البحث

التفاصيل

الدكتور حسن الترابي العالم الداعية المفكر المجاهد

الرابط المختصر :

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد،،

بعد أن صليت مع إخواني صلاة الجنازة – صلاة الغائب- على أخينا وصديقنا الحبيب، العالم الفقيه الداعية المفكر، أحد أعمدة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن: الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني في مكتبنا في الدوحة؛ حيث فوجئنا بموته، بعد أن اتصلنا به من عدة أيام ورد علينا ابنه الكريم. وكتب الله له أن يدفن مع زوجته في أمريكا. فوجئنا في اليوم التالي (السبت 5/3/2016م.) بفقد آخر من القادة والعلماء والدعاة والمفكرين المجاهدين، أحد من امتلأت حياتهم بالعلم والعمل، والدعوة والجهاد.

فإذا كان هناك أناس يعيشون في الدنيا ويموتون، ولا يُحِسُّ بهم أحد؛ لأنهم لم يفعلوا شيئًا في حياة الناس, يجعلهم يشعرون بوجودهم.
فهناك آخرون, ممَّن رزقهم الله الهداية والتوفيق, يتعلمون فيعملون, ويعملون فيعلِّمون, وينشطون في دعوتهم، باذلين أعمارهم وجهدهم في سبيل رسالتهم التي آمنوا بها، ومن هؤلاء أخونا الحبيب إلينا، الأثير لدينا، العزيز علينا، الرجل، العالم، المفكر، الداعية، المجاهد، الثائر: الدكتور حسن الترابي، الذي كان بحق أحد رجالات الأمة العربية والإسلامية، وأحد رجالات الفكر والتربية والسياسة، لا يشك في ذلك أحد. فهو مفكر وزعيم سياسي وديني، يعتبر من رواد التجديد السياسي الإسلامي.

حسن الترابي هو الحسن الثالث في الإسلاميين, بعد حسن البنا الأول, وحسن الهضيبي الثاني, هو سوداني قح, تعلم القرآن الكريم وحفظه وجوده في صباه, وتعلم اللغة العربية والشريعة, ولم يتغير فكره الإسلامي الأصيل عن أصله, رغم أنه حصل على قمة الدراسات العليا في الغرب: الماجستير من جامعة أكسفورد، ثم الدكتوراه من جامعة السوربون, وأتقن رحمه الله عدة لغات بفصاحة: الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ولكنه بقي سودانيا عربيا مسلما, يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم!
كان حسن الترابي من النوع الحيّ المتحرك المحرِّك, لا يعرف البلادة, ولا الكسل ولا الرقاد الطويل, ولكنه رجل حر, مستقل الفكر, مستقل الإرادة, مستقل القرار, عقله متوقد, ولسانه فصيح, وجهه سوداني أصيل, مبتسم دائمًا, من غير تكلف.
تزوج أخت الصادق المهدي, فكانت نعم الزوجة له, ونعم الرفيق له في دربه, لم يتزوج غيرها, واختلف مع الإخوان اختلافا في الطرق؛ لأن له فلسفة في الحركة لا تتفق تماما مع المسيرة العامة لحركة الإخوان, ولذلك قالوا للتنظيم العالمي للإخوان: اعذرونا فيما قد نتخذه من خطوات أو قرارات, ربما لا توافق ظروفكم المحلية والإقليمية والسياسية على إقرارها أو تلبيتها, أو الموافقة عليها, وظلوا سنين على هذا الموضع حينما كنت لا أزال ملتزما بالارتباط التنظيمي مع الإخوان.
قاد حسن الترابي الجماعة السودانية في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, وكانوا معه كتلة واحدة, وإن خالفه بعضهم بعد ذلك لعدم استطاعتهم تحمل مخالفاته في اجتهاده لبعض تقاليد الإخوان, وطبيعة الناس ليست واحدة في هذا الجانب. منهم من لا يطيق الخروج عن المتوارث أو المألوف, في السياسة أو في الفكر, أو في الحياة. لا بد أن تظل الحياة في نظره خيطا منتظما, يتصل بعضه ببعض, والترابي ليس من ذلك الصنف, ومثلي يقبله, ولكن بعض إخواني من المقدسين للنمطية الموروثة التي لا يجوّز لأحد الخروج عليها.
التقيت الشيخ الترابي من قديم، ووجدته رجلا يتمتع بفهم دقيق, وحِسٍّ رقيق, وإيمان عميق، وعلم وثيق. ما ذهبت للسودان، أو لبلد عربي، أو لقيته في قطر وغيرها، إلا تحدثنا عن ثقافة الأمة وهموم الأمة، وكيفية علاجها، وحال المسلمين، ووسائل النهوض بهم، وكيف ننهض بالدعوة، وكيف نطورها.
أول ما لقيت الترابي في لبنانسنة 1985م. وكان في قمة الشباب، وكان يزور بيروت في ذلك الوقت، وقد قاد الحركة الشعبية الجامعية، التي انتهت بإسقاط الحكم العسكري برئاسة عبود، وعودة الحكم المدني إلى السودان. وأذكر مما جرى بيني وبينه من حديث: أني قلت له: لعلكم تلتفتون إلى الجيش ونشر الدعوة فيه، حتى لا يقوم بانقلاب آخر ضدكم. فقال لي: نحن في الواقع لا نهتم بالجيش، وإنما نهتم بالشعب. وعندنا أن نكسب معلمًا في مدرسة خير من أن نكسب ضابطًا في الجيش. قلت: ولكن الجيوش الآن كثيرًا ما تنقلب على الحكم المدني، وتسيطر على مقدرات الشعوب. قال: لتنقلب، ونحن سنسقطها!
كانت هناك أنشطة كثيرة تجعلني أتردد على السودان، منها أنهم اختاروني في المنظمةالخيرية الأفريقية الإسلامية. ولها أعمالها في السودان، وفي أفريقيا عامة. وأحيانا نلتقي في الخرطوم أو في بلد آخر.
وقد أُدعى لجامعة أفريقيا، أو لجامعة الخرطوم، أو لجامعة أم درمان، أو جامعة القرآن، أو للحركة الإسلامية، أو لبنك فيصل الإسلامي، أو لغيره من الهيئات. وهذا ما جعلني ألتقي به كثيرا في الخرطوم، أو في مناسبات شتى، بعضها في قطر حينما دعاه أمير البلاد –آنذاك- الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني ليتشاور معه، ويستفيد من علمه في وضع دستور يلائم البلاد. وكم دعته قطر في مناسبات رمضانية، والتقينا معا، على مائدة سمو أمير البلاد، وعلى موائد القرآن والعلم.
وقد سجن هو وعدد من أتباعه في أيام حكم النميري, فترة من الزمن, ثم تفاوضوا معه على أن يستعين بهم، وأن يستعينوا به، وأن يتولى بعض المناصب, وقبل الدكتور الترابي, فهو يؤمن بالمرحلية. وحضرنا معه الثورة الشعبية السودانية التي أعلنها النميري لإقامة التشريع الإسلامي. وكان الترابي وجماعته مشاركين بقوة في هذه المسيرة الكبيرة التي سميت (الثورة المليونية).
كنت والشيخ صلاح أبو إسماعيل رحمه الله, نتطلع إلى هذه المسيرة, وهي تمر أمامنا أفواجا أفواجا, من الصباح حتى الظهيرة, والناس يهتفون للشريعة وللإسلام وللقرآن, بحرارة طبيعية ومن تلقاء أنفسهم, فكنا نذرف الدموع ونقول: هل يكون لنا يوم في القاهرة مثل هذا اليوم؟
ومع هذا قلت للسودانيين: ليس المهم أن نعلن قيام التشريع, ولكن المهم أن يقوم المجتمع المسلم, وأن يحيا بالإسلام وللإسلام. وليس هذا بالشيء الهين.
وما أسرع ما تغيرت الحياة في السودان, ولم تكن مع ثورة العسكر ثورة تربوية وفكرية وأخلاقية, فكان لا بد من تغيير, وقامت ثورة عسكرية بيضاء مسالمة, يقودها لواء شريف، هو رجل الإيمان والمحبة، والإسلام والسلام: عبد الرحمن سوار الذهب، الذي ضرب المثل في الزهد والتضحية بالملك والسلطان, وتنازل بعد سنة عن السلطة إلى حكم مشترك, آلت البلاد فيه إلى حياة قلقة غير مستقرة.
وبعد انسداد الأفق السياسي في السودان، كان لا بد أن يقوم أحد الأقوياء في البلد بالسيطرة على مقاليد الأمور. وكان الدكتور الترابي أكثرهم تصورًا وإدراكا للموقف وخطورته, وأكثر قدرة على التحرك بسرعة, فبادر إلى ذلك, واختار مجموعة من العسكريين على رأسهم عمر البشير لهذا الأمر.
ولو لم يبادر الترابي بهذا العمل لسبقه إليه الشيوعيون أو البعثيون, وقد حاولوا الثورة المسلحة في أول الأمر على الذين سبقوهم, فكان جزاؤهم أن قضي عليهم.

كان حسن الترابي رجل العزيمة الماضية, يتمثل بقول الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}, ويعجبه في الشعر قول القائل:
إذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ فإنَّ فساد الرأي أن تترددا
وإن كنتَ ذَا عزمٍ فانْفِذْه عاجلاً فإنَّ فسادَ العـزم أن يتقيَّدا
وقد التف الشباب المسلم في السودان حول الترابي، واختاروه قائدا للحركة الإسلامية في عموم السودان. وعندما قامت الثورة، التي هيأ لها الأسباب وقادها بحكمة وانتصرت، أبى إلا أن يدخل السجن، ويجعل القائد عمر البشير، ويأمره أن يدخله السجن، ويدير الأمر من داخل محبسه بالأوراق.
بعد ذلك ظهر الترابي، وخرج من السجن، وعرف وضعه، وانفتح النرابي بعدها على العالم العربي والعالم الإسلامي، ودعا الناس إلى السودان، وكنا ممن دُعي إليه.
وكان منهج الترابي منهجا عروبيا إسلاميا، يركز على عدة أمور:
1. قضية الإيمان بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبالشريعة والتربية منهاجا عاما.
2. حرية الشعوب جزء من الفرائض الإسلامية، التي نجاهد في سبيلها.
3. حرية التعبير والفكر والمقاومة للظلم فرائض أساسية.
4. قضية فلسطين قضية أصلية، لا يجوز التهاون فيها. والدفاع عنها فريضة.
5. العدالة الاجتماعية ومحاربة المظالم والطغيان والفساد جزء لا يتجزأ من الإسلام.
6. الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة، يجب أن تتوحد، ولا يجوز أن تتفرق.
7. نسالم كل من يسالمنا ونضع أيدينا في يده، ونعادي كل من عادانا.
8. البشرية كلها أبناء آدم، وكلهم إخوة، وعليهم أن يتحابوا ويتعاونوا.

