على
الشكل الذي هي عليه الآن، ستأتي إن شاء الله تعالى، ريح الأحزاب بإذن الله، ورياح
اللهِ لها ألف شكلٍ وهيئة، قال تعالى في سورة المدثر: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ،
وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر: 31].
إن ما يحدث اليوم من طغيان دول
الاستكبار العالمي، وخذلان حكام العرب، وصمود الفئة القليلة المحاصرة من أهل غزة، هو
ضدُّ العقل أساساً، والأسباب لا تُنتج كلّ هذا الثبات، والواقع يقول: إنها لو
كانت دولاً عظمى لانهارت تحت كل هذا القصف والعدوان، فكيف يصمد قطاع هو أصغر
مساحةً من كلِّ عواصمنا؟! والأدهى من ذلك أنه بجغرافيته المسطحة بلا جبال ولا
وديانٍ ولا غابات، هو منطقة ساقطة عسكرياً؛ عند أول هجوم من هذه الترسانة المهولة
التي تملك البحر والجو واليابسة!
الظلم إيذان بهلاك الأفراد
والأمم الظالمين:
من قوانين الله في الأرض الثابتة التي
لا تتغير، أن الظلم إيذان بالهلاك لأفراد وللأمم،
فالله تعالى لا يعذب أحدًا إلا بظلم اقترفه؛ ولذا قال سبحانه في
سورة الأنعام: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)
[الأنعام:47]، فلا هلاك إلا بظلم، ولا ظلم إلا وعاقبته هلاك. وعقوبة الظالم لا
تتخلف أبدًا؛ فهي عقوبة تصيبه في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا، وكل الأمم
التي عذبت وأهلكت علق سبحانه وتعالى هلاكها بظلمها، وهي أمم كثيرة كما دل على ذلك
القرآن، قال تعالى في سورة الأعراف: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ
إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
[الأعراف:4-5]، و(كَم) عند العرب تستخدم للتكثير، فهي قرى كثيرة أهلكت
بظلمها، بدليل إقرارهم بظلمهم لما رأوا العذاب. وفي آيات أخرى من سورة الأنبياء،
قال سبحانه: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا
بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الأنبياء:11]، ثم أخبر سبحانه في سورة الأنبياء،
أنهم قالوا وهم يعاينون العذاب: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ . فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا
خَامِدِينَ) [الأنبياء:14-15]. فكثرة القرى التي قصمت وأهلكت وعذبت، دليل على
أن سنة الإهلاك والعذاب ماضية، وإقرار المعذبين بالظلم عند رؤية بوادر العذاب دليل
على أنهم إنما عذبوا وأهلكوا بظلمهم؛ لتكون النتيجة: أن سنة الله تعالى ماضية في
عذاب الظالمين وإهلاكهم. وفي تعبير قرآني آخر في سورة الحج: (وَكَأَيِّن مِّن
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا) [الحج من
الآية:48]، و(كَأَيِّن) إنما تستخدم عند العرب لتكثير العدد، وهذا يدل
على كثرة تلك القرى التي أخذها الله تعالى. فالتعبير القرآني بـ(كَم) و(كَأَيِّن)
المفيدتين للتكثير في الإخبار عن عذاب الظالمين وهلاكهم، يدل على أن هذه السنة
الربانية في الظالمين مضطردة لا تتخلف. فيستبشر المظلومون بها، ويوقنون بأن الله
تعالى منتقم من الظالمين لا محالة، وأن ظلمهم للضعفاء لا بد أن يعود ضرره عليهم؛
فللكون رب يدبره، وله سبحانه حُكم يفرضه، وله تعالى قدر يُنْفِذُه، وله عز وجل سنن
يمضيها، فلا ييأس مؤمن يعلم ذلك ويوقن به، ويقرأ مصارع الظالمين في القرآن الكريم.
كما تدل الآية على أن من سنة الله تعالى في الظالمين الإملاء لهم؛ لئلا يظن من
يستبطئ وقوع الوعيد أن تأخر العذاب والإهلاك دليل على عدم وقوعه. بل سيقع وسيكون
شديدًا؛ لأن الظالمين قد قامت الحجج عليهم، وانقطعت معاذيرهم، وهذا ما يدل عليه
قوله تعالى في سورة هود: (وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ
وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]. وإنما يستبطئ
المظلوم هلاك الظالم؛ لشدة ما يعاني من الظلم، وما يجد من القهر، وما يحس به من
الغبن، ولا سيما إذا كان الظلم ظلمًا في الدين، وأذى في ذات الله تعالى، واستباحة
للدماء، وانتهاكًا للأعراض، وتهجيرًا من الديار، ولكن ما يريح المظلوم المقهور لو
قرأه فتدبره قول الله تعالى في سورة إبراهيم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا
عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم من الآية:42]، فإذا أيقن المظلوم أن
الله تعالى مطلع على ظلم الظالم، مع علمه بأنه سبحانه يهلك الظالمين؛ علم أن الله
تعالى إنما يؤخر هلاك الظالم لأمر يريده، فيه مصلحة للمظلوم، وهذا من تمام لطف
الله تعالى بالمظلومين.
الخاتمة
إنه لا يوجد محتلٌ بقيَ على احتلاله،
هذه حقيقة ثابتة لا يستطيع أحد تكذيبها، بغض النظر عن عقيدة أصحاب الأرض، فكل احتلالٍ
زال وانبلج الفجر، هكذا أخبرنا الله تعالى في سورة الفجر، ويؤكد التاريخ هذه
الحقيقة، وكل الغزاة رحلوا نهاية المطاف، وهذا الاحتلال الصهيوني زائل، طال الوقت
أم قَصُرَ، وصدق الله تعالى إذ يقول في سورة المعارج: (فَاصْبِرْ صَبْرًا
جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج: 5
- 7]، ويقول سبحانه في سورة هود: (إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود: 81].
فسبحان من يملي للظالمين حتى يأمنوا، ويولي بعضهم بعضًا
ليفرحوا، ويمدهم في طغيانهم ليعمهوا، ثم يديل عليهم فيُهزموا، وما من ظالم إلا وقد
حاك أسباب هلاكه بيديه، ومشى إلى حتفه برجليه؛ قَدَرًا من العليم القدير؛ ليوقعه
في شر أفعاله، فيبكي ندمًا على حياته وأعماله، حيث لا تنفع الندامة، قال تعالى في
سورة الأنعام: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45].
ورحم الله من قال: (إن الفجر سيطلع حتما، ولأن يطوينا الليل
مكافحين، أشرف من أن يطوينا راقدين) [ من كلام الداعية محمد الغزالي]، فيبزغ فجر جديد، وحياة جديدة، وتظهر حقيقتنا، ويفضح أمرنا، وتنكشف الحقائق
التي كانت مستورة بظلام الظلم والطغيان. ويعلم حقا حقيقة جواب القسم في قوله تعالى
من سورة الفجر: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون إلى يوم الدين، والحمد لله الذي بنعمته
تتم الصالحات.