البحث

التفاصيل

مأزق المساواة وجندرة الحياة في ثقافة الأسرة العربية (4)

الرابط المختصر :

مأزق المساواة وجندرة الحياة في ثقافة الأسرة العربية (4)

(قلق الهوية الأنثوية واضطراب الرجولة)

بقلم: أ.د. ليلى محمد بلخير

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

***

- اقرأ: زمن انهيار معنى الأسرة (1)

- اقرأ: أثر المنظومة النسوية الغربية على الأمن الفكري للأسرة (2)

- اقرأ: عولمة مصطلحات النسوية الغربية ومآلاتها في ثقافة الأسرة العربية

***

 

يثير قلق الهوية الأنثوية أزمة عميقة ومتشعبة على مختلف الأصعدة في حياتنا المعاصرة. فبالرغم مما يُشاع عن "زمن النساء"، تظل الأنثى بعيدة عن السكينة والاطمئنان والسعادة ما لم تستند إلى هوية راسخة. لذا، استقبلت بعض الناشطات النسويات بترحيب بالغ قرار المحكمة البريطانية الذي أكد على الهوية الأنثوية البيولوجية الخالصة، مستثنيًا بذلك المتحولين جنسيًا من تعريف الأنثى.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا يتزايد الميل في الغرب تحديدًا نحو نبذ الرجولة؟

لا يقتصر الأمر على سلطة الجسد الأنثوي وهيمنته المتصاعدة، خاصة في ظل ثقافة الصورة الطاغية، بل يتعداه إلى بحث الرجولة عن البطولة في كل ميدان. فعندما يعجز الرجل المعاصر عن تحقيق نموذج الرجولة الكامل، يتجه نحو البحث عن بطولات زائفة في عالم النساء. وهذا ما تجلى في اعتراف بطلة التنس العالمية بخضوعها لعملية تغيير جنس، مؤكدة أنها لم تولد أنثى بيولوجيًا. وينسحب الأمر على آخرين ممن لم يحققوا مكانة في عالم الغناء، فيلجأون إلى تبني المظهر الأنثوي والصوت الأنثوي والحركات الأنثوية سعيًا للتألق والشهرة في عوالم الفن.

إن الحقيقة المرة تكمن في أن من يعجز عن أداء دور الرجولة على الوجه الأكمل، يبحث عن البطولة خارج نطاق دوره وسمته، لعله يظفر بشيء منها في عوالم أخرى. وقد أدى هذا إلى تقلص النماذج الرجالية القادرة على أن تكون قدوة للناشئة، الذين يكبرون ويسيرون في الحياة بلا آباء فاعلين ولا مرجع يعودون إليه. فكيف للفتى أن يكتسب معاني الرجولة في المستقبل وهو يفتقر إلى نموذج رجولي ملهم داخل بيته، وفي المؤسسات التعليمية، وفي مختلف مناحي الحياة العامة؟ وفي ظل ما يُلاحظ من تغليب للأنوثة في الزمان والمكان، من أين يستمد الشباب معاني الفحولة الحقيقية؟ وكيف نجد هذه المعاني في عالم تسيطر فيه الأنثى على معظم المجالات، بالتزامن مع ارتفاع معدلات الطلاق وتفاقم ظواهر التفكك الأسري؟

لقد أصبح من المألوف أن نرى امرأة بمفردها تعيل أطفالًا من مختلف الأعمار في كل مكان. وتزداد حوادث جنوح الأحداث وتمرد الشباب، ويكثر الانحراف والشذوذ والاضطرابات النفسية والعصبية، ويفقد المجتمع السيطرة على توازنه.

عندما تتخذ المرأة قرار فصم الرابطة الزوجية، يبرز معنى الاستقواء على الرجل والنظر إليه كسلعة أو شيء ينتهي وجوده بانتهاء المصلحة. وفي ظل تنامي الاعتداد بالدور الإنتاجي والمادي للأنثى ومساهمتها في التنمية المستدامة، تعكس إحصاءات الطلاق والتفكك الأسري واقعًا حزينًا ووجهًا آخر لفشل ذريع لأي تنمية في ظل انهيار الأسرة.

1. التربية الأسرية الناعمة وعزوف الشباب عن الزواج:

يمكن ربط شيوع التربية الأسرية الناعمة باضطرابات الهوية. فالتنشئة الناعمة الحالية أدت إلى افتقار الشباب من الجنسين للتأهيل القيادي داخل البيت وخارجه. للأسف، نلمس تضخمًا كبيرًا في أعداد الحاصلين على الشهادات العليا، يقابله افتقار في الخبرات الاجتماعية والمهارات اليدوية. يعيش هؤلاء الشباب وسط بيوت غير مطمئنة لم تعرف المودة والرحمة، ويفضلون العزوبية لأن تصوراتهم عن الزواج مشحونة بالسلبيات والصدمات. كما أن سيادة التربية الناعمة في ظل غياب الأب الفاعل جعلت الرجال يكبرون بلا نموذج أبوي، والنساء يكبرن بلا نموذج أنثوي طبيعي، لانشغال الأمهات بالوظائف المدرة للدخل على حساب دورهن الأنثوي الطبيعي الذي يُنظر إليه على أنه غير مربح.

ونتيجة لذلك، نجد ترددًا كبيرًا لدى الشباب في بناء علاقات زوجية مستقرة ودائمة. وبالرغم من كل وسائل التواصل المتاحة، ساعدت البيئة الرقمية على تأجيج العواطف بحثًا عن العلاقات العابرة والمؤقتة. وظهرت لدى المتزوجين صعوبات جمة في التواصل الواقعي، واندفاع نحو التواصل الافتراضي، وكثرت معاناة النساء والرجال من الخيانة الإلكترونية.

بالإضافة إلى مساهمة البيئة الرقمية في نشر التنشئة الناعمة، يمكن القول إن اضطراب الهوية لدى الفتيات والشباب يعد من أهم أسباب العزوف عن الزواج في وقتنا الحالي. فالرجل المتكامل يبحث عن أنثى طبيعية، ويصعب عليه العثور على مبتغاه، فيصاب بالإحباط والتراجع. والأنثى المتكاملة لا تقبل بأشباه الرجال، وهذا ما زاد من اكتساح تيار النعومة للوجود البشري برمته.

2. اضطراب الرجولة وفوضى الهويات:

بطبيعة الحال، يشكل اضطراب الرجولة في زمننا رافدًا كبيرًا لفوضى الهويات، وهو المتسبب الرئيسي في قلق الهوية الأنثوية، بل وفي مأساة المرأة المعاصرة واغترابها. فعندما انهمكت المرأة في إثبات تفوقها على الرجل وقدرتها على تحمل كل المسؤوليات والمهام دفعة واحدة، لم يعفِها تصدرها لمهام الرجل من مهامها الطبيعية والخاصة بها وحدها (الحمل، الولادة، وتربية الأطفال). وكانت النتيجة أنها تسببت في استقالة الرجل عن دوره، وأهدرت أنوثتها في أعمال متعددة ومشاق تفوق طاقتها، مما أفرز لنا نماذج مشوهة وفوضى وانتكاسة على كل الأصعدة، وهذا يؤثر سلبًا على مسارات الإنسان المعاصر.

ينصب القلق مباشرة على تفكك التراحم داخل البيت، لأن الأنثى فيه مشغولة بالمهمة الإنتاجية المادية على حساب المهمة التربوية والدفء الوجداني الذي يربط أواصر الأفراد. ومن أهم مظاهر اضطراب الرجولة في زمننا أن الرجل المعاصر لا يرغب في تحمل المشاق، بل يهتم بالترفيه والمرح، ومحاسبة الزوجة على أخطاء الإنفاق والهفوات الأخلاقية. وعندما لم يمتلك زمام الرجولة، أصبح متطبعًا بطباع النساء في كثرة الثرثرة وافتعال المشاكل وصناعة النكد، يدعمها لتعمل وينفق أموالها على هواه، وينفق وقته متكلمًا، ويظهر التبرم والضجر جراء التقصير الذي يلمسه من عملها خارج البيت.

ومن جهة أخرى، تعد قضية الاستقلال المالي للنساء من أهم مسببات نسف قوامة الرجال، وأيضًا تزايد اعتزاز الأنثى بسلطويتها على البيت عامل هدم لاستقراره لا محالة، خاصة في وقتنا الحالي حيث تبرز الإحصاءات أرقامًا مخيفة عن تصدر النساء لمعظم المراكز الهامة في المجتمع، بالتجاور مع إحصاءات الطلاق والخلع. حيث أصبحت الأنوثة في زمننا ميزة كبرى يتوجب الاعتداد بها والتمركز حولها، بعد نضالات حقوقية طويلة الأمد لتحقيق المساواة ونبذ التمييز.

لكن النتيجة جاءت عكسية، فشكليًا تقول الأرقام إن الزمان للنساء والمكان للنساء والسلطة للنساء، ولكن واقعيًا هو أتعس عصر عرفته الأنثى، لأن الأمر أحدث خلخلة كبيرة على كل المستويات وفوضى في الهويات، جعلتها تنسى طبيعتها وتعيش في تحدٍّ بتحمل مشاق ومهام إضافية أهدرت طاقتها وانتكست أنوثتها. ولم تعد لنا نماذج أنثوية طبيعية تؤثر في تربية الأنثى تربية آمنة مطمئنة، لأن قلق الإنسانية يتزايد مع اغتراب الأنثى عن موقعها الطبيعي.

3. العنف ضد الرجل وانهيار الفحولة:

تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في نشر خطاب الكراهية والعدوانية والعنف ضد الرجل، مما أجج فتيل صراع لا يخفت حتى يندلع، لاستهداف الأسرة برمتها، خاصة من جراء إثارة الشبهات حول دواعي وموجبات قوامة الرجل على البيت، وضرورة إعادة النظر في رئاسته للأسرة، مادامت المرأة تقوم بالإنفاق وتضطلع بمهام السيادة والسلطة في الوسط الأسري والاجتماعي. وهذا ناتج عن تراجع النموذج الأبوي وتهميش دوره في تربية الأبناء ورئاسة الأسرة وخلخلة مفهوم القوامة في زمننا هذا، وإفساح المجال لإعلاء هوية الأنثى على حساب المضمون القيمي والاجتماعي، وحضورها مركزيًا لاقترانها بالبعد الإنتاجي المادي فقط.

ومن جهة أخرى، تتفاقم صور اضطراب الرجولة في الحياة الأسرية بصورة خطيرة ومدمرة للكيان الإنساني، بحيث أصبحت مألوفة صور "الديوثة" وتحييد معاني الرجولة في أشكال باهتة وخفية، وكثرت أحداث العنف ضد الرجل وأحاديث عقوق الأبناء للآباء.

4. انتكاسة الفطرة (اضطراب الرجولة وتوحش النساء):

لماذا تتطلق النساء في واقعنا بهذه الصورة الفظيعة؟ لماذا تلجأ الكثيرات للخلع وفصم العلاقة الزوجية؟ من المؤكد أنه ليس الاستقلال المادي واستقواء المرأة وحده السبب، بل هناك ما هو خفي ومؤثر ومتعلق بخصوصيات الهوية عند الرجال بالدرجة الأولى.

يجب أن ندق ناقوس الخطر لأن قيم الرجولة في خطر، وقيم الأنوثة في خطر، ومكمن الخطورة في أننا نعيش أكثر الأوقات انتكاسة للفطرة السليمة، لأن الأنثى لا تركن إلا للرجل الذي يتصف بمعاني الرجولة الكاملة، وتأنف على نفسها البقاء في عصمة المخنثين والمتحولين وأشباه الرجال.

نجد في زمننا الرجل على نوعين: النوع الأول يتصف بالنعومة ولا غيرة له على أهله، بعيد عن القوامة ماديًا ومعنويًا، فتسترجل المرأة وترفضه صمتًا أو علنًا. والنوع الثاني يتسم بالخشونة معها، ناعم ضحوك مع غيرها، بدل أن يكون حاميها والقائم على شؤونها، يشحذ فحولته الزائفة ضدها، ويجعل دوره كرجل في حياتها أن يصعب عليها الحياة وفقط. وهذا النوع مرفوض ومنبوذ بالنسبة للأنثى الطبيعية، ولهذا أفرز هذا الوضع المعقد لاضطراب الرجولة ظاهرة توحش النساء ونظرتها للرجل كسلعة أو شيء مفرغ من معانيه وصفاته.

فالنوع الأول متفلت من قوامته ورجولته، والنوع الثاني يتخذ الرجولة شكلًا للقهر والتنكيل، فلا عزة لأنثى إلا مع رجل يحمل صفات الرجولة فيغنيها عن الكون كله. والأمر بعيد عن الاستقلال المادي للمرأة، بل له علاقة بانهيار قيم الرجولة، وهذا هو الصمام الضابط للأسرة والمجتمع.

أخيرًا، يمكن القول إن اضطراب الرجولة في واقعنا محنة كبيرة ومفسدة عظيمة، أدت إلى تراجع قيم الأنوثة وتوحش النساء في الواقع الاجتماعي وفي المواقع الإلكترونية. وعلينا أن نلتفت لهذه الظواهر المعرقلة لحركية المجتمع، ونؤسس لمنهج إصلاحي متكامل يستهدف معالجة الباطن قبل الظاهر، لأن النظرة التجزيئية للمشكلات الأسرية تزيد المفاسد وتضيع فرصًا ثمينة للإصلاح.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الهوامش:

(1)- جيل ليبوفيتسكي، ترجمة دينا مندور، المرأة الثالثة، المشروع القومي للترجمة القاهرة، ط 1، 2012، ص 17.

(2)- أولريش بك، إليزابيث غرنز هايم، ترجمة حسام الدين بدر، الحب عن بعد، بغداد، ص 67.

(3)- مجموعة من المؤلفين، المرأة والفن والإعلام، من التنميط إلى التغيير، منظمة المرأة العربية، ط،1 بيروت نوفمبر 2021، ص 391.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
كُرَبٌ وَويْلات وَسَبيل طَوْق النَّجَاة
السابق
مقررات مهارية تسهم في تأهيل خريجي الجامعات لسوق العمل

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع