البحث

التفاصيل

مقررات مهارية تسهم في تأهيل خريجي الجامعات لسوق العمل

الرابط المختصر :

مقررات مهارية تسهم في تأهيل خريجي الجامعات لسوق العمل

بقلم: غفران محمد غير بولاد

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

عندما ننظر إلى حال خرِّجي الجامعات نجد أنَّهم في أحسن الأحوال قد أتقنوا متطلبات كلياتهم من المقررات، أو كادوا يتقنونها، إلا أنَّهم في كثير من الأحيان لا يعلمون موقفهم الشرعي في تبليغ هذا العلم الذي درسوه، أو موقف الشرع من علومهم التي ستغدو في المستقبل عملاً يقدِّمون به الخدمات للمجتمع، ويتكسَّبون منه الرزق، كما أنهم لا يُتقنون طرح معلوماتهم والخدمات التي يمكنهم تقديمها بلغة تتناسب مع حال العميل وأساليب تتماشى مع متطلبات العصر، وغالباً ما تجدهم لا يُجيدون فن التعامل مع عملائهم على اختلاف شخصياتهم وأطوارهم. كلّ ذلك يجعل إنتاجهم الحقيقي متأخراً فترة التجارب التي يمرُّون بها ليكتسبوا ما ينقصهم من الخبرات والمهارات، فيستنزف طاقة وجهداً من قدراتهم، ويهدر وقتاً من أعمارهم.

صحيح أنّ التجارب تكسب الشخص خبراتٍ تعدُّ زاداً يدخره لمقبل الأيام، إلا أنها في ذات الوقت يمكن أن تكون مجرد مضيعة للعمر، وهدراً للطاقات دون ثمرة معتبرة، بل يمكن أن تودي بمستقبل المرء المهنيّ برمَّته أيضاً، إن أدت إلى خطأ جوهريّ في مجاله، مع العلم أنه قد يكون صاحبَ علمٍ ومهارة، بل ربما يكون من الأشخاص المعدودين في ذكائهم وإبداعهم، لكنه منغلق الفكر واقف الهمة والعزيمة على العلم الأخروي، ظنّاً منه أنَّه لا ينال شرف الخيرية إلا بالعمل في العلوم الشرعية النصيَّة، فيأخذ الشهادة بعلم كونيٍّ نزولاً عند رغبة الأهل أو المجتمع، ثم يزهد بها ويعزف عن العمل بها، فلا يفيد مجتمعه بما تعلم، ويمضي نحو ما ينال به الشرف والخيرية حسبما يرى، أو قد يكون لا يحسن التعبير عمَّا يريد تقديمه، أو لا يُجيد التواصل الاجتماعي مع الآخرين، أو لا يمتلك مهارات العرض والتسويق. مع العلم أنَّ تجاوز مثل هذه العقبات يكمُن في فرض الرئاسة في الجامعات وإداراتها بعض المقررات في كافَّة الكلِّيَّات، أهمها:

1.    مقررٌ يظهر شرعية العلوم الكونية الخادمة للأمة: حيث يتعلم الطلبة أنَّ علمهم الذي يتعلمونه أيّاً كان، هو علم شرعيّ تُخدم به الأمة، ويُسهم في نصر الدين، ورفع رايته عالياً. فليست أحكام الفقه وأصوله والتفسير والحديث وغير ذلك من العلوم الشرعية هو ما نريد ترسيخه لدى الطلبة الخريجين، فذلك له أهل تخصصه، إنما بثُّ روح الشريعة في كل علم ومجال وقول وسلوك هو ما نبتغيه؛ لتتمكن لدى كل فردٍ منَّا فكرةً مفادها أنَّ العلم والعمل الشرعي وخدمة الدين والأمة يتحقق بعمل كلٍّ منّا من موقعه ضمن الضوابط الشرعية والإخلاص لله سبحانه وتعالى.

فقد شاع في القرون الأخيرة بين العامَّة والمثقَّفين أنَّ العلم الشرعي يقتصر على العلوم المتعلقة بالقرآن والسنة، وأنَّ ما عدا ذلك ليس بعلم شرعي البتَّة. لا شكَّ أنَّ هذه العلوم هي الأشرف والأسمى بين العلوم كلها إلا أنَّ اقتصار صفة الشرعية عليها أودى بالأمة الإسلامية إلى ماهي عليه اليوم من تأخّرٍ عن ركب الحضارة بين الأمم، وتراجعٍ في حال أبنائها يقرؤه القاصي والداني. ولو أنّ العلماء تنبَّهوا لخطر ذلك الاقتصار لجعلوا العلوم كلها شرعية، شريطة أن تسهم في نهضة الأمة الإسلامية وتقدمها، وتخدم أبناءها، وتلبِّي احتياجاتهم، وتغنيهم عن الحاجة لغيرهم من أبناء الأمم الأخرى. ولكان خيراً لهم -للعلماء- وللأمَّة أن يقسِّموا العلوم الشرعية بناء على ما تقدَّم ذكره إلى:

·     علوم شرعية نصيَّة تُستقى منها الأحكام والقوانين ليقوم الناس بالقسط طائعين لله مخبتين لأمره ونهيه. وتمثِّل العلوم المرتبطة بشكل مباشر بالقرآن الكريم والسنة الشريفة.

·     علوم شرعية خدمية تُسهم في تحقيق العمران والاستخلاف في الأرض، وتشمل كل علم إنساني وتجريبي طبي وهندسي وفلكي وغير ذلك، لتقوم الحضارة بكل ذلك مجتمعاً، وتنهض الأمة، وتُرفع رايتها عالياً، لتكون في مقدمة الأمم خيريّةً، متحققاً بذلك قوله سبحانه وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).

إن جعل العلوم والأعمال كلها ذات صفة وصبغة شرعية يجعل دارسي العلم الشرعي ودارسي الطبّ والكيمياء والهندسة والتعليم والحرفيّين والصناعيّين والتجَّار، كل أولئك وغيرهم يجعلهم في خندق واحد ناصرين لدينهم ناهضين بأمتهم، مأجورين على عملهم، كلٌّ منهم من موقعه الذي يقوم عليه. فالطبيب يداوي أنباء المسلمين، والمهندس والبنَّاء يعمِّر بيوت المسلمين ومساجدهم ويعطي المظهر الحضاري الجميل للمدن والأحياء، وعامل التنظيفات ينظف شوارع المسلمين ويحميهم من انتشار الأوبئة والأمراض، والخبَّاز يطعم المسلمين الخبز ويساعدهم في تأمين قوت يومهم، وطالب العلم الشرعي في الفقه يعلِّم المسلمين أحكام دينهم، وفي التفسير يبيِّن للمسلمين معاني الآيات ومراد الله تبارك وتعالى، وغير ذلك من كافة التخصصات التي تُسهم في تحقيق العمران وتطبيق الأحكام في الأرض وصولاً إلى الخيريَّة التي يجب أن تكون لأمَّة محمَّد ﷺ. 

إن معرفة الصفة الشرعية لما يقوم به المرء من عمل تُنمي عنده حس المراقبة الإلهية في يعمله، وتحفِّزه لإتقانه والاستزادة منه، بل وتدفعه لتطويره أيضاً؛ لأنه يعلم في قرارة نفسه أنَّه يعمل ليكسب الأجر في الدنيا والنعيم في الآخرة، فيسعى دؤوباً لرفعة الأمة ونهضتها، لا من أجل دراهم معدودة فقط، فهو عندما يفقه الأثر المترتب على عمله وإتقانه له يستبسل في تحصيل كل خير وفضل يمكنه أن يقدِّمه لأمّته.

2.    مقررٌ يكشف للطلبة كيفية استخدام اللغة العربية وأساليبها: ببيان أسرار ألفاظها ودقتها وعمقها، وقوة معانيها، وسهولة تراكيبها ورصانتها، وغير ذلك مما يؤثر على المعنى المراد إيصاله للمتلقي، وما يحتاجه المتكلِّم لتعبير عن مراده بدقة، فنحن هنا نحتاج لفقه هذه اللغة وكيفية استعمالها بانسيابية وسلاسة، لا لقواعدها الجافة في المقررات التي نكاد أن نقطع بصعوبتها بمجرد تصفحما لها؛ لما فيها من أسلوب طرح قديم وتفاصيل لا تفيد إلا أهل التخصص بها، ولا يخفى على واعٍ أثر تمكُّن المرء من لغته الأم في إبداعه وجودة عرضه لأفكاره.

3.    مقررٌ يمكِّن الخريجين من مهارة تطبيق أساسيات علم النفس التربوي والاجتماعي: أمّا ما يتعلق بعلم النفس التربوي والاجتماعي وتقرير واحد منهما على الطلبة فيتوقف اختيار أحدهما على المجال الذي يدرسه الطالب، ومستقبل عمله في أي دائرة من المجتمع سيكون؟ فإن كان في مجال التعليم فلا بدَّ له من التعرُّف على أساسيات علم النفس التربوي، حيث يرشده إلى فهم سلوك الطالب في البيئة التعليمية، ومعرفة العوامل النفسية المؤثرة على العملية التعليمية والتربوية، مما يساعد المعلم على فهم ومعرفة كيفية التعامل مع الطالب بما يتناسب مع حالته وشخصيته، ليستخرج منه أعلى مستويات قدراته المعرفية والمهارية، ويساعده في تنميتها وتطويرها؛ أمّا إن كان مستقبله العملي في التعامل المباشر مع أفراد المجتمع بنماذجه المختلفة، فلا بدَّ له من التعرُّف على محاور علم النفس الاجتماعي الأساسية، حيث يُهدى بها إلى سبل التعامل مع كل أنواع شخصيات بما يناسبها، ويملِّكه مفاتيح التواصل الفعَّال مع كل واحدة منها على حدة، إضافة إلى أنه يسهم في توسيع دائرة فهم سلوك الآخرين وأسبابه، وسبل استخراج الخير المكنون لديهم وإسدائه إليهم بالفعل والقول، وتجنّب السوء الدفين لديهم ودفعه بالفطنة والحكمة، فيعلم المرء بذلك متى يطيل في الكلام مع العميل، ومتى يختصر، ومتى يكون حديثه بشدَّة، ومتى يكون بلين، ويتعلَّم فن استخدام موسيقا الكلام وتفسيره (نبرة الصوت أثناء الحديث)، وقراءة النظرة ومعانيها المكنونة فيها، وغير ذلك من المهارات التواصل الاجتماعية.

إنَّ هذه المتطلَّبات التعليمية مهاريةٌ يحتاجها كلّاً منَّا، وهنا لا بدَّ من التأكيد على كون المقرر المطلوب تدريبي مهاري، لا حفظي يقدَّم به اختبار ثم يلقى بأوراقه في الخزانة.

لذا نلفت النظر إلى ضرورة تدريسها في الجامعات كافَّة بغية اختصار وقت خريجي الجامعات وصونه عن الضياع في مستنقع التجارب العقيمة غالباً، وإن كان لها ثمرة -وهذا قليل- كان ثمرها هزيلاً بعيد القطاف.

أرى -والله أعلم- هذه المقرارت أساساً وضرورة في كل كلية من كليات جامعاتنا العربية حيث يسهم وجودها في تأهيل خرجي الجامعات لدخول سوق العمل بعد التخرُّج، فيتخرج الطالب في جامعته متقناً لفرعه الذي درسه؛ عارفاً لموقعه العلمي والعملي الذي سيخدم به دينه؛ قادراً على التعبير عن خبراته وخدماته التي سيقدمها للمجتمع بلغته الأم بشكل سليم ودقيق؛ فاهماً لطبيعة النفس البشرية التي سيتعامل معها بكافة أنماطها وأطوارها؛ مدركاً لأساليب وطرق عرض وتسويق المعلومة والخدمة ليصل بها إلى محتاجيها ومريديها في مجتمعه الذي ينخرط به لتنميته. مما يمهد له الطريق ويختصر عليه الوقت والجهد.

رؤية نحاول بها تسليط الضوء على حاجة ملحَّة للنهوض بمستقبل الشباب المتعلم، الشباب الذي يمثِّل مستقبل الأمة ذاته. ونضعها بين أيدي القرّاء لعلَّها تصل إلى المسؤولين عن تقرير المناهج الجامعية عساها تجد عندهم آذاناً واعية، كما نؤكِّد على أنَّ هذه الرؤية شخصية ناتجة عن ملاحظة الواقع مما يجعلها فكرة تستحقُّ الدراسة العلمية الجادَّة لتكون مخرجاتها مبنية على نتائج دقيقة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
مأزق المساواة وجندرة الحياة في ثقافة الأسرة العربية (4)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع