البحث

التفاصيل

رؤية معاصرة في تجديد الخطاب الإسلامي (الدكتور جمال فتحي محمد نصار)

الرابط المختصر :

بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقدم إلى مؤتمر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

بعنوان 

(سمات الخطاب الإسلامي)

في الفترة من 28 – 29 / 7 / 2011

الدكتور جمال فتحي محمد نصار

دكتوراة في الفلسفة الإسلامية – كلية دار العلوم – جامعة القاهرة

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقدمة:

إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم يجد أنها تعيش في حالة انتكاسة في كافة ميادين الحياة المختلفة، هذه الأزمة أو الانتكاسة أفقدتها الكثير من منهجيتها وصوابها، حيث انحصر شهودها الحضاري، وعجزت عن التقويم والمراجعة ومعرفة أسباب القصور، وتوقفت عن أداء رسالتها في الشهادة على الناس، والقيادة لهم، وأصبح موقعها – للأسف الشديد – خارج السباق التاريخي، والواقع المشهود، والمستقبل المأمول.

ولا شك أن وصول الأمة إلى ما وصلت إليه من تخلف في شتى الميادين جعلها فريسة لما يعرف بالغزو الفكري والثقافي. هذه التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية تحتاج منا المساهمة بكل ما نستطيع لعودتها إلى ريادتها مرة أخرى، ومن ضمن هذه الجهود تجديد الخطاب الديني. ومفتاح تجديد الخطاب الديني الإسلامي هو الوعي والفهم للإسلام من ينابيعه الصافية بحيث يفهم فهمًا سليمًا خالصًا من الشوائب، بعيدًا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. فنحن في حاجة ماسة إلى رجال يحسنون عرض الفكر الإسلامي ويصيغونه صياغة جيدة، تنقي الفكر من الخرافة، والعقيدة من الشرك، والعبادة من البدع والأهواء، والأخلاق من التحلل والانهيار. رجال يتبنون كل تجديد مشروع يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويدعو إلى الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، منهجهم الثبات على الأهداف، والمرونة في الوسائل، والتجديد في فهم الأصول، والتيسير في الفروع.

وأمتنا الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى من يجدد لها إيمانها، ويحدد معالم شخصيتها، ويعمل جاهدًا لإيجاد جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به الجيل الأول قي صدر الإسلام. والفكر الإسلامي هو الفكر الوحيد الذي له القدرة الخلاقة على البعث والإحياء والتجديد، فهو فكر قادر على أن يجدد نفسه داخليًا، وأن يجدد الواقع من حوله خارجيًا، لأنه فكر يجاري السنن الإلهية في الكون. وهذا الفكر يتناسب طرديًا مع قوة الأمة الإسلامية وسيادتها، ففي حين انتصار الأمة وسيطرتها يكون الفكر الإسلامي أصيلا، لا يقبل الزيف أو الجمود، كما لا يقبل الذوبان في غيره، أما في حالة ضعف الأمة وهزيمتها، يصاب الفكر الإسلامي بالعقم والجمود تارة، وبالتبعية والذوبان في غيره تارة أخرى. ولابد أن يتصف المجدد ببعض الصفات منها: العلم والاجتهاد، وأن يكون قدوة صالحة، عدلا مرضي السيرة، ولا يكون مبتدعًا في دين الله، وله تأثير واضح في الناس، وأن يكون ذا خبرة بحال زمانه.

ومن أهم الأسباب التي تظهر حاجتنا لتجديد الخطاب الديني الإسلامي:

1- التطور المستمر في الحياة.

2- تلبية حاجات الإنسان.

3- حل المشكلات وإيجاد البدائل.

4- الضعف العام لأمة الإسلام.

5- مواجهة خطر العولمة.

وهذا التجديد المطلوب لابد له من ضوابط حاكمة منها:

الضابط الأول: مراعاة الاختصاص

الضابط الثاني: الموضوعية والتجرد من الأهواء المذمومة

الضابط الثالث: الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية:

الضابط الرابع: الاعتراف بمحدودية العقل البشري وعدم إحلاله محل الوحي

الضابط الخامس: أن يكون القصد من التجديد إصلاح الفكر الديني لدى الأمة

الضابط السادس: الالتزام بأساليب اللغة العربية وقواعدها في تفسير النصوص الدينية وتأويلها

الضابط السابع: الحذر من الحكم على أمر ما اعتمادًا على نص واحدٍ، وإغفال بقية النصوص الدينية التي وردت فيه

  وللوصول بالخطاب الديني الإسلامي للمستوى الذي يتواكب مع مقتضيات العصر لابد من اتخاذ بعض الإجراءات المهمة منها:

1- تجديد مناهج الدراسات الإسلامية، بما يكفل تكوين عقلية مستنيرة ومعتدلة تميز بين الثابت والمتغير، والكليات والجزئيات، والأصول والفروع، وتراعي الأولويات فتجعل أكبر همها الاشتغال بقضايا الأمة المصيرية حتى تنهض الأمة من كبوتها، وتخطو إلى الأمام على هدى وبصيرة.

2- تدريس مادة الثقافة الإسلامية في مراحل التعليم العام، والتي تعني بإبراز جوانب الوسطية الإسلامية القائمة على الخير والرحمة والعدل والمساواة وتطبيقاتها في التشريع الإسلامي.

3- على المؤسسات والجهات المسئولة في العالم الإسلامي تقدير الدور الديني في حياة الأمم والشعوب، فلا يتصدى للخطاب الإسلامي، ولا يتحدث باسم الإسلام غير المؤهلين، وعدم استبعاد أصحاب الفكر الإسلامي المستنير.

4- إنشاء قناة فضائية لا تنتمي لاتجاه معين أو دولة بعينها متعددة اللغات تكون مهمتها: نشر المبادئ الإسلامية الصحيحة والتأكيد على سماحة الإسلام ورحمته، والتركيز على الأولويات في الإسلام، وغض الطرف عن الاختلاف في المسائل الفرعية والانتصارات المذهبية.

5- حماية صورة الإسلام من عمليات التشويه المتعمد الذي يقوم بها الإعلام الغربي، وذلك بأسلوب عصري، وبعيد عن الانفعالات والانتصارات والتشاجرات مع الآخر، مع بيان ما للثقافة الإسلامية من فضل على الثقافة الغربية. 

تمهيد :

المتأمل في واقع الخطاب الإسلامي السني يدرك أن الخطاب الديني قد تنوع إلى ثلاثة خطابات دينية بارزة على الساحة الإسلامية:

1ـ الخطاب الوسطي:

الذي يجمع بين براهين العقل وأدلة الحسن في دعوته أو "خطاب الوسطية الإسلامية". الوسطية في قضايا الاعتقاد، والوسطية التي تجمع بين مطالب الإنسان المادية والروحية، والوسطية في قضايا الأخلاق بما فيها من عدل ورحمة وإحسان، ومنع للظلم، والجور والاستعباد، والوسطية في أمور العبادات من يسر وسهولة، وكونها لا حرج فيها، وكونها ذات مراتب ودرجات، والوسطية في قضايا الزواج والعلاقات الأسرية، فلا رهبانية ولا تعدد غير محدود، ولا إباحية متحررة من كل ضابط، وإنما تحصن بالزواج مع تحمل المسئولية والنفقة، وتعدد محدود ومشروط، وإباحة للطلاق حماية للأسرة من الشقاق والتنافر. والوسطية: في النظام المالي الاقتصادي ـ من بين المذاهب الاقتصادية الوضعية ـ والوسطية: في نظام الحكم والإدارة. ويمثل هذا الخطاب في الفكر الحديث والمعاصر مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي، وفي مؤسسات العالم الإسلامي: الأزهر الشريف والجامعات الإسلامية التي احتضنت، وتحتضن كل تراث الأمة، دون تعصب لمذهب أو فرقة والتي تستلهم من التراث ـ كل تراث السلف والخلف جميعًا ـ ما هو صالح للإجابة على علامات استفهام الواقع المعيش.

وهذا الخطاب الوسطي، يتميز ـ في "نظرية المعرفة" باعتماد كلاً من الوحي ـ كتاب الله المسطور ـ والكون وعالم الشهادة ـ كتاب الله المنظور ـ اعتماد هذين المصدرين والكتابين مصدرًا للعلم والمعرفة، والقراءة لهما وفيهما معًا. والاعتماد ـ في سبيل المعرفة وآلياتها وطرائقها ـ على كل من: العقل والنقل والتجربة والوجدان لتصبح الثقافة الإسلامية، والخطاب الإسلامي مزيجًا من ثمرات هذه المصادر والآليات والروافد جميعًا.  ففي هذا الخطاب يرقق القلب والوجدان الحسابات المجردة للعقول كي ينقذها من الجفاف، وتضبط الحسابات العقلية وتوقظ خطرات القلوب وإلهاماتها كي لا تتحول إلى شطحات، وينقذ النور القلبي والنظر العقلي النص والنقل الديني من الحرفية والجمود، ويسهم كل ذلك في خلق فلسفة إيمانية لتطبيقات حقائق وقوانين علوم "التجربة والحواس" العلوم الطبيعية والمادية لتكون هي الأخرى علومًا مؤمنة، يصبح علماؤها هم الأكثر خشية لله سبحانه وتعالى ـ خالق المادة التي فيها يبحثون والعقل والحواس التي بها يكتشفون الأسرار والتي أودعها سبحانه في مادة هذه العلوم، فيصبح العلم المادي في هذا الخطاب الوسطي سبيلاً لتعميق الإيمان الديني والعقلانية المؤمنة، وليس ـ كما حدث في الغرب ـ الذي وقف في مصادر المعرفة عند الواقع المادي وحده، وفي سبيل المعرفة عند العقل والتجربة وحدها ـ سبيلاً لإحلال العلم محل الدين، وجعل الدين "طبيعيًا" لا إلهيًّا حتى صاح بعض فلاسفة الحداثة الغربية تلك الصيحة المنكرة: "لقد مات الله" عليهم لعنة الله.

2ـ الخطاب النصوصي الحرفي:

هذا الخطاب يقف بالنص عند ظاهره دون إعمال للعقل في المقاصد الشرعية لهذه النصوص، وأصحاب هذا الخطاب يغلب عليهم الاهتمام الجاد بالشكليات والمظاهر دون توجيه العناية بالأمور الجوهرية في الدين. وأغلب ما يكون اهتمامهم ـ على سبيل المثال ـ اهتمامهم الزائد بالطهارة الحسية، والنجاسات المادية، وأحكام اللباس والزينة إطالة وتقصيرًا، واللحوم المحرمة، وأحكام الشعور ما يقص منها وما يعفي وما ينتف، وما لا ينتف، وكشكليات الاقتداء بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طريقة أكله وشربه ومشيه ولباسه. وهذا الخطاب كثيرًا ما يتهاون في أمور أساسية في الدين سواء أكانت من الواجبات أم المحرمات تاركًا الحديث عنها خلف الظهر كأمور الوحدة بين المسلمين وجمع الشمل بينهم، بل إن أصحاب هذا الخطاب كثيرًا ما يعملون على إحياء التعصب المذهبي بين التيارات الفكرية الإسلامية، وتدبير المكايد ضدهم، وذلك نتيجة الفهم السطحي والحرفي للنص الديني. 

ومن مظاهر تهاون هذا الخطاب في أمور أساسية في الدين:

جفاف العاطفة لدى التعامل مع الفئات الأخرى من المسلمين. واستخدام المراكز الإدارية للمصالح الشخصية أو الحزبية إلى غير ذلك من أمور كثيرة هي من الدين بمثابة الأسس والقواعد.
وذلك لأن الخطاب السلفي، أو النصوصي كما سُمي يُؤمن بشيئين كانا سببًا في رفضه التجديد الديني: الأول: رؤيته للتاريخ الإنساني ـ كما تصفه العقيدة السلفية، اعتمادًا على أفهامها النصية في السنة النبوية ـ متقدمًا نحو الأسوأ فالزمان يمضي بالفتن كقطع الليل المظلم، ولا يأتي يوم إلا والذي بعده شر منه، وبالرغم من أن هذا التصور للعالم يدو في الرؤية السلفية نصيًا إلا أنه في الواقع تأويلي، فبالإمكان تقديم فهم آخر يقوم على تصور مغاير كما نشهده في خطابات الإصلاح والتجديد. 