وقد التقيت الدكتور الترابي منذ فترة قصيرة في مكتبي بالدوحة، حيث تفضل هو بزيارتي حين جاء إلى قطر، وكانت آخر زيارة له. وظللنا نحو الساعتين، نتشاكى هموم الأمة، ونتدارس في حلولها، والعمل من أجلها، وكنا في ذلك نعمل سويا من أجل أمتنا، وهاتفته منذ أيام قلائل، ودعوته للمساهمة في الكتاب الذي يصدره مركز القرضاوي للوسطية والتجديد، عن سيرتي وأنشطتي، بمناسبة بلوغي التسعين في شهر سبتمبر القادم. ورحب بإسهامه فيها، وأنه سيرسل مشاركته إلى مكتبي حين ينتهي منها. ثم كان قدر الله أسبق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.
وقد ساءني أن أحد الإخوة قال عنه: إنه ليس منا !!وشبهه آخر بهيكل مصر، وأنا أرى ذلك من الغلو المجافي للإسلام. فالدكتور حسن الترابي رجل لا ننكر فضله وجهوده في الدعوة الإسلامية, وفي الحركة الإسلامية في السودان, وفي مقاومة الصهينة والصليبية، والعِلمانية واللادينية, ولكنه ليس معصومًا, ولديه شطحات في بعض الأمور, ننكرها عليه جميعًا. وقد قال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها *** كفى المرء فضلا أن تعد معائبه
وقد اختلفت مع الترابي في مسائل عديدة، تحدثت عنها في بعض البرامج التلفزيونية، وضمنتها الجزء الخامس من فتاواي، وليس هذا موطن بسطها.
وهذا لا يعني إهمال الترابي وإغفال اجتهاداته، فقد ظل رجل السودان والعرب والمسلمين. وقد يختلف الناس حوله، لكنه يعتبر أحد رجالات الأمتين العربية والإسلامية بالفكر والدعوة والتربية والجهاد والسياسة، وإن مؤلفاته ومعارفه وتوجيهاته التي استفادها تلامذته وأصدقاؤه محفوظة مبثوثة مدونة. فقد ظل مرتهنا حياته لهذا الدين وأمته الكبرى، وعمل من أجله، واجتهد فيه، وللمجتهد أجران إن أصاب، وأجر إن أخطا. وإن في رحيله لثلمة للإسلام والمسلمين.
ليس من شأن الناس أن يتفقوا في كل شيء، ولا مانع أن يكون هناك خلاف بين الترابي وغيره. ولا يعني هذا أن الترابي ينبغي أن يكون على حق في كل كلمة ينطق بها، أو كل قضية يتبناها، فكلٌّ يؤخذ منه ويرد عليه، إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
والدكتور الترابي أحد إخواني – وإن اختلفت معه في بعض الأمور- وليس من أخلاقي أن أخاصم إخواني.
اختلف الترابي وإخوانه في عدد من القضايا الفكرية والسياسية، وساءني ذلك كما ساء كثيرا من الإخوان المسلمين في أنحاء العالم العربي. وطالبني الإخوة أن أقود حركة من كبار الإسلاميين لمحاولة رأب الصدع، وتسوية الخلاف، واتفقنا أنا والإخوة القادة: الشيخ عبد المجيد الزنداني من اليمن، والشيخ فيصل مولوي من لبنان، والدكتور إسحاق الفرحان من الأردن، وأن ينضم إلينا من السودان الأخ الدكتور عصام البشير: وزير الإرشاد والأوقاف في الخرطوم. وكلنا من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وظللنا أكثر من عشرة أيام نتشاور ونتحاور مع الفريقين؛ لنقرب ما بينهما. وسافرنا بالطائرة إلى بعض الجهات في السودان؛ لنشاهد بأعيننا، وتعبنا كثيرا، ولكن لم نصل إلى موقف عملي يوحد الجميع. فتعصب كل من الفريقين حال بيننا وبين النجاح. وقد قال الشاعر:
عليَّ السعيُ فيما فيه نفعي *** وليس عليَّ إدراكُ النجاح
والترابي وإن كان يشاور من حوله, فقد كانت له خصوصية تدفعه لارتكاب بعض الأشياء التي لا نرضاها, كتسليمه كارلوس إلى فرنسا, مع أنه من الرجال الأحرار الذين دافعوا عن المستضعفين ضد الدول الطاغية, وقد أسلم في آخر الأمر وتزوج سودانية, فكان لا ينبغي أن تسلم رقبته لفرنسا ذات الاستعمار القديم, وذات التطلع الابتلاعي الجديد.
وكان للترابي رحمه الله آراء في الفقه والأحكام يراها كثير من الناس مسرفة, ونزاعة إلى الغلو في الاجتهاد, ومحاولة طأطأة رأس الشريعة العالية, لتنزل إلى قاع المجتمع, الذي بدأ يتضعضع وينخفض, وينزل إلى أسفل إلى حد كبير, وهو ما أحس أني غير مستريح إلى هذه الاجتهادات التي أعتبرها شاذة.
على أن للترابي ميزة ليست لغيره من السياسيين, إنه ليس مجرد زعيم سياسي, ولكنه رجل فقه ودعوة, ينطلق في كل مواقفه وأعماله من فكر مؤطر, وهو فكر ينبثق من الإسلام, أي من القرآن والسنة، وما تفرع عنهما من الأصول والمقاصد والقواعد, وهو لا بد أن يستند إلى هذه الأصول, ويحتكم إليها, ويسائلها وتسائله, ويجاوبها وتجاوبه, فإن تجاوبت معه في الجملة وأعطته فرصة, ولم يجد من يرد عليه غلطه, ويبين له موضع خطئه, فهو معذور, بل هو مأجور حتى وإن أخطأ, وهذه إحدى روائع الاجتهاد الإسلامي. المهم أن يكون الشخص قد بلغ مرتبة الاجتهاد, وأن يراجع في مسألته كل ما يمكنه, وأن يتشاور مع أمثاله من أهل الاجتهاد, ومن أهل الفكر ما يستبين به الموقف كله بما له وما عليه, ثم يتخذ الموقف على بصيرة, فإن كان صوابًا فله أجران, وإن كان خطأ فله أجر واحد, كما جاء في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين.
والدكتور حسن الترابي, الطموح إلى الامتلاء بالعلم والإيمان, وإلى مقاومة الطغيان والفساد, الذي قرن بينهما القرآن حين قال: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:11-14] وإلى الوقوف في وجه الجبابرة والمستكبرين في الأرض من الصهاينة والصليبيين والماديين الذين قال قائلهم: إن أهل الدين زعموا أن الله قد أيد الدين في الأرض، ولكنا نقول: ليس صوابًا أن الله خلق الإنسان، وإنما الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله!
وقف الترابي في وجه الطغيان الماركسي, وفي وجه الطغيان الرأسمالي (الأمريكي وأتباعه), وفي وجه الطغيان الصهيوني, ولكنه رضي أن يقاوم هذه الطغيانات الكبيرة المتألهة، بالحياة العادية القليلة, لا يريد أن يسكن القصور الشامخة, ولا أن يركب السيارات الفارهة, ولا أن يعيش الحياة الناعمة, يريد أن يعيش كما يعيش الناس, ويتعب كما يتعب الناس.
ولهذا رحب بأن يعارض, وأن يقول الحق كما يراه, وأن يغالب الباطل, وإن أداه ذلك إلى الدخول في صراع مع كثير من إخوانه وتلاميذه الذين نقلهم من الكوخ إلى القصر, ومن الأسفل إلى الأعلى.
وظل ينتقل من معتقل إلى سجن, ومن سجن إلى معتقل, حتى لا يكاد يهنأ له عيش في بيته, وقد دعيتُ إلى إحدى المنتديات في السودان, للمشاركة في الاجتماع الثامن لمؤسسة القدس العالمية بالخرطوم، منذ سنوات، لكني رفضت المشاركة حتى تفرج الحكومة السودانية عن زعيم المؤتمر الشعبي: حسن الترابي، فلما أبى المسؤولون، رفضت أن أحضر مثل هذا المؤتمر في بلد يُسجن فيه رجل في مكانة الترابي وتضحياته وعمره! فقد بلغ الثمانين، ولا يزال يحمل إلى السجن!! ومن أتباعه!!
د حسن الترابي غني النفس, كما جاء في الحديث: "ليس الغنى عن كثرة العرض, إنما الغنى غنى النفس". وكما جاء عن سيدنا علي:
يعز غني النفس إن قلَّ ماله ويغنى غني المال وهو ذليل!
ويقول أبو فراس الحمداني:
إنَّ الغنيَّ هو الغنيُّ بنفسهِ ** وَلَو أنّهُ عارِي المَناكِبِ ، حَافِ
ما كلُّ ما فوقَ البسيطةِ كافياً ، ** فإذا قَنِعتَ فبَعضُ شيءٍ كافِ
عاش الترابي في بيته, وكما سمعت من سفير السودان بالدوحة يقول: إنه حتى لا يملك بيته في الخرطوم. حسن الترابي العالم المؤلف القائد صاحب الكتب المتنوعة لا يجد ما يمتلك به بيتا متواضعا.
كم دعانا الدكتور إلى بيته, فأكلنا فيه الأكلات السودانية المعروفة, وامتلأت بطوننا من خيره وحلوه, ومع هذا يقول عارفوه: إنه لا يملك ما يملك الآخرون من أموال في البنوك, أو من عقارات في النواحي, أو من غير ذلك مما يملك الناس.
حياك الله يا أخي حسن, وحيا أرضا أنجبتك, وبارك الله فيك وفي تلاميذك وأبنائك وإخوانك, وإن خالفوك أحيانًا ووافقوك أحيانًا, وكلهم معك على الخط السليم, وعلى الصراط المستقيم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وكان الله معك يا أخي إبراهيم السنوسي في قيادة الجماعة، ومحاولة توحيدها مع المجموع الإسلامي, وما ذلك على الله بعزيز.
وأوصى أبناء السودان بما أوصيتهم به في كلمتي في بالمركز الثقافي السوداني بالدوحة, وقد تجمع السودانيون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم, وطلبت منهم أن يتخذوا من موت الترابي شعارًا لهم لتتحد القلوب, وتجتمع الصفوف, وتتصاف الهمم, ويعمل الجميع على كلمة سواء: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله.
وهو ما سمعت أخي الأستاذ خالد مشعل نادى به الإخوة السودانيين في الخرطوم, أن يجعلوا منه مبدءًا لوحدة الصفوف.
نسأل الله لاخينا الحبيب حسن الترابي أن يجزيه خيرا عما صنع لدينه وعما صنع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يغفر له ويرحمه، وأن يتقبله عنده في الصالحين، وأن يغفر له أخطاءه في الاجتهاد، وأن يخلفه في ذريته وإخوانه بخيرما يخلف به عباده الصالحين.
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10


: الأوسمة



التالي
بين السنهوري وعلي عبد الرازق
السابق
عندما يتكلم القرضاوي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع