التخطيط هو تفكير عميق في بناء المستقبل وفق معالم واضحة، كما قال الله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 219، 220]. والتخبيط حالة من الخبال تدع الإنسان {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام: 71]، أو {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
التخطيط هو دراسة آلام الواقع، وآمال المستقبل، ووضع برامج وأعمال تمثل حلولاً جذرية لكل قضية تمثل أهمية للفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة والعالم. والتخبيط هو حالة من الهياج لآلام الواقع، وإحباط من التغيير والإصلاح، والانطلاق نحو اللاهدف.
التخطيط هو دراسة كل الإمكانات والقدرات والملكات والثروات من عناصر القوة لتوظيفها، وعناصر الضعف لعلاجها، والفرص المتاحة لاستثمارها، والتهديدات لتقليلها أو مواجهتها. والتخبيط هو الانطلاق دون وعي بأي من هذه العناصر الأربعة: "القوة، والضعف، والفرص، والتهديدات الداخلية والخارجية"، واعتبار أن الحركة في اللحظة هي الحل في أي اتجاه، كما قال الشاعر العربي:
إذا أنت لم تنفع فضـر فإنما *** يراد الفتى كيما يضر وينفع
التخطيط هو براعة في إلجام نزوات العواطف بنظرات العقول، والتخبيط هو نزع اللجام، وإثارة العواطف وراء كل نازلة، وتغييب العقول مثل الفرس الجموح أو الثور الهائج.
التخطيط هو أن ترى الخطر قبل وقوعه فتتحسب له، وتُعِدّ العُدّة لمواجهته، حتى عُرف اليوم علم إدارة الأزمات.
أما التخبيط فهو البدء في مواجهة الخطر بعد وقوعه بلا استعداد تمامًا، كمن دخل عباب البحر قبل أن يعرف أحوال الطقس المتوقعة ومدى هبوب العواصف الحادة أو الريح العقيم، أو النوات الشديدة، أو الأمواج العاتية، فيقاوم حيث لا عدة، فيغرق في قاع البحر.
التخطيط أن تجيد رسم السياسات مع افتراض أحسن الأحوال وأسوئها، وأوفر المال وأفقره.. فيضان الماء أو جفافه، هبوب الرياح اللواقح أو اللوافح، العدو الداخلي والخارجي، أمراض النفس والمجتمع، ثبات الناس على مبادئهم وتقلباتهم، فلا تحدث مفاجآت تجعل الإنسان مضطربًا، بل كما قال الشاعر:
عرفت الليالي قبل ما نزلت بنا *** فلما دهتنا لم تزدنا بها علمًا
أما التخبيط فهو عمل بالمثل الشعبي: "إحنا ولاد النهاردة" و"ولكل حادثة حديث"، ولو دخلنا أكثر في "الدروشة" فسيقال: "سيبها على الله".
والتخطيط هو الأخذ بأعظم الأسباب، وترك النتائج على ربّ الأرباب، والرضا بالقدر خيره وشره، بعد استنفاد كل الطرق والوسائل والجهود والطاقات، وهذا مع صبر جميل فيه احتمال المكاره دون ضجر، والسعي إلى التغيير دون ملل. والتخبيط خفة في العقل، وتقلب في النفس مع المجهول الذي لم يُعدّ له حساب، والمعلوم الذي لم يشارك في صنعه.
التخطيط هو دراسة التاريخ لمعرفة قوانين، التطور والتغير، والاستضعاف والاستخلاف، القوة والضعف، صعود الحضارات وتراجعها فوق منهجية {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. وذلك وفق سنن الله تعالى، وهي غلابة كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
فلا نغالب نواميس الكون؛ لأنه من يغالب الله يُغلب، ونحسن التدرج من الاستضعاف إلى الحوار ومنه إلى الاستخلاف، مثل قصص سورة الكهف، حيث تمر القصص بهذه المراحل ببراعة وتدرج، وهي منهجية {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19]، مع أصحاب الدعوة في مواجهة أصحاب الدولة الظالمة. ثم منهجية {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 37] حيث الدعوة بين الأقران والأصدقاء، فهي دعوة بلا دولة ضاغطة وحرية التعبير عن النفس. ثم أخيرًا يستقر الأمر على التحام الدعوة مع الدولة في مملكة ذي القرنين فاتبع منهجية {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95].
وهو ترتيب وتخطيط منطقي يتماشى مع السنن الكونية كلها في التدرج، وعدم إمكانية الانتقال من الكهف إلى التمكين دفعة واحدة.
والتخبيط هو الإعراض عن عبر التاريخ ودروس الماضي، والبدء من الصفر كأن التاريخ بدأ من عنده مثل الآباء الذين يجربون في الولد الأول كل وسائل التربية الصحيحة والسقيمة، ثم يكررون الأخطاء مع بقية الأولاد على أساس القاعدة الهابطة "المساواة في الظلم عدل".
التخطيط براعة عقلية وقلبية فريدة وجماعية {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. والتخبيط مناعة من الرؤية المستقبلية، كما قال تعالى: {وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40].
يا قوم لن تُبنى بلادنا بعد الربيع العربي بالتخبيط، بل بالتخطيط وحساب الخطوات، والتدرج وفق نواميس الكون كله، وهُدى القرآن والسنة النبوية والوقائع التاريخية.. فلا تتعجلوا، فمن تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.