والثاني: هو التعامل مع الأزمنة على أنها ثابتة لم تتغير في عمومها فالتطورات الحاصلة في التاريخ الإنساني منذ عصر النهضة الأول ـ بل منذ عصر النبوة ـ وحتى الآن لا تعدو مجرد حصول "تقدم مادي" للغرب قام على أساس استثمار لنتاجنا العلمي "المغتصب" وهكذا ليس هناك داع لإعادة التفكير في فهم للدين، فالدين في معناه النقي والصحيح موجود هناك حيث "السلف الصالح" ولهذا نشهد تعبير "العودة إلى الإسلام" دون أن يراود السلفي تفكير إشكالي في مؤدى هذا التعبير حيث يجعل الإسلام خلف الزمان دومًا وليس معه أو أمامه، فهو يردد بلا كلل: لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها قاصدًا من هذا النص ليس الدين نفسه بل "فهم الدين على طريقة السلف" دون زيادة أو نقصان.

3ـ الخطاب الصوفي:

وهو الخطاب الذي يركز على الجانب الأخلاقي والوجداني، وإصلاح القلوب، ومجاهدة النفس، معتمدًا في ذلك على الكتاب والسنة ومقيدًا بهما، خاليًا من الانحرافات الفكرية والسلوكية، والبدع، والخرافات التي تتنافى مع مبادئ هذا الدين. فهو يتنافى مع السلبيات التي عكرت صفو التصوف، ويدع كل الشوائب الدخلية عليه. إلا ان هذا الخطاب كشأن بعض الخطابات الدينية له مآخذ تؤخذ عليه كما أنه له فوائد تذكر له: فمما يؤخذ عليه: أنه لا يكفي وحده لعرض جوانب الإسلام كلها، إذ إنه يركز تركيزًا أكثر وأكثر على الخلق الإسلامي والعبادات الدينية دون غيرها من الجوانب الأخرى لخطاب الدين.
ومن فوائده التي تذكر له: 

1ـ أنه يجمع كثيرًا من أقوال الصالحين، وحكم الزهاد والعباد، وأهل التقوى والبصيرة.

2ـ أن فيه لفتات روحية مشرقة في فهم الآيات والأحاديث والتعليق عليها لا توجد في غير هذا الخطاب.

3ـ أنه حين عني الفقهاء بأحكام الظاهر المحس، والمتكلمون بالجانب العقلي الجاف، عنوا هم ـ أهل التصوف ـ بأحكام الباطن، ودراسة آفات النفوس ومداخل الشيطان إليها، وكيفية وقايتها وعلاجها.

4ـ أن في أقوالهم ـ أهل التصوف ـ حرارة وحيوية يلمسها المدعو، ولعل ذلك نتيجة المجاهدة النفسية، والرياضة الروحية التي يعانونها، وليست النائحة كالثكلى. وجمهور هذا الخطاب ورواده غير قليل، بحيث لا يمكن تجاهلهم، بل قد يزيد هذا الخطاب في بعض الأقطار الإسلامية، حيث يكون هو أكثر أنواع الخطاب الدينية ذيوعًا وانتشارًا. أقول: ولكن من يجعل من هذا الخطاب وحده "الإسلام" يجعل من واقع المسلمين أنواعًا كثيرة للإسلام، بل إسلاميات عديدة بعدد تنوع خطاباتهم، ولكن هذا الخطاب جزء في مجموع يمثل دين الله الواحد. 

الفصل الأول

ضرورة التجديد

تتابع الأنبياء والرسل على مدى العصور والأزمان ليؤدوا مهمتهم التي بعثوا من أجلها، وهي إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فيغيروا وجه الحياة ويهدوا الناس إلى طريق النجاة.
فبعثتهم كانت لتجديد دين الله في النفوس، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم، وإرشادهم إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. وكلما ابتعد الناس عن مصدر الوحي ـ مصدر النور والهداية ـ أرسل الله إليهم رسولاً ليهديهم إلى صراطه المستقيم. قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (النحل: 36). وقد ختم الله رسالاته برسالة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسالة كاملة، شاملة، عامة، خالدة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3). وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28). وقال أيضًا: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب: 40). ولما كانت رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة وخالدة وباقية بقاء الحياة نفسها ـ إذ أرادت المشيئة الإلهية توحيد المرجعية البشرية بهذا الدين ـ كان التجديد بديلاً عن تتابع النبوات الذي كان فيها الأمم السالفة، حيث انتهت رحلة النبوة التاريخية بكل عطاءاتها وقيمها إلى المجددين من هذه الأمة، ورثة الأنبياء، الذين يصلحون ما أفسده الناس (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر: 32). 

إذ يعتري الأمة فترات ضعف وتخلف، ينضب على أثره تسلل عادات وأفكار معوجة تلحق بدين الأمة بسبب هذا الضعف والتخلف، والذي من مظاهره سيطرة كثير من الأوهام والخرافات على العقل الإنساني، وتجاوز سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق، والعزوف عن الأخذ بالأسباب، والاهتمام بالمظهر وترك الجوهر، والتشبث بالتقليد والتبعية العمياء فلا يفرق بين الحق والرجال، وإنما يعرف الحق بالرجال بدلاً من معرفة الرجال باتباع الحق، إلى غير ذلك من صور التدين المغشوش. لهذا كان تجديد الخطاب الديني ضرورة تحتمها طبيعة هذا الدين ـ الدين الخاتم ـ ويحتمها الواقع المتغير والمتطور.

هذا ومن الأسباب التي تجعل التجديد ضرورة لازمة أيضًا ما يلي:

1ـ اندراس بعض معالم الدين في عقول وسلوك كثير من الناس.

2ـ اختلال فهم مراتب الأعمال الشرعية في الخطاب الإسلامي لدى كثير من المعاصرين.

3ـ الأحداث المستجدة.

أولاً: اندراس بعض معالم الدين:

ظهرت بعض الفلسفات والتقاليد والعادات التي غيرت فهم الناس لكثير من حقائق الدين الإسلامي فاندرست بعض معالمه ويرجع ذلك إلى أمرين: الأول: كثرة العوامل التي تحول بين الناس وبين التطبيق الكامل لمبادئ الإسلام: فذلك أدى بدوره إلى اندراس بعض معالم الدين، وكثرة الفساد واتساع رقعة الانحراف، وتفشي البدع والضلالات، وعندها تصبح الحاجة ملحة إلى بعثة المجددين وبروز قيادات إسلامية متميزة تعمل على إظهار الإسلام وتقديمه كما أنزل الله، وتبعد عنه كل العناصر والجزئيات الدخيلة عليه، التي تحول دون تفاعل النصوص مع واقع الحياة، وتحيي ما اندرس من معالمه وأحكامه.
الثاني: الغزو الثقافي ـ المتمثل في العولمة ـ لبلاد الإسلام وانفتاح بلاد الإسلام أمام الفلسفات والثقافات والعادات الغربية السلبية قد أدى بدوره إلى اندراس بعض معالم وحقائق هذا الدين، ولذلك توجه سهام الغزو الفكري دائمًا إلى سياسة تطوير التعليم، والسياسة الإعلامية لتربية أبناء المسلمين على معالم وقيم وعادات وأخلاق النظام الدولي الجديد، والعولمة تسعى إلى "بث القيم المادية وإحلالها محل القيم المعنوية كما تعني أيضًا الحياة وفقًا للنظم والأسس التي تفرضها أمريكا على غيرها من الدول.

ويشهد النظام الدولي تحولات نحو هيمنة النظام الأمريكي على باقي أنظمة العالم، وكذلك إخضاع الأنظمة السياسية والاقتصادية للمصالح الأمريكية، ولكي يتحقق ذلك فلا بد من تهميش الأنظمة الحضارية ذات الجذور الدينية، مثل النظام الإسلامي، حتى تتهيأ الشعوب لقبول النموذج الأمريكي في الحياة باعتبار أنه أفضل النماذج التي تمثل حضارة العصر الذي نحياه"( ).
فاستطاع هذا النموذج الغربي الأمريكي أن يفرز سمومه على البلدان الإسلامية مخلفًا وراءه التشويه لمعالم وحقائق هذا الدين، ووصفه بالنعوت الإرهابية والرجعية، وإيجاد التيارات الفكرية المنحرفة التي تخدم أهدافه والتي لا غاية من ورائها إلا القضاء على هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا.

ثانيًا: اختلال فهم مراتب الأعمال الشرعية في الخطاب الديني: امتلأ الميدان الدعوي بأصوات كثيرة انطلقت لتبليغ الإسلام وهداية الناس، لكن جزءًا منها لم يحمل صفات الدعاة الفقهاء مما أدى إلى اختلال ميزان الترتيب الدعوي، وتمثل ذلك فيما يلي: أ ـ الاهتمام بالفروع والجزئيات والقضايا الهامشية وإهمال الأصول والكليات والقضايا الجوهرية: ومن مظاهر هذا الاهتمام تركيز الوعاظ وخطباء المنابر على الأمور الفرعية والهامشية، وتعظيم الأمور الهينة، وتهوين الأمور العظيمة، فيقيموا الدنيا ويقعدونها من أجل الإصبع في التشهد هل نحركه أم لا؟ أو البسملة في الصلاة هل نجهر بها أو لا؟ أو صلاة ركعتين أثناء الخطبة هل نصليهما أو لا؟ أو كيفية السجود في الصلاة هل نقدم الرجلين أو اليدين؟ وما إلى ذلك من المسائل الفرعية التي طال فيها الجدل، ونفخ في جسمها في حين أغفلت كثير من القضايا الجسيمة والمهمة، وهي قضايا عديدة وملحة وأجدر بالاهتمام، كقضية مديونية الأمة وتبعيتها الاقتصادية والسياسية لغيرها، وتسريب الثروات إلى الخارج وإيداعها في مصارف أعدائها، وتزوير الإرادة الشعبية في الانتخابات، وإهدار مصالح الخلق، وأكل أموال الناس بالباطل، والغني الفاحش في مقابل الفقر المدقع، والأمية وغير ذلك من القضايا الأساسية. 

فأغلب المتحدثين في المساجد يتحثون في المهم على حساب الأهم، ويثيرون مواضيع لا يعيشها المسلم المعاصر، ويتهربون عن قصد أو عن غير قصد من علاج المشاكل التي تشغل بال الناس وتستغرق همومهم.. وعادة ما يلقون خطبهم بأسلوب عربي فصيح ربما لا يفهمه الخطيب نفسه إذا كان ينقل خطبة من "كتب الخطب، التي ألفت في زمان مضى، فتصل المعاني إلى المستمع باردة، فيدب الملل والضجر في نفوس بعض المصلين، ويتسرب النعاس إلى آخرين"( ) نظرًا لفقر الخطاب الديني، واضطراب معالم الفكر فيه، واهتمام دعاته بالقشور دون اللب، بينما الأمة تواجه تحديات ومخاطر جسيمة تدفع بها في درك التخلف والانحطاط. 

فمشكلات عصرنا غير مشكلات العصور السابقة، وأساليب حياتنا غير أساليب حياة السابقين، وإذا كنا قد رصدنا هذه الصورة من صور الاختلال لدى بعض الخطباء والدعاة، فعلى الصعيد الرسمي والقيادي للمؤسسات الدينية ـ في أحد الأقطار العربية والإسلامية ـ أثيرت مسألة توحيد الآذان، وهو أمرٌ بالغ الدهشة والعجب؛ إذ كيف يصدر مثل هذا عن قيادي المؤسسات الدينية ـ المسئولة عن الخطاب الديني في أكبر قطر عربي مسلم. 

ب ـ الاهتمام بالشكل والمظهر أكثر من المضمون: 

المضمون مقدم في أهميته على الشكل والمظهر، هذا مع اعتبار أن الشكل في الإسلام له قيمته وأهميته، إلا أن الملاحظ في طائفة من المتحدثين باسم الإسلام، الاعتناء بالشكل على حساب المضمون في خطابهم الديني، بل يحرصون في ذلك الخطاب على الدعوة إلى اللباس التقليدي تلازمه العمامة، داعين في مقابل هذا الأمر إلى النهي عن اللباس العصري؛ لأن فيه تشبهًا باليهود والنصارى، وقد اعتبر أحد الباحثين من أصحاب هذا الاتجاه أن التشبه بالكافر في المظهر يورث التشبه بهم في الاعتقاد فيقول: "الدين الإسلامي ليس حريصًا على تميز المسلمين في المضمون فحسب وإنما حتى في المظهر العام للمسلم في نفسه والمجتمع في عمومه، لأن التشبه بالكفار في المظاهر يورث التشبه بهم في العقيدة أو مودتهم". "وهو تلازم بعيد إذ كيف يؤدي التشبه بالكفار في مظاهرهم إلى اعتناق عقائدهم، إن العكس هو الصحيح. إنه ينبغي أن يعطي للموضوع حجمه الحقيقي، فالذي يحرم على المسلم ـ بلا شك ـ التشبه فيه بالكفار هو الهيئات التي لها خلفيات دينية أو عرقية أو مذهبية، أما الأزياء العادية التي يشترك فيها جميع الناس بغض النظر عن أجناسهم وديانتهم فتبقى مباحة للجميع". وقد أثبت أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرتدي ما تيسر له من الثياب كما ذكر ابن القيم.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: وأما التشبه بالكفار فالممنوع منه ما كان من خصائصهم المميزة لهم، باعتبارهم أصحاب دين مخالف، كلبس الصليب مثلاً، وهو من خصائص النصارى، وارتداء ملابسهم الكهنوتية المميزة، ويدخل في ذلك الاحتفال بأعيادهم الدينية، ونحو ذلك مما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القيم "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم". وما عدا هذه الأمور الشاخصة البارزة، فالمدار فيه على النية والقصد، فمن قصد التشبه بهم باعتبارهم مخالفين لدينه فهو مؤاخذ بنيته وقصده، ومن لم يخطر التشبه بباله، بل البيئة التي نشأ فيها فقط، أو أخذ بما هو أيسر عليه، أو أعون على مهمته، كالعامل أو المهندس الذي يلبس ما يسمونه "الأفرول" في مصنعه أو مجال عمله فلا حرج عليه ولكل امرئ ما نوى. أما تقصير الثياب فهو مستحب، ولكن تطويله ليس بحرام إذا كان مجرد عادة وليس على سبيل الخيلاء، كذلك يبالغ هذا الخطاب في الحديث عن إطلاق اللحية وعدم جواز الأخذ منها، ومعاداة حالقها. وعدم الصلاة خلفه، حتى أن بعض الدعاة أفرد لذلك عددًا غير قليل من الجمع يتحدث فيها عن أدلة وجوب إطلاق اللحية، وسوق أدلة تحريم حلقها، متيقنين أن ذلك من حقيقة السنة، وغير ذلك مما تسبب في ضياع الجهود والأوقات في ما لا فائدة فيه. 

جـ ـ سوء التقدير للمصالح والمفاسد في بعض ألوان الخطاب الديني "الفتاوى والأحكام الشرعية":

تقدير المصالح والمفاسد لا يبنى على النظرة السطحية، بل لا بد من النظر في مآلات الأمور، وقراءة الواقع قراءة جيدة كقراءة النصوص؛ ليصدر عن ذلك فتوى صائبة تحسن تقدير المصالح كما تحسن تقدير المفاسد. يقول ابن تيمية: فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل منه المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. ويقول ابن القيم: لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:  أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن، والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: هو فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر( ).
ويقول الشيخ سعيد حوى عن الفتوى البصيرة: أنها تضع كل شيء في اعتبارها الوضع الأصلي والوضع الاستثنائي، وتوازن بين الشرور والأضرار، وتضع في حسابها المصلحة الشرعية، وتأثير الأوضاع والأعراف على بعض الأحكام. ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: ولقد تبين لي من تجاربي أن التشديد في غير محله يجلب على الإسلام مفاسد كبيرة، كما يضيع عليه وعلى أمته مصالح كثيرة.

ثالثًا: الأحداث المستجدة: 

ترتب على مظاهر الحضارة  الحديثة ظهور العديد من القضايا الدينية المستحدثة التي تستلزم فتح باب الاجتهاد والتجديد. فلو نظرنا إلى الواقع الإنساني بمستجداته التقدمية، وأوضاعه وقيمه الجديدة، وهو المعبر عنها بروح العصر لوجدنا كمًا هائلاً من العادات، والأعراف، والحوادث التي ظهرت في الواقع المعاصر، وتطور هذا الواقع ليس بالضرورة أن يكون تطورًا نحو الأفضل في جميع نواحيه. بل قد يكون التطور نحو الأفضل وإلى الخير، وقد يكون نحو الباطل وإلى الشر، وعالم اليوم شاهد على ذلك فيما آل إليه الإنسان من تقدم واكتشافات، وما ساد فيه من قيم وعادات، بل وانحرافات هذا الواقع المتطور، والحوادث المستجدة والمشكلات المتجددة لا بد لها من حلول وأحكام، وهنا تظهر الحاجة إلى التجديد، ويأتي دور الاجتهاد وتنزيل النصوص الشرعية على ما تطور واستجد من أحداث. قال العلامة الشاطبي: فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا يكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وهو معنى تعطيل التكليف لزومًا، وهو مؤدٍ إلى تكليف ما لا يطاق، فإذن لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع لا تختص بزمان دون زمان.

ودور المجتهد أو المجدد هنا يكمن في المحاولة الهادفة بتنزيل الوحي على الواقع المتطور، وهذا التنزيل يستلزم مرحلتين:

الأولى: فهم مراد الله في الأوامر والنواهي.

الثانية: جعل هذا المراد الإلهي حكمًا على الواقع المتطور، والأحداث المستجدة.

يقول الدكتور عبد المجيد النجار: فالفهم يهدف إلى تحصيل صورة المراد الإلهي في الأوامر والنواهي التي تتعلق بأجناس الأفعال مجردة، والتنزيل يهدف إلى جعل ذلك المراد الإلهي الذي حصلت صورته في الذهن قيمًا على أفعال الناس الواقعة بحيث تصبح جارية على مقتضاه في الأمر والنهي. فدور التنزيل إذًا يتعلق بالوصل بين الوحي والواقع على معنى تبيين المسالك والكيفيات التي يأخذ بها الوحي مجراه نحو الوقوع، ويأخذ بها الواقع مجراه نحو التكيف بإلزامات الوحي. وبدون هذا التنزيل الدائم، والتجديد المستمر "تحدث الفجوة بين الشريعة الإسلامية التي هي وضع إلهي ثابت وبين مقتضيات ومتطلبات الواقع ـ المتغير والمتطور دائمًا وأبدًا ـ الأمر الذي لو ساد الجمود والتقليد ـ في الفكر والفقه والخطاب الإسلامي ـ يفضي إلى انفلات الواقع المتطور من حاكمية الشريعة الثابتة فيكون العجز عن أن تظل هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان فتغيب حجة الله على عباده، وهدايته لخلقه، بعد أن ختمت الشرائع السماوية بشريعة الإسلام. فكون هذه الشريعة الإسلامية هي خاتمة شرائع السماء إلى الإنسان، وصلاحيتها لكل زمان ومكان مرهونان بالتجديد الدائم في الفكر والفقه والخطاب الإسلامي لمواكبة مقتضيات ومتطلبات مستجدات الواقع المتطور دائمًا وأبدًا، ولبقاء حجة الله على عباة قائمة إلى يوم الدين". وبذلك تظل الحاجة الدائمة والمستمرة إلى التجديد.

الفصل الثاني

ضوابط التجديد

المقصود بالضوابط مجموعة القواعد والمحاذير الواجب مراعاتها في تجديد الخطاب الإسلامي، والتي تضبط حركة العقل والانفعالات لدى الإنسان فتأتي النتائج إيجابية، خالية من الانحرافات الفكرية والتصورية التي تخالف الشريعة الإسلامية ومقاصدها. ومن أبرز هذه الضوابط ما يلي: 

الضابط الأول: مراعاة الاختصاص: فشأن المعرفة بالإسلام كعلم هو أرفع العلوم، وأعظمها نفعًا، وأجلها شأنًا وقدرًا، وعلو شأنه ومكانته تأتي من كونه يتعلق بالشرع وهو الله سبحانه وتعالى، هذا بالمقارنة بالتخصصات العلمية الأخرى من طب وهندسة وكيمياء وفلك، مع أن التخصصات الأخيرة يشترط للمتحدثين باسمها أن يكونوا من أهل اختصاص هذه الفنون أو العلوم. فهذا المبدأ مبدأ الاختصاص شرط بدهي بل وأساسي لأهل هذه التخصصات، فكيف بأرفع هذه العلوم وأعظمها، وأصل كل ثقافة، ألا يستوجب أن يكون أعظم حرمة من هذه التخصصات. إن مثل من يتحدث في الإسلام من غير أهله مثل الحلاق الذي اشتغل بمداوة المريض ومعالجة العليل، وهو لا يعرف عن الطب والجراحة سوى ختان الذكور، ونزع الأسنان. والإسلام قد أقر هذا المبدأ ـ مبدأ الاختصاص ـ بل واعتبره مطلب شرعي وعقلي يقول الله تعالى: (...فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43). وقال: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83). وقال أيضًا: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122). 

واليوم يتجرأ على التجديد وينظر له أنصاف المتعلمين، وأرباعهم، وأدنى من ذلك، فضلاً عن غيرهم ممن لا علاقة لهم من قريب ولا من بعيد بالإسلام وعلومه وفنونه، ومن لا علم له ولا فقه ولا خبرة ولا قدرة على الاستدلال بالنصوص، وإنزالها في منازلها، ولا يدري شيئًا عن قواعد الاستدلال من حيث العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد والنسخ، والمصالح والمفاسد، وهؤلاء وإن كانوا بارعين في مجالات معينة أو في اختصاصاتهم وفنونهم التي يشتغلون بها، لكنهم في العلم الشرعي لا يخرجون من فصيلة العوام، فالتجديد مهمة الراسخين في العلم، وأهل الحل والعقد في الأمة عبر المجامع والمؤتمرات العلمية الجامعة التي تتمتع بالاستقلال وحرية الرأي. والناظر في الواقع المعاصر: يسجل أيضًا مؤسسات وهيئات، منهم العلمانيون، والشيوعيون، والملاحدة، بل ومنهم الصهاينة والصليبيون المتآمرون على الإسلام وأهله، كما أن منهم المسلمين المخدوعين يتكلمون في التجديد والخطاب الإسلامي. وكل صيحاتهم تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ومقاومة الدين، والتهجم على النصوص المقدسة، والتأويل التحريفي لها تحت مظلة حرية الرأي والفكر. إن أحكام الإسلام ليست "بأقل حرمة من قضايا الهندسة، والطب والجغرافيا، فإذا كنا لا نقبل من أعلام الهندسة أن يفتونا في أدق الشئون الطبية ولا في أوضحها فكيف نقبل من رجال لم يتخصصوا في الدراسات الدينية الإسلامية أن يفتونا في شئون ديننا، فكيف نقبل من لجنة فيها كوهين، ومرقص، والمستشرق فلان من أعداء الإسلام أن يجددوا لنا خطابنا الديني".

الضابط الثاني: الموضوعية والتجرد من الأهواء المذمومة:

الموضوعية في التصور الإسلامي هي البحث عن الحقيقة اتفقت مع ميول الباحث أو لم تتفق، والتمسك بالحق بعيدًا عن الأهواء الباطلة، والمزاعم الفاسدة( ) كالكبر والمذهبية والتقليد وغيرهم، وتتم في ثلاث خطوات:

1ـ استهداف الحقيقة: فالمسلم وجه بأن يطلب الحق ويبحث عن الصواب، قال أبو حامد: ينبغي أن يكون طالب الحق في طلبه كناشد الضالة لا يفرق بين أن تظهر على يده أو غيره، وهكذا كانت مشاورات الصحابة. 

2ـ الانطلاق من الحق بجعله المعيار الذي يسعى في عمله على أساسه، ويزن الأمور بميزانه دون الأهواء والشهوات والرغبات الخسيسة. قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (الشورى: 17). 

3ـ الأخذ بالحق دون مراوغة عنه أو اكتفاء بما يوافق الهوى منه، أو الوقوف عند حد الاعتراف النظري به، وقد مدح الله سبحانه أولئك الذين التزموا الحق حينما عرفوه، فقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة: 83). كما ذم الذين يكتفون من الحق بما يوافق أهواءهم، وبين أن ذلك يعد إهمالاً للحق كله.
قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (النساء: 150 ـ 151). وكذلك ذم الذين يعرفون الحق ولكنهم يكتمونه ولا يطبقونه فقال عز شأنه: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 46). وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ رجاعين إلى الحق إذا عرفوه، متراجعين عن الخطأ إذا بُين لهم، ولا يحول بينهم وبين ذلك مكانة اجتماعية أو رأي خاطئ قالوه سلفًا، أو دونية من جاءهم بالحق. ومن هنا يتبين أن هذا الضابط من أهم الضوابط اللازمة لتجديد الخطاب الإسلامي وإعادة التصور الصحيح، والفهم السليم للمبادئ والأصول الإسلامية؛ وذلك لأنه ضابط إيماني أخلاقي، ضابط من داخل النفس لا من خارجها، فهو قبل كل ضابط، وفوق كل ضابط ـ إنه التجرد لطلب الحق ـ على معنى أن يكون الاهتداء إلى الحق المجرد نصب عينيه، وقبله عقله وضميره، وغاية غاياته في سعيه.

الضابط الثالث: الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية:

أصول الدين وثوابته لا تقبل التجديد بأي حال من الأحوال، وأي تجديد يتناول شيئًا منها لا اعتبار له لمخالفته للشريعة الإسلامية، كالتجديد الذي يبيح الربا، ويرفض الحجاب، وإقامة الحدود والشرائع. وإذا كان هناك تجديد في الأصول والثوابت الإسلامية من منظور الإسلام، فإنه التجديد الذي يحيي الأصول ويعيد الحيوية إلى الثوابت، بل هو السبيل لامتداد تأثيرات ثوابت الدين وأصوله إلى جوانب الحياة المختلفة. والإسلام بما أنه هو دين الزمان والمكان لا بد وأن يشتمل على ثوابت ومتغيرات وأنه في حال الثوابت جاء بتحديدات ومفاهيم ثابتة خالدة لا تتأثر بتقلبات الزمان، ولا بتطور الأحوال والعادات، وهي قابلة للتطبيق في عصرنا الحاضر كما كانت مطبقة في عصر الصحراء والإبل. والتعامل مع الثوابت والمتغيرات على وجه واحد إما أن يفضي بالثوابت إلى التحلل وضياع الهوية الدينية، وانصهار العقيدة الإسلامية في المل والنحل الأخرى، وإما أن يفضي بالمتغيرات إلى الجمود والتقليد، وكلتاهما يضيع الدين بينهما. أيضًا: هذه الثنائية في الإسلام بين ثوابت ومتغيرات "تكشف عن إعجاز هذه الرسالة وأنها ـ بحق ـ دين الفطرة؛ لأن الإنسان ـ بما هو روح وجسد كائن مواطن في عالمين، ومشدود إليهما بعلاقتين: علاقة بالله تعالى وعلاقة بوسط مادي متغير غير مستقر، فما كان متعلقًا بالله من عقائد وعبادات ونظم ثبته الإسلام، وما تعلق بالجانب المتغير راعي فيه المرونة والحركة ولكن في إطار الأهداف العليا للإيمان بالله تعالى، من هذا جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المتعلقة بالمتغيرات مثل الأحكام المدنية والدستورية والجنائية والاقتصادية متضمنة للأهداف والمبادئ الأساسية في الدين". ومن ثوابت الدين التي لا تقبل التجديد ولا التغير ـ هي العقيدة الإسلامية، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما ثبت بدليل قطعي من المحرمات كالزنى والربا وشرب الخمر، وأصول الأخلاق بجانبيها وهذا يشمل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه كالإخلاص، والخوف من عقابه، وما يتعلق بالإنسان وأخيه الإنسان من صدق ووفاء ورحمة وبر وإكرام، وكذا ما ثبت بنصوص قطعية في أمور الشريعة والحدود والقصاص والمعاملات، وأمور الأسرة من زواج وطلاق وإرث.
فهذه الأصول والثوابت من أهم الضوابط التي ينبغي الاعتصام بها والمحافظة عليها في الإطار التجديدي للخطاب الإسلامي. ومن المعلوم أن هذه الأصول، والنصوص القطعية "دلالة وثبوتًا" ما يتعلق بالمحرمات وغيرها لا تتعارض مع اليقيني الثابت من العلم ولا مع المصالح القطعية للناس حتى تدخل في الإطار التجديدي. 

الضابط الرابع: الاعتراف بمحدودية العقل البشري وعدم إحلاله محل الوحي: 

هناك من الأمور ما هو فوق طاقة العقل البشري، وخارج عن حدوده، وأي خوض فيه إنما هو تخبط لا يجني العقل من ورائه إلا الأشقاء والضلال؛ وذلك لأن العقل الإنساني مقيد بإطار الزمان والمكان الحسيين، والنشاط العقلي لا يتجاوز بمفرده دائرة الكون المحسوس؛ لأنها خارج نطاقه وقدراته ولهذا يجيء الوحي الإلهي ليكمل للإنسان دائرة المعرفة فيخبره بما هو خارج عن قدراته من عوالم الغيب المختلفة. وقد أخبرنا الوحي عن العوالم الغيبية من حيث بيان صفاتها وآثارها، ولم يخبرنا عن كنهها وجوهرها، ولذلك كانت معرفة الكنه والذات فوق طاقة العقل البشري قال تعالى عن الروح: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85). وقال عن الساعة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 187). وإذا كان الإسلام قد حجب العقل عن معرفة الكنه والجوهر في الوجود الغيبي، فإنه قد دفعه إلى تعقله عن طريق المعرفة بآثاره وصفاته، كما دفعه إلى نصب الأدلة والبراهين المثبتة له، وفرق كبير بين العلم بكنهها وجوهرها، وما أكثر الأمور التي نؤمن بها ولكننا لا نعرف كنهها كالعرش والكرسي والميزان والصراط وغير ذلك من عوالم الغيب، والقدر الذي أوقفنا الإسلام عليه في هذا الجانب الاعتقادي هو كاف في مجال المعرفة الإنسانية بهذا العالم، وأي تزيد على ما أخبر به الوحي هو تنطع في الدين، وشرود بالعقل في غير مجاله ولن يعود بفائدة على الإنسان. كما أن أي تأويل لهذه الأمور الغيبية إنما هو خروج بها عن حقيقتها وتجاوز واضح للعقل يفضي إلى تحريف الدين وتبديله لا تجديده، وتعد سافر على دائرة الوحي والتشريع لا يحصد العقل من ورائه إلا الحيرة والاضطراب.

إن مراعاة هذا الضابط في التجديد الاعتراف بمحدودية العقل، وعدم إحلاله محل الوحي يستلزم الإذعان الكامل لنصوص الوحي الصحيحة من القرآن والسنة، وتقديم هذه النصوص على العقل أو ما يراه العقل، فيصبح النص أو الوحي هو المقدم في المنزلة على العقل، وذلك لعدم إحاطة العقل الكاملة بكنه الأشياء وجوهرها، فما خالف العقل فيه الوحي فيجب أن يكون حق العقل هنا هو التأخير. وإن العكس بتقديم العقل على الوحي يؤدي حتمًا إلى ما ظهر على الساحة الإسلامية من إنكار الغيبيات أو تأويلها بما يخرجها عما أراده المشرع، من مثل الجنة والنار، ووجود الجن والشياطين والملائكة والتشكيك في كثير من الأحكام والحدود الشرعية، وكذلك التشكيك في معجزات الأنبياء بدعوى مخالفتها للعقل، وعدم القدرة على ثبوتها في الواقع، وذلك كله زيغ عن الحق وضلال في الاعتقاد نشأ عن تجاوز هذا الضابط. 

الضابط الخامس: أن يكون القصد من التجديد إصلاح الفكر الديني لدى الأمة:

الأمة الإسلامية قد أصيبت بخلل فكري، وتضارب في العقول نتج عنه تشتت الأنفس وتناقض الأفكار، والوقوع في الحيرة والاضطراب، فاستلزم ذلك إصلاح الفكر وتجديده من خلال المنهج الإسلامي الرشيد، وهذا ليس بالأمر الهين البسيط، بل هو من أصعب الأمور وأكثرها تعقيدًا وأشدها خطورة إذ إن مهمة الإصلاح والتجديد تلي في المنزلة عمل الأنبياء والمرسلين في بناء الإنسان وإعادة تشكيل هيكله الفكري والثقافي عن الدين والكون والحياة، بيد أن الفارق الجوهري بين مهمة الأنبياء ومهمة المصلحين والمجددين، أن مهمة الأنبياء جاءت بإرساء القيم التي عانت المجتمعات من خلوها وندرتها، ثم التعامل الأمثل مع هذه القيم، أي إنه كانت هناك أزمة في القيم وأزمة في التعامل معها كما نلمس ذلك في قراءة آيات قصتي شعيب ولوطٍ عليهما السلام. أما دور المصلحين والمجددين فليس في جلب القيم الجديدة، وإنما في الإبقاء على القيم التي جاء بها الأنبياء مع التوظيف الأمثل لهذه القيم وتطبيقها على المجتمع.

ليست المشكلة أو الأزمة التي يعاني منها العقل المسلم مشكلة قيم، أو أزمة قيم التي أكملها الله وتعهد بحفظها في الكتاب والسنة، وإنما المشكلة كل المشكلة في العجز عن التعامل مع القيم، والإنتاج الفكري الذي يجسد العلاقة بين هذه القيم بمنطلقاتها وأهدافها وبين العصر، ويساهم باستصحاب الرؤية القرآنية، ويدرك عالم الخلود في الرسالة الإسلامية وقدرتها على العطاء المتجدد المجرد عن حدود الزمان والمكان لحل المشكلات البشرية، وهذه وظيفة الفكر، أو عالم الأفكار الذي نعاني من التأزم فيه، ولذلك نرى أن الخلط بين ما نسميه الأزمة الفكرية التي يعاني منها العقل المسلم، والذي أورثه العجز عن التعامل مع القيم من جانب، وأفقدته القدرة على تنزيلها على الواقع الإنساني، وبين التوهم بأن الأزمة في القيم نفسها كانت وراء الكثير من المغالطات والتراجعات والحواجز النفسية التي لا تزال تكرس التخلف باسم التدين. لذا فمراعاة هذا الضابط، وتحديد مفهومه وعدم الخلط بين إصلاح الفكر وإصلاح القيم التي جاء بها الوحي من الضروريات المهمة للنهوض بالعملية التجديدية للخطاب الإسلامي، وإقامة البناء المعرفي والثقافي للأمة الإسلامية ومن ثم إعادة الدور الحضاري لها.

هذا، ومن خلال ما سبق يتبين أن:

1ـ التجديد من خلال مراعاة هذه الضوابط لا يأتي بشيء يخالف الشريعة الإسلامية، ومقاصدها وإلا كان مرفوضًا؛ لأنه بذلك يدخل تحت مفهوم البدعة.

2ـ التجديد ليس قائمًا على الهوى والتشهي، وإنما يكون الدافع إليه تحقيق المصالح المعتبرة التي تعود على الأمة بالخير في أمر الدنيا والآخرة.

3ـ التجديد يعني بقاء الأصل المجدد. ولذلك كان التجديد سمة من سمات الشريعة الإسلامية باعتبارها خاتمة الشرائع السماوية.

الضابط السادس: الالتزام بأساليب اللغة العربية وقواعدها في تفسير النصوص الدينية وتأويلها:

اللغة العربية كما يعلم الجميع هي لغة الوحي، فالقرآن كتاب الله المنزل على سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بواسطة الأمين جبريل ـ عليه السلام ـ بلسان عربي، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء: 192 ـ 195). وكذلك السنة جاءت بهذا اللسان العربي، ويجمع العلماء على أن اللغة العربية من أقوى اللغات على استيعاب متطلبات النمو الحضاري لتضمنها العديد من أنواع الأساليب البلاغية والبيانية التي تصمد أمام التحديات والمتغيرات على مر الأزمان والعصور. وهي ليست مجرد وسيلة للتعبير عن أغراض الناطقين بها فقط، بل هي جزء من الدعوة الإسلامية. "ولذلك أصبحت العربية بوضعها الراهن حالة عقائدية وتاريخية وسياسية فهي عقائدية بارتباطها بالقرآن، وهي تاريخية بمقاومتها لعوامل التغيير، وثباتها في مواجهة رياح التعرية، وهي سياسية بما تحرك من قوى معادية تريد القضاء عليها باعتبارها أعظم مقومات بقاء هذه الأمة العربية المسلمة". لهذا كان اتباع أساليب وقواعد اللغة العربية في بيان معاني النصوص الدينية من ألزم الضوابط في الإطار التجديدي للخطاب الإسلامي. فألزم الضوابط التي تفرض نفسها على أية محاولة للتجديد أو التأويل لهذه النصوص اتباع أساليب العرب في الخطاب، ومناهجها في التعبير والتصوير، والدلالة على المعاني أمرًا ونهيًا إثباتًا ونفيًا تخصيصًا وتعميمًا وصلاً وفصلاً، حقيقة ومجازًا مع التفقه في أسرار ذلك كله وأساليبه المتنوعة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك حتى يكون التجديد بعيدًا عن الهوى أو الجهل والتأويل العبثي للنصوص. 

الضابط السابع: عدم الاعتماد على نص واحد في الحكم، وإغفال بقية النصوص الدينية التي وردت فيه:

من المسلم به أن الباحث المنصف لا يستطيع الوصول إلى الفهم الصحيح والتفسير الصائب لنص مقتطع من نسق فكري كامل دون مراعاة المجموع أو تبيين الدلالة المستفادة من نص مروي دون بحث عما يرتبط به من نصوص تفيد إطلاقه أو تخصيص عمومه أو تزيل ما يلابسه من خفاء أو إشكال... إلخ ما هو مقرر لدى أهل هذا الشأن. فمثلاً رأينا بعض المناوئين للإسلام يتهمون الإسلام بأنه دين قتال، وأنه انتشر بقوة السيف واعتمدوا على بعض نصوص الوحي المطلقة، وفسروها منفصلة عن بقية الآيات المقيدة، ومن المعلوم لدى علماء التفسير أن المطلق يحمل على المقيد إذا وردا في قضية واحدة، واستندوا في زعمهم إلى الآيات التالية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 123)، وقوله: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29). وقوله: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) (الممتحنة: 1). وهي آيات مطلقة تفهم في ضوء قول الله سبحانه: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، وقوله: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 ـ 9). 

وذلك لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وقد رأينا بعض من يفتي بحرمة القيام لأهل العلم أو الوالدين وتقبيل أيديهم لحديث سمعه يتصل بذلك، دون أن يُلم بالأحاديث الأخرى التي أباحت القيام لهم توقيرًا وإجلالاً، ورأينا ممن يدعون الإسلام من يحاول أن يثبت أن الإسلام خاص بالعرب وحدهم، وأنه دين جنس معين كاليهودية أو النصرانية وذلك حتى يوقفوا المد الإسلامي في دول العالم المختلفة، واستندوا إلى نص الوحي في قول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)، وقوله: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214). وقوله: (لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الشورى: 7). فأم القرى هي مكة، ومن حولها هي القبائل والبوادي المحيطة بها، فرأوا بذلك أن الدعوة خاصة بالعرب غافلين عن نصوص كثيرة قررت عالمية هذا الدين، كقول الله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28) وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: 1)، وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: 158). 

وهذه الآيات وغيرها مما يقرر عالمية الدعوة آيات مكية نزلت في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية، وبهذا تدحض شبهة بعض المستشرقين القائلين بأن محمدًا صدع بعالمية الدعوة بعد نجاحه في المدينة كمرحلة تمهيدية. كذلك دعوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد بن ثابت أن يتعلم السريانية فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد: "أتحسن السريانية إنها تأتيني كتب بها؟" قال زيد: لا، قال صلى الله عليه وسلم: "فتعلمها" فتعلمتها في سبعة عشر يومًا، وكتابته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام ككتابه إلى هرقل عظيم الروم، وإلى كسرى وإلى النجاشي، وهذه الكتب ثابتة في كتب السنة وفي التاريخ الإسلامي.

الفصل الثالث

أساليب تجديد الخطاب الإسلامي

هناك أساليب عديدة لتجديد الخطاب الإسلامي منها:

1ـ الموازنات والأولويات في الخطاب الإسلامي

2ـ تفعيل دور العقل في الخطاب الإسلامي

3ـ مراعاة الواقعية

4ـ تمكين الخطاب الإسلامي من حرية القول والتعبير

المبحث الأول

الموازنات والأولويات في الخطاب الإسلامي

فقه الموازنات في الخطاب الإسلامي: يعني الموازنة بين المصالح بعضها مع بعض من جهة، أو المفاسد بعضها مع بعض من جهة ثانية، أو الموازنة بين المصالح والمفاسد من جهة ثالثة وتقديم الراجح منها وفق ضوابط محددة مستمدة من الشريعة الإسلامية. وأما فقه الأولويات: فهو وضع الأحكام والقضايا في مراتبها الشرعية بدون تقديم أو تأخير. فلا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير. والعلاقة بين فقه الموازنات والأولويات هي التلازم والتداخل، ففقه الأولويات مرتبط بفقه الموازنات، إذ غالبًا ما تنتهي الموازنة إلى أولوية معينة، فهنا تدخل في فقه الأولويات. الاستدلال على مراعاة الإسلام لفقه الموازنات والأولويات ثابت بالكتاب والسنة، وفعل الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. 

فمن الكتاب: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: 19 ـ 20). فهنا موازنة بين مصالح مشروعة هي: سقاية الحاج أو عمارة المسجد الحرام، والإيمان بالله والجهاد في سبيله، وقد جعل الله الإيمان والجهاد أعظم درجة وأرفع منزلة. وفي الموازنة بين المفاسد: يقول تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف: 79). في الموازنة بين المصالح والمفاسد يقول تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) (البقرة: 219). فيلاحظ في الموازنات هذه التي تنتهي بالطبع إلى أولويات أنها تأخذ ألوانًا متعددة: 

إما بين شيئين صالحين، إلا أن المصلحة في أحدهما أكبر أو أدوم، فيقدم على الآخر الذي تكون المصلحة فيه أقل. وإما بين شيئين فاسدين، إلا أن المفسدة في أحدهما أقل أو أخص فيقدم على الآخر الذي تكون المفسدة فيه أكبر أو أعم. وإما بين شيئين أحدهما فيه مصلحة والآخر فيه مفسدة، فتدرأ المفسدة إن كانت متساوية مع المصلحة، أو يقدم الجهة الغالبة إن لم تتساو المصلحة مع المفسدة وهكذا. 

ومن السنة: عندما أرادت قريش عقد صلح الحديبية، وأرسلت سهيل بن عمرو مندوبًا عنها لمفاوضة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثت خلافات، نظر إليها وفد قريش على أنها جوهرية، ونظر إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنها سطحية، وانتهى بالموازنة إلى أولوية إتمام الصلح على عدم كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، وكتابة باسمك اللهم. يقول الإمام ابن القيم: ذاكرًا بعض ما يستفاد من الفقه، بعد ذكر تفاصيل صلح الحديبية: مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين، جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناها. وفي السيرة النبوية في (المرحلة المكية) كان اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتركيزه على الدعوة إلى عقيدة التوحيد وإخلاص العبادة لله ونبذ عبادة غيره من الأصنام والأوثان دون الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، أو شغل المسلم بالأحكام والمسائل الجزئية. وفي هذا المعنى يقول الدكتور يوسف القرضاوي: في العهد المكي كانت مهمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محصورة في الدعوة إلى الله، وتربية الجيل المؤمن الذي يحمل هذه الدعوة بعد ذلك إلى العرب، ثم ينطلق بها إلى العالم كله، وكان تركيزه على أصول العقيدة، وترسيخ التوحيد وعبادة الله وحده ونبذ الشرك واجتناب الطاغوت، والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق. وكان القرآن الكريم في تلك المرحلة يزكي هذا الاتجاه، فلم يُشغل المسلمون في هذه الآونة بالمسائل الجزئية، ولا بالأحكام الفرعية بل ببناء الإنسان الذي تحدثت سورة العصر عنه (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3). لم يشرع للمسلمين أن يحملوا فؤوسهم ليحطموا الأصنام وهم يرونها كل يوم حول الكعبة، ولم يأذن لهم أن يشهروا سيوفهم دفاعًا عن أنفسهم، ومقاومة لعدو الله وعدوهم الذي يسومهم العذاب بل كان يقول لهم ما ذكره القرآن أن (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) (النساء: 77). وإن كانوا يأتون إلى رسولهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بين مشجوج ومجروح، إن كل شيء له أوانه المناسب وإذا استُعجل بالشيء قبل أوانه فالغالب أن يضر ولا ينفع. ومن فقه سيدنا عمر بن الخطاب أنه كره التزوج بالكتابيات ومنعه لئلا يكسد حال المسلمات في الزواج ـ ولئلا تكون الكتابيات فتنة على أولاد المسلمين، فوازن بين المصالح الخاصة والعامة، فقدم العامة على الخاصة. ففي تفسير الحافظ ابن كثير: قال أبو جعفر ـ رحمه الله ـ بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني. ومن فقه رجاء بن حيوة في الأولويات ـ وهو من التابعين ـ رضي الله عنهم ـ ما ذكر الإمام القرطبي في تفسيره: أن الوليد بن عبد الملك استخلف رجاء بن حيوية ليخبره عمن تكلم عليه بالسوء في مجلسه، وقد حدث هذا فعلاً ووصل خبر بذلك إلى الوليد من عيونه، فحلف رجاء بن حيوة أنه لم يحدث شيء من ذلك في مجلسه، فضرب  الوليد جاسوسه سبعين سوطًا فكان المضروب يلقى رجاء بن حيوة فيقول: يا رجاء، بك يستقى المطر، وسبعون سوطًا في ظهري، فيقول رجاء: سبعون سوطًا في ظهرك خير لك من أن يقتل مسلم. فكان هذا من فقه رجاء بن حيوة في الأولويات، إذ قدم الأصغر مفسدة على الأعظم.

ومما يذكر للإمام ابن تيمية ـ في هذا الشأن ـ قوله: فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما، فقدم أوكدهما إذا لم يكن الآخر في هذه الحالة واجبًا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحالة محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم. هذا، بيد أن هذه الموازنات والأولويات لابد وأن توزن بميزان الشرع، ثم الاجتهاد المقيد به، إذ لا يصح أن تعتمد هذه الموازنات على العقل المحض، والهوى المجرد. يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله: ولكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص ولم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه. ويقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله: إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله عاجلاً لا آجلاً، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربو في الموازنة على المصلحة فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمرًا لا يتم له على كماله أصلاً، ولا يجني منه ثمرة أصلاً، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى حصول المصلحة والتخفيف على الكمال.

ويقول في موضع آخر: المصالح المجتلبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للآخرة، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية. فاعتبار المصلحة وتقديمها على غيرها بناءً على موازين عقلية محضة هو بعدٌ عن الشرع في فهم الأولويات "فلا يجوز الاعتماد على ما قد يراه علماء الاقتصاد، وخبراء التجارة من أن الربا لا بد منه لتنشيط الحركة التجارية والنهوض بها. ولا يصح الاعتماد على ما قد يتفق عليه علماء النفس والتربية مثلاً من أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب من الخلق ويخفف من شدة الشهوة والميل إلى الجنس الآخر، إذ لو صح ذلك لكانت الشريعة محكومة بخبرات الناس تابعة لها. وحقيقة الأمر: أن الشريعة هي الميزان لكل مصلحة يعرضها الناس من خبراتهم وتجاربهم، فإن وافقت النص أخذ بها وكان العمل بالنص، وإن لم توافق لم ينظر إلى تلك المصلحة المزعومة. وليس معنى ذلك أن الشريعة لا تنظر إلى خبرات الناس وتجاربهم ولا تراعي ما يرونه مصلحة، بل راعت هذا الجانب، وجعلت له مجالاً معينًا"( )، هو الاجتهاد عند عدم وجود نص صحيح. هذا، والناظر إلى ساحة العمل الدعوي يجد أن هرم الأولويات مقلوب في أعم وأغلب تيارات الخطاب الإسلامي، إذ بعض هذه التيارات يسيطر عليه المنهج الحرفي المتميز بالسطحية والشكلية والجزئية في الاهتمام، والجفاف والخشونة في الدعوة وبعضها يميل إلى الخرافة والأساطير والتي يتميز منهجها بالابتداع والجمود، والتقليد والسلبية، والمراهنة السياسية فتنعدم لديهم المنهجية الصحيحة في فهم المصلحة وتقديم الأولى. ومما يثير الدهشة حقًّا: أن بعض المتحدثين باسم الإسلام، لا يعرفون عن حقائق الدين وأهدافه، وأولوياته شيئًا. يذكر الشيخ محمد الغزالي في كتابه "علل وأدوية" ما يبين انعدام الأولويات في العالم العربي فيقول: قُدِّم استجواب في الكنيست اليهودي عن مقتل شاب عربي في إحدى المظاهرات، ويظهر أن مقدم  الاستجواب من العرب الشيوعيين في دولة إسرائيل، ووقف "مناحم بيجين" يرد في غضب شديد، ويقول: تريدون أن تقيموا الدنيا وتقعدوها لمقتل شاب عربي، على حين خيم الصمت التام، بعد مقتل عشرة آلاف في "مدينة عربية مجاورة" وتسوية ثلث مساكنها بالأرض. يقول الشيخ محمد الغزالي: وشعرت بالخزي وأنا أسمع الإجابة، وقلت لرجل يسمع معي: إن "بيجن" هنا ينطبق عليه الحديث المشهور: "صدقك وهو كذوب". ثم يقول: الغرابة ليست في وقوع هذه الجرائم على فداحتها، الغرابة في ذهول ناس من المتحدثين في الإسلام عنها، وعن المقدمات النفسية والفكرية التي أدت إليها.

المبحث الثاني

تفعيل دور العقل في الخطاب الإسلامي

إن من أعظم ما عنى به الإسلام ـ في مجال الدعوة ـ هو تكوين الخطاب العقلي العلمي، ورفض الخطاب الظني الخرافي المقلد، الذي ينقل كل ما يقرأ أو يسمع، دون أن يعرضه على العقل، أو يضعه موضع اختبار وتمحيص بل يأخذه قضية مسلمة، فالعقل في خطاب الوحي "ليس منفيًا ولا مطرودًا ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي وفهم ما يتلقى، وإدراك ما من شأنه أن يدرك مع التسليم بما هو خارج عن مجاله، ولكنه كذلك هو الحَكَمَ الأخير ما دام النص محكمًا، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحَكَم، وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح، وتقييم منهجه على أساسه. وما من دين احتفل بالإدراك العقلي وإيقاظه، وتقويم منهجه في النظر، واستجاشته للعمل وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وتحريره من قيود الكهانة، والأسرار المحظورة، وصيانته في الوقت ذاته من التبدد في غير مجاله، ومن الخبط والتيه بلا دليل، ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام". إنه على الرغم من دور الوحي في تحديد معالم هذا الدين، وموقفه من القضايا العقائدية والتشريعية والأخلاقية المتصلة بالإنسان والحياة، فإن دور العقل في فهم هذه الأمور، وإدراكها يظل دورًا بارزًا لا يتصور إغفاله أو إنكاره. "وما منع الإسلام العقل بالتفكر في ذات الله وفي كنه السمعيات الغيبية؛ لأن أدوات العقل من الحواس وآلات الإدراك لا تطول هذه الموضوعات، فالعقل يعجز عن أن يصل إلى حقيقتها، ولذلك كان منعه من معرفة حقيقتها صونًا له عن التخبط في مجالات لا يملك فيها العقل وسيلة تؤدي به إلى المعرفة، ومع ذلك قدم ما يُكلف به من حيث الإيمان والعلم بهذه الغيبيات، وأقام له الأدلة العقلية عليها احترامًا للعقل؛ لأن مفهوم العلم في الإسلام لا يتحقق إلا بالبرهان، وفيما عدا حقيقة ذات الله، وحقيقة الغيبيات فإن مسئولية العقل شاملة كل ما من شأنه أن يعلم، ولا بد أن يعلم بالبرهان. ودور العقل: هو القيام بالنظر، وتحصيل البرهان، ولا بد أن يكون الخطاب مستقى من البرهان، وقائمًا عليه، ومشمولاً به، وإلا كان الخطاب خرصًا أو تخمينًا، أو رجمًا بالغيب في متاهات الظنون". ومن دور العقل الذي يجب إعماله في الخطاب الديني أيضًا شرح وتأويل النصوص بما يتناسب مع معطيات العصر حتى لا تطغى الموروثات الشعبية على النصوص، فتوجهها إلى مساندة الخرافات في السلوك الاجتماعي، وتمكين المفاهيم اللامعقولة في فكر المؤمنين فتغيب عقولهم في بحور من الأوهام. وهناك مجالاً أوسع وأرحب لإعمال العقل، وإبراز دوره، وهو "ما لم يرد فيه نص ديني من الكتاب أو السنة فدور العقل هنا الاجتهاد في إطار الروح العامة للتشريع، مع مراعاته للأزمنة والأمكنة وما يجري في دنيا الناس. 

ومن دور العقل في الخطاب الديني – أيضًا - مراعاته للتوازن بين متطلبات الحياة المادية والروحية التي جاء بها الوحي، حتى لا تطغى مطالب الروح على الجسد والعكس، فيكون التفريط في عمارة الكون، والعزلة عن الحياة العامة، والإقامة في المساجد ليلاً ونهارًا، وإهمال الحقوق الأسرية، والتفريط في حقوق الوطن في العمل والإنتاج، أو إهمال مطالب الروح والانغماس في الحياة المادية فيكون  والجفاء الروحي، الذي يكون بدوره سببًا من أسباب الشقاء في الدنيا قبل الآخرة. 

بعض مظاهر الاهتمام بدور العقل في خطاب الإسلام: 

الاهتمام بدور العقل وإعماله له مجال رحب في خطاب الإسلام  إذ به يفكر الإنسان ويتذكر ويعتبر ويهتدي، ويتقي، والقرآن الكريم من خلال آياته يعمل على تفعيل العقل، ودعوته ليقوم بدوره في التفكير كي ينهض بمهمته الإقناعية بعد ذلك ومن يتأمل هذه الآيات التي ذكرت فيها تصريفات مادة "عقل" يجد مظاهر اهتمام الإسلام بالعقل وإعماله والتي منها: 

أ ـ توجيه العقل إلى تأمل الظواهر الكونية: 

وذلك حتى يصل إلى معرفة المسبب له عن اقتناع عقلي، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164) وقال أيضًا: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثية: 5)، وقال: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد: 4)، أي هذه الآثار الكونية فيها الأدلة الواضحة على ربوبيته وألوهيته، وهي برهان ساطع لمن يعملون عقولهم فيها، فالتذكير بالعقل في نهاية هذه الآيات خبر مرجع للهداية، والتفكر يوجب الإسلام كما أن الإسلام يوجب التفكر. 

ب ـ رفض التقليد للآراء والمعتقدات الموروثة عن السابقين بلا دليل أو برهان: 

والتقليد: هو المتابعة بغير اقتناع عقلي، أو دليل يقيني، فهو إبطال لوظيفة العقل. والإسلام يقف من التقليد موقفًا واضحًا في كلا مجاليه، تقليد القديم، أو تقليد الوافد. تقليد القديم بغير برهان، وتقليد الوافد الأجنبي بغير ضرورة، وأخطر الأمور أن تدعي الأمم إلى التحرر من تقليد قديمها لتقع في تقليد الأجنبي عنها، وكلاهما يفسد الشخصية والذات. فالتقليد واتباع الآراء الموروثة من غير دليل أو اقتناع عقلي، أو مع وجود الدليل ولكنه متابعة لاتجاه أو لزيد من الناس، لا الأمر عنده ـ أي المقلد ـ وجود الدليل، وإنما الانتصار لاتجاه معين، وتعصب له محرم على أهل النظر والعلم في حكم الدين.
والحكمة المرادة من نبذ التقليد في الإسلام: هو تحريك العقل لينهض بوظيفته، ويقوم بدوره. ومن دوره: رفض محاكاة السابقين، وتقليد الوافدين في معتقداتهم وعاداتهم، بل لا بد من النظر إلى هذه الأفعال والمعتقدات، ووضعها موضع الاختبار، فالإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده، بل يقول له يجب عليك أن تفتح عينيك، ولا تنقاد لما يبقيك مغمض العينين، يحق لك أن تنظر في شأنك، بل في أكبر شأن من شئون حياتك، ولا يحق لآبائك أن يجعلوك ضحية مستسلمة للجهالة التي درجوا عليها. والإسلام يأبى على  المرء أن يحيل أعذاره على آبائه وأجداده، كما يأبى له أن تحال عليه الذنوب والأوزار من أولئك الآباء والأجداد، وينعي على أولئك الذين يستمعون الخطاب أن يعفوا أنفسهم من مؤنة العقل؛ لأنهم ورثوا من آبائهم وأجدادهم عقيدة لا عقل فيها. 

قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170)، وقال أيضًا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ) (المائدة: 104). فالإسلام علم أهله أن يطالبوا الناس بالحجة؛ لأنه أقامهم على سواء المحجة، وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ويدعوه إليه، وعلى هذا درج سلف هذه الأمة الصالح، قالوا بالدليل، وطالبوا بالدليل، ونهوا عن الأخذ بشيء من غير دليل. كذلك نهى الأئمة الأربعة: عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة ولا دليل. يقول الإمام أبو حنيفة: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين نقلناه، ويقول الإمام مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافقهما فاتركوه، ويقول الإمام الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري، ويقول الإمام أحمد: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال أي أن يقلد في اعتقده رجلاً.

كذلك يجب أن يتحرر الخطاب الديني من التقليد، والجمود على فتاوى السابقين، وقد أورد الإمام ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" قول أكثر الأصحاب وجمهور الشافعية: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم. 

جـ ـ اشتمال الخطاب على الإقناع العقلي الذي يؤيد الدعوى: الخطاب الإسلامي دائمًا يعتمد في سوقه للحقائق، ودعوته إلى الإيمان بها على البراهين والأدلة العقلية والإقناعية، التي تقنع المدعو بالإيمان بها، وفي ذلك تقدير للعقل ـ عقل المخاطب ـ من ناحية، وتوجيه له أن لا يؤمن بشيء إلا إذا تحقق له الدليل أو البرهان عليه من ناحية أخرى، يقول تعالى عن إبطال تعدد الآلهة: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء: 22)، (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 91)، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام: 101).

وعن البعث والجزاء يقرر بالبرهان العقلي ـ وهو ما يسميه العلماء قياس الإعادة على البدء ـ قدرته على إحياء الخلق قال تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف: 29)، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 27)، فالإعادة أهون وأيسر من البداية بمقياس العقل والمنطق وقال: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس: 78 ـ 79).

ويقرر القرآن أيضًا بالبرهان العقلي: قياس البعث والإحياء للخلق على إحياء الأرض الميتة بالنبات والزرع؛ إذ ما أشبه الإنسان بالزرع في دورة الحياة، وكما أن أصل الإنسان هو الأرض، فالزرع أيضًا لا ينبت إلا فيها، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصلت: 39)، كما يقرر بالبرهان العقلي أيضًا قدرته على البعث والإحياء بقدرته على خلق السموات والأرض، يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأحقاف: 33).

وفي قضية الجزاء الأخروي يقرر بالبرهان العقلي أيضًا: استحالة التسوية بين المحسن والمسيء يوم القيامة فيقول تعالى: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الجاثية: 21 ـ 22). وفي السنة النبوية: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما أمر بالتبليغ والصدع بالدعوة اعتمد في خطابه على منهج عقلي يقرر به الحقيقة من اعتراف الخصم نفسه. فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) صعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تُريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

د ـ مراعاة الخطاب الديني للسنن الإلهية في الكون والمجتمع وعدم مخاطبة الناس بما يخالفهما:

فمراعاة الخطاب الإلهي لذلك يدل دلالة واضحة على اهتمامه بدور العقل، وضرورة الانتباه إليه في فهم الواقع وتفسير الأحداث ولذلك لفت القرآن عقول الناس إلى تأمل سير الأولين: وتاريخ الغابرين لمعرفة سنن الله وكيف تجري على الناس. قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) (آل عمران: 137). ومن السنن الإلهية: الجزاء على العمل، فالأخذ بالأسباب في أمور الحياة والرزق، والطب بالتداوي، والجهاد، وترك الاتكال والكسل والاعتماد على الغير من الأمم والدول والأفراد يتبعه جزاء هو من سنن الله في الكون والحياة، ومخاطبة الناس بما يخالف ذلك خروج بالعقل إلى الخرافة، وتغطيته عن الحقيقة. قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60). وقال: (لَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الفتح: 22 ـ 23). وقال: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 62). ولذلك حرم الإسلام "السحر والشعوذة واللجوء إلى الخرافة، وجعل ذلك كبيرة تعدل الشرك بالله وقتل النفس بغير حق؛ لأن تعطيل العقل وتغطيته بمثابة القتل للإنسان؛ لأنه إفساد جوهره فكان قتلاً له". 

يقول صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". ويقول: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". هذا ومن خلال ما سبق نستخلص ما يلي: 

أ ـ أن على الدعاة والخطباء ضرورة اعتماد الأدلة والبراهين العقلية من واقع الحياة وتجاربها، بجانب الأدلة النقلية في خطابهم الديني، فإن ذلك أدعى للإقناع والقبول.

ب ـ ضرورة تجنب مخاطبة الناس بما يخالف السنن الإلهية في الكون والمجتمع من الخرافات والترهات التي تملأ بعض الكتب الإسلامية وخاصة كتب الوعظ والإرشاد.

جـ ـ ضرورة تجنب الانتصارات المذهبية، والجمود على الفتاوى الموروثة ـ التي تغير زمانها ـ في الخطاب الديني، إذ إن ذلك محرم على أهل العلم والنظر في حكم الدين. كما أن على الهيئات المسئولة أو المعنيين بالشئون الإسلامية في العالم الإسلامي وكذا علماء الإسلام المتخصصين ما يلي: 

أ ـ رصد مظاهر الجمود العقلي ـ عند بعض العلماء ـ على خطابات وفتاوى السابقين وطبعها ونشرها وتوزيعها على العاملين في حقل الدعوة حتى يتجنب الدعاة والخطباء الوقوع في دائرتها.

ب ـ توزيع بعض الكتب التي تكشف عن معالجة قضايا العصر والتي تراعي فقه الواقع ومعالجة مشكلاته حتى يهتم بها الدعاة ويجعلونها محور خطابهم وموضوع حديثهم.

جـ ـ تدريس بعض كتب الفكر الإسلامي المستنير في دورات خاصة بالأئمة والدعاة، وتعقد لها الاختبارات، مع ضرورة ربط هذه الاختبارات بالمنح أو الترقيات حتى تتكون الملكة الفكرية والتجديدية لدى الدعاة والقائمين بالخطاب الديني.

المبحث الثالث

مراعاة الواقعية

من أساليب التجديد والإحياء للخطاب الإسلامي مراعاته واقع الحياة التي يعيشها الناس، وتناول مشكلاتهم وقضاياهم بالعرض والتحليل لتشخيص الداء ووصف الدواء. والواقعية التي أقصدها: ليست مذهبًا ولا فلسفة غربية أو شرقية، كالواقعية الاشتراكية التي نشأت في الاتحاد السوفيتي أو التي نشأت في فرنسا وإنجلترا، كما أنها لا تعني: التسليم للواقع مع وضوح فساده، وخروجه عن الطريق المستقيم، ومحاولة تبرير هذا الواقع على ما به بتفسير النصوص الإسلامية تفسيرًا يخرج بها عن المعنى المراد منها حتى توافق الواقع عند أصحاب الفلسفة المادية الحديثة. وإنما الواقعية التي نقصدها: هي أن يرتبط الخطاب الديني بواقع الحياة ومشكلات الناس فلا يعيش بمعزل عنها. يقول الإمام ابن القيم: حكي عن كثير من السلف أنه كان لا يتكلم فيما لم يقع، وكان بعض السلف إذا سأله الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال نعم تكلف له الجواب وإلا قال دعنا في عافية، فإن المسألة إذا كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب الكلام فيها.

وذكر الإمام أحمد بن حنبل خمس خصال لمن أراد أن ينصب نفسه للفتوى، منها أن يكون على معرفة بالناس، فإنه إذا لم يكن المفتي على معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولَبِس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعُرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخداعهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله. فبدون معرفة الداعية بواقع الناس ومشكلاتهم يعيش في واد والناس في واد آخر فلا تأثير لبيانه ولا جدوى من خطابه، وكذلك المفتي إذا لم يكن بصيرًا بالواقع وعارفًا بمشكلات الناس وحياتهم تكون فتواه صرخة في واد؛ لأنها لا ترتبط بحياة الناس، فتتعطل الأحكام وتضيع أكثر حقوق الناس.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: إنما نعني بالواقعية: مراعاة واقع الكون من حيث هو حقيقة واقعة ووجود مشاهد، ومراعاة واقع الحياة من حيث هي مرحلة حافلة بالخير والشر تنتهي بالموت وتمهد لحياة أخرى، توفى فيها كل نفس بما كسبت. ومراعاة واقع الإنسان من حيث هو مخلوق مزدوج الطبيعة، فهو نفخة من روح الله في غلاف من الطين، ففيها العنصر السماوي والعنصر الأرضي. ومن حيث هو ذكرًا أو أنثى لكل منهما تكوينه ونزعاته ووظيفته، ومن حيث هو عضو في مجتمع لا يستطيع أن يعيش وحده، ولا أن يفنى تمامًا في المجتمع، ولهذا تصطرع في نفسه عوامل الأنانية والغيرية، ولا غرو أن راعي الإسلام الواقع في أصول العقيدة، والجوانب التشريعية والأخلاقية، وفي كل ما دعا إليه، وأمر به. "فلا يكفي الداعية أن يكون قد حصل العلوم الإسلامية، وجال في مراجع الأدب واللغة والتاريخ، وأخذ بحظه من العلوم الإنسانية، ومن العلوم التجريبية، ولكنه في هذا كله لا يعرف عالمه الذي يعيش فيه، وما يقوم عليه من نظم، وما يسوده من مذاهب، وما يحركه من عوامل، وما يصطرع فيه من قوى، وما يجري فيه من تيارات، وما يعاني أهله من متاعب وبخاصة وطنه الإسلامي الكبير من المحيط إلى المحيط، بآلامه وآماله، وأفراحه ومآسيه، ومصادر قوته، وعوامل ضعفه، وبعد ذلك وطنه الصغير وبيئته المحلية، وما يسودها من أوضاع وتقاليد، وما تقاسيه من صراعات ومشكلات، وما يشغل أهلها من قضايا وأفكار".

ومما يؤسف له حقًّا وجود هذا الانفصام بين الخطاب الإسلامي وواقع الحياة المعاصرة، واهتمام كثير من الخطابات الإسلامية بأمور بعيدة عن الواقع، وقضايا المسلمين، وإغفالها لواقع العالم الإسلامي، وما يكال ويدبر له من مكائد، وما وقع على بعض بلدانه من احتلال وغزو، واعتداءات وحشية ألمت بأهله، وإساءة للمصحف تارة وإساءة لنبي الإسلام تارة أخرى. لذا كان من الأهمية اللازمة لتجديد الخطاب الإسلامي مراعاته لواقع الحياة، ودعوة الإسلام بما اشتملت عليه من تشريعات وحدود وأخلاق تحوي العلاج النافع لأمراض المجتمعات والأمم على مدى العصور والأزمان. هذا بيد أن الفتوى ـ خاصة ـ وهي جزء أساسي لا يتجزأ من الخطاب الإسلامي، لا بد قبل إصدارها من دراسة وتحليل الواقع، والأحوال التي تطرأ على الفرد والمجتمع، وكذا دراسة الآثار المترتبة على الإفتاء أو القضاء برأي معين، إذ قد أصبح الواقع معقدًا تعقيدًا شديدًا، فلا بد من دراسته دراسة متأنية تقدر فيها المصالح والمفاسد، بل لا بد من الاستعانة قبل صدور الفتوى بأهل الخبرة في علوم الاجتماع والإحصاء والسياسة والاقتصاد، لدراسة وتحليل أنواع المعاملات التي ظهرت حديثًا، وكذا أنماط السلوك والتصرفات الإنسانية، وإذا تحقق هذا الأمر دراسة الواقع دراسة صحيحة، بجانب دراسة التشريع الإسلامي، أصوله وأحكامه. أصبحت الفتوى ـ وهي جزء أصيل من الخطاب الديني ـ فتوى صائبة لأنها حققت التلاؤم بين التشريع والواقع، والخطاب الإسلامي في فتواه، وفي كل ما يستنبطه المجتهدون تحت ظلال الشريعة يتوجه إلى سعادة الإنسان، ودفع الأذى والضرر عنه، فحيثما وجدت منفعة الإنسان ومصلحته فالإسلام يوجب ذلك ويحث عليه، وحيثما وجد الضرر والأذى فالإسلام يحرم ذلك ويمنعه.

ومن خلال ما سبق يتضح أن: 

الأساليب المتبعة من بعض المتحدثين باسم الإسلام، باستدعاء الخطابات الإسلامية الجاهزة، وكذا الفتوى من تراث العصور الماضية دون النظرة التحليلية للواقع المعاصر، إنما هي أساليب تضر بالأمة أكثر مما تفيد لأنها لا تتطابق مع حاجات العصر، وتتخذ من خطابات السابقين ما يشبه المنهج الثابت في علاج قضايا العصر. 

الترابط بين الواقعية والفطرة: الطبيعة التي خلق الإنسان وجبل عليها: هي الدين القيم، وهذه الطبيعة كما نعلم من صنع الله عز وجل، كما قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30). وهذه الفطرة أو الطبيعة التي خلق عليها الإنسان تجنح إلى الواقعية؛ لأن الفطرة إذا كانت هي الدين، فإن الدين جاء ليعالج أوضاع مجتمعات أفسدت صفاء الفطرة، وحجبت ضياء الحق. وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه". فهذا الذي طرأ على الفطرة من تنصير أو تهويد أو تمجيس تزييف لها وافتيات عليها، فهو في حاجة إلى جهد يبذل شأن أي تزييف في الحياة؛ لأنه ضد الطبيعة، أما دعوة الإسلام فلا تحتاج إلى جهد يذكر لكي تغزو الفطرة؛ لأنها والفطرة سواء كلاهما من الله، ومن ثم جاء الربط بينهما وثيقًا في منطق الآية السالفة فأشير إلى الفطرة بأنها الدين القيم. ومن ثمّ فنشر الإسلام وسيادة عقيدته قديمًا وحديثًا في أسرع وقت وبأيسر جهد إنما يرجع إلى واقعية هذا الدين وبساطة عقيدته.
ولم يشهد التاريخ تحولاً جماعيًا لأمم وشعوب كانت في ذروة الحضارة كما شهد في الإسلام، حيث اعتنقته جماعات بأسرها مرحبة بعقيدته السمحة، ومبادئه الواقعية، واجدة فيه الخلاص الأكبر من جاهلية توبق النفس، ووثنية تزهق الروح، وركام يطمس الفطرة.ولذلك فإن عمل المصلحين من الأنبياء وغيرهم يكمن في تطهير المجتمعات من الانحراف ومعالجة قضايا الظلم والفساد الواقعة بالفعل، وفي ذلك عودة بالفطرة إلى صفائها ونقائها. يتأكد ذلك في دعوة سيدنا لوط ـ عليه السلام ـ إلى جانب الهدف الأعظم وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، قال تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (النمل: 54 ـ 55). وفي دعوة سيدنا شعيب ـ عليه السلام ـ إذ كان من أهم أهدافها إصلاح الفساد الاقتصادي المتمثل في دعوتهم عدم نقصان الكيل والميزان. 

قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود: 84 ـ 85). وفي دعوة سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ إذ كان من أهدافها أيضًا إصلاح ما وقع من فساد سياسي ممثل في فرعون وملئه. قال تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) (النازعات: 17 ـ 19). وقال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4). فمجمل القول في ذلك أن الدين في دعوته راعي واقع المجتمعات، والفطرة بطبيعتها تتلاءم مع الواقعية إذ إنها ـ أي الفطرة ـ من الدين.

المبحث الرابع

تمكين الخطاب الإسلامي من حرية القول والتعبير

حرية الخطاب الديني في التعبير هي: حرية الدعاة في التعبير عن الفكر الديني الصحيح، والمبادئ الإسلامية الأصيلة، حتى لو صادمت ما عليه الأمراء والسلاطين فإن هذا اللون من الخطاب يكرهه الطغاة والمستبدون. فهي: حرية النقد البنّاء، وتقديم  النصح والتقويم لفئات المجتمع كله، وحرية المجادلة بالتي هي أحسن. وحرية الخطاب الديني في التعبير ليست من الأساليب المسنونة أو المستحبة بل هي من الأساليب الحتمية اللازمة التي يجب صونها والدفاع عنها، فهي فرض على الدعاة والمتحدثين باسم الإسلام ألا يدعوا الخطأ يمر وهم صامتون، فيميتوا الحق، ويحيوا الباطل، وحرية الخطاب الديني التي ينشدها الدعاة والمصلحون، تقوم في الإسلام على أساس مهم نابع من اليقين بالله وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء ورازقه، وأنه المحيي والمميت بيده الخلق والأمر وحده. وبقدر وجود الإيمان بهذه الحقيقة تستيقظ حرية الخطاب الديني وبقدر إخلاص هذه العبودية لله يتحرر المرء من عبوديته لغيره وعلى قدر ضعف هذه الحقيقة ـ الإيمان واليقين بالله ـ تذبل حرية الخطاب الديني، فيحيا الخوف، والخائف تموت بذور الحرية عنده وينطفئ نور العلم لديه. فعلاقة حرية الخطاب بالإيمان واليقين بالله علاقة تلازم يترتب عليها ألا يوجد أحدهما بدون الآخر، وإذا وجد الإيمان بدون الحرية فإنما هو إيمان ضعيف. فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلفُ من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وإذا كان الإيمان يمد صاحبه بالحياة، فإن حرية القول والتعبير تمد الأمة بروح الإصلاح، والتخلص من سم الخوف والجمود والتقليد الذي يعوق الأمة عن السير في طريق التقدم والازدهار. ومبدأ الإسلام في إرساء هذا الجانب من الحرية واضح جلي، يتلألأ نوره في النصوص التالية: 

قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، وقوله أيضًا: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (الحجر: 94).

ومن الأحاديث النبوية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا". ومعنى "القائم على حدود الله": أي الداعي إلى الله الذي يدعو الناس إلى الالتزام بأوامره ونواهيه. وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أفضل الجهاد كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائر". وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: بايعنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. ويلاحظ من خلال هذه النصوص: الدعوة إلى حرية القول الديني، والخطاب الإسلامي، بل جعل ذلك فرضًا لازمًا على كل مسلم، وللتأكيد على هذا النوع من الحرية، بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه على حرية النقد البناء للسلبيات التي تظهر في المجتمع، وألا يقف الخوف منهم موقف المتربص المانع، وذلك لإحقاق الحق وإبطال الباطل. ومما لا شك فيه أن حرية الرأي والتعبير عن الآراء قد تكون مظلة للتيارات المنحرفة فكريًا، فتجد في ذلك المبرر لها لتكتب وتتحدث عن ثرثرة فارغة أو أفكارٍ هدامة فجاء الإسلام ليكشف عن حكم الله في هذا النوع من حرية الكلام. وبين أنه يكره الثرثرة الفارغة التي تخلو ـ ظاهريًا ـ من ضرر ملحوظ يكفي أنها شغلت صاحبها، وشغلت الناس معه عن الجد والمصلحة: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء: 114). 

فإذا كان الكلام ينطوي على إساءات ومطاعن، فهو محرم، وليس صاحبه حرًا في التفوه به (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المجادلة: 9)، (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148). فالمحزن أن مفهوم حرية التعبير شاع مقلوبًا في أذهان عدد كبير من حملة الأقلام، فظنوه لا يعدو إرسال الكلام على عواهنه، وتسويد الصفحات بضروب من الهذر تضر ولا تنفع، وكأن الشيطان ركب رؤوس هؤلاء القوم، ووجد في أقلامهم متنفسه، فلا ترى فيها إلا كل ما حظره الإيمان من الوقيعة والنميمة، والغيبة والتجسس والشماتة، وإشاعة الفحش والرذيلة وهذا إلى جانب صرف الناس عن الجادة، وإغرائهم بالمتالف والمزالق وصدهم عن الحق والفضيلة والشرف، ولا يمكن عد هذه المسالك من حرية الكلام، بل هو من حرية الفسوق والتدمير، وعلى الأمة كلها أن تحظر عقباه. ومن المؤسف حقًّا: أن جل المتحدثين باسم الثقافة من أهل الاجتماع أو القانون، يتحدثون عن الحرية كشعار فقط، دون أن يبينوا دور الحرية في حياة الناس، والأثر الإيجابي الذي يعود عليهم من تطبيق هذا المبدأ.

ومن خلال مراجعتي لعدد كبير من الصحف والمجلات، لم أجد مقالاً أو بحثًا تناول حرية الخطاب الديني في التعبير أو حرية الدعاة في التعبير عن الرأي الديني، والنقد البناء للمسرح السياسي، والاقتصادي، والتربوي للأمة مع أن هذا النوع من الحرية: يحوي بين طياته سائر الحريات سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، ويضمن لها الظهور والتطبيق في المجتمع الإنساني. وفي غياب حرية هذا الخطاب لا يرى الناس إلا الظلم والاستبداد، وهي الرؤية التي يختارها المستبد، وينقلها عنه المستبدون الصغار، ويرددها المنافقون، والخائنون ليل نهار، حتى تلونت الحياة بلون واحد، وتفسر الظواهر كلها على النحو الذي يراه الحاكم الفرد، فلا يتجاسر عالم ومفكر على أن يفكر بعقله هو، أو يرى بعينه هو أو يعلن موقفًا من الأمور العامة يخالف إجماع الخائفين المسبحين ليل نهار بذكاء المستبد وفطنته، ونفاذ بصيرته، إذ إن الجموع الخائفة من الناس ترى هذه الجسارة في مخالفة الحاكم في رأيه مغامرة قد يصيبهم بلاؤها، ومدخلاً لموجات جديدة من القهر والظلم لا قبل لهم بدفعها، ولا صبر لهم على تحملها، والنتيجة الحتمية لذلك: أن تسير الجماعة كلها على رأي حاكمها الفرد، وأن يجمد الفكر، ويقل الإبداع، ويتعرض العمل العام كله للعثرات نتيجة غياب النقد البناء للخطاب الديني الذي يوجه ويبصر ويثري التجربة.

المراجع

1. أدعياء التجديد مبددون لا مجددون، د.على العماري، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1414هـ - 1994م
2. إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات، د.طه جابر العلواني، مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الثانية، 1412هـ - 1992م
3. أصول الفقه نشأته وتطوره ومدارسه والدعوة إلى التجديد، د.شعبان محمد إسماعيل، مطابع الصفا، مكة المكرمة
4. إعلام الموقعين عن رب العالمين،ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار الفكر، بيروت، لبنان
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحمد عبدالحليم بن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ - 1983م
6. أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د.يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة، 1412هـ - 1992م
7. البحث العلمي بين الأصالة والمعاصرة، د.عبدالله سمك، الطبعة الثانية، 1425هـ - 2004م
8. تفسير القرأن العظيم، إسماعيل بن كثير، دار المعرفة، بيروت
9. تفسير القرطبي، محمد بن أبي بكر القرطبي، دار الشعب، القاهرة، الطبعة الثانية
10. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المنار، القاهرة، الطبعة الثالثة
11. ثقافة الداعية، د.يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، بيروت
12. جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما، سعيد حوى، دار الأرقم، عمان، الطبعة الثانية، 1401هـ - 1981م
13. الحفاظ على الهوية الإسلامية في إطار التجديد، أ.د جعفر عبدالسلام، نشر بالمؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، طبعة وزارة الأوقاف، القاهرة، 1423هـ - 2002م
14. حقيقة الفكر الإسلامي، عبدالرحمن الزنيدي، دار المسلم، الرياض
15. حوار لا مواجهة دراسات حول الإسلام والعصر، أ.د أحمد كمال أبوالمجد، كتاب العربي، العدد السابع، 1985م
16. خضائص التصور الإسلامي ومقوماته، الأستاذ سيد قطب، دار الشروق، 1408هـ - 1988م
17. الخصائص العامة للإسلام، د.يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة، 1429هـ - 1999م
18. الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكاني، د,محمد عمارة، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 1424هـ
19. خطبة الجمعة في العالم الإسلامي ملاحظات لابد منها، د.محمد عماد محمد، كتاب الأمة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، قطر، عدد28
20. خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، "بحث  في جدلية النص والعقل"، د.عبدالمجيدالنجار، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1420هـ - 2000م
21. دور العقل في الخطاب الديني، أ.د عبدالمعطي بيومي، نشر بالمؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، طبعة وزارة الأوقاف، القاهرة، 1423هـ - 2002م
22. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبدالقادر الأرنؤوط، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة عشر، 1407هـ - 1986م
23. سنن أبي داود، أبي داود السجستاني، دار الحديث، القاهرة، 1408هـ - 1988م
24. الصحوة الإسلامية بين التطرف والجمود، د.يوسف القرضاوي، دار الشروق، 1421هـ - 2001م
25. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، المكتبة التوفيقية
26. صحيح مسلم، أبي الحسين مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي
27. ضرورة التجديد، أ.د.أحمد الطيب، نشر بالمؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، طبعة وزارة الأوقاف، القاهرة، 1423هـ - 2002م
28. ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، محمد سعيد رمضان البوطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1402هـ - 1982م
29. علل وأدوية، الشيخ محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية
30. فقه الأولويات دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ - 1997م
31. في التفسير الفقهي، د.محمد قاسم المنسي، مكتبة الشباب، القاهرة، 1415هـ - 1995م
32. مجموع فناوى شيخ الإسلام، أحمد عبدالحليم بن تيمية، الهيئة العامة للبحوث والإفتاء، الرياض
33. المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، د.يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة
34. المسند، أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر
35. مشكلات الفكر المعاصر في ضوء الإسلام، أنور الجندي، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة
36. منهجية البحث العلمي وضوابطه في الإسلام، د.حلمي عبدالمنعم صابر، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، السنة 16، العدد 183، 1418هـ
37. الموافقات في أصول الشريعة الإسلامية، أبو إسحاق الشاطبي، المكنبة التجارية الكبرى، القاهرة، الطبعة الثانية، 1975م
38. النهوض باللغة العربية في مختلف المراحل التعليمية والإعلام، أ.د عبدالصبور شاهين، نشر بالمؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، طبعة وزارة الأوقاف، القاهرة، 1423هـ - 2002م
39. هذا ديننا، الشيخ محمد الغزالي، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1426هـ - 2005م
40. واقعية المنهج القرآني، توفيق محمد سبع، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 1393هـ - 1973م
41. الولاء والبراء، محمد القحطاني، دار الرشاد
42. يغالطون إذ يقولون ،د.محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفارابي للمعارف، دمشق، الطبعة الأولى، 2000م


: الأوسمة



التالي
مفارقات بين د. العربي وزيرًا وأمينًا للجامعة العربية
السابق
دراما رمضان (الشيخ سلمان بن فهد العودة)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع