الرابط المختصر :
ما أكثر من ودعناهم تباعا فى الفترة الأخيرة من أحبة ، واراهم الثرى ، وغيبهم الموت ، وفرق بيننا وبينهم ما أسماه
النبى صلى الله عليه وسلم " هازم اللذات " ، عندما مر بقوم يضحكون ؛ فقال:
" أكثروا ذكر هازم اللذات "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.
ودعناهم وما وفيناهم حقهم ، إخوة وأخوات ، آباء وأمهات ، أصدقاء وعلماء ، و... إلخ .
وكم ندمنا على فراقهم قبل أن نقوم بحقهم ، ولكم وددنا لو أمهلنا القدر حتى
نحسن صحبتهم إن كنا مقصرين ، أو نزداد إحسانا إن كنا محسنين ، ولكن كان
هذا بعد فوات الأوان ، حين تجلت الحقيقة الكونية والشرعية فى قول الأمين
جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت ، واعمل
ما شئت فإنك مجزي به ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه " رواه الطبرانى فى المعجم
الأوسط ، والبيهقى فى شعب الإيمان .
فجعنا الموت بأحبتنا ، فترحمنا
عليهم ، ودعونا الله لهم ، وفاضت أعيننا بالدمع لشدة فراقهم ، وفاضت
مشاعرنا رقة تترجم عن مكنون قلوبنا نحوهم ، وانطلقت ألسنتنا بالثناء على
كريم معشرهم ، وحسن خصالهم ، وذكر محاسنهم ، وجميل أن يكون هذا ، ولكن :
كان أجمل منه لو كان ذلك فى حياتهم ، وفى صحبتهم .
كم نحبس كلمات الود
عن أحبابنا فى حياتهم حياء أو إحراجا ، وكم نصمت عن إظهار الحب والحفاوة
بهم خجلا أو إلفا ، ولم نفقه أن حبا صامتا يسكن فى حنايا القلب ، ولم يبح
اللسان بذكره أشبه بالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، وأن حبا لا يترجم
اللسان عنه برا وشوقا ولهفة لهو حب يتيم لا أب له ، وقديما قال الشاعر :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * * * جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ولما كانت الحقيقة الكبرى أن الله تعالى قضى على خلقه الفناء ، وكتب لنفسه
البقاء كانت الحقيقة الكبرى أيضا التى يجب أن نعمل من أجلها هى أن نكون
ومن نحب فى الجنة معا ، حيث الخلود بلا موت ، والتجمع بلا افتراق فى دار
الكرامة ، كما روى الإمام البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت – يجسد
على شكل كبش - حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل
الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ،
ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم".
كان آخر من ودعته من الأحبة والد زوجتى – رحمه الله – الذى كانت لنا أشواق لرؤيته ، ولكن القدر لم يمهله حتى يتحقق لنا المبتغى .
رزق – رحمه الله تعالى - بأربع من البنات ؛ فأحسن تربيتهن ، وأكرم صحبتهن ،
حتى تزوجن جميعا ، وإنى لأرجو الله تعالى أن يكن حجابا له من النار ، كما
روى عقبة بن عامر الجهني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت
له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن، كن له حجابا من النار "
.. المعجم الكبير للطبرانى .
وما أحب أن نذكره ولا ننساه هو أن نستثمر
ما تبقى من ساعات العمر فى الإحسان إلى من نحب ، والاستمتاع بصحبتهم قبل أن
نفارقهم أو يفارقونا.
علم الله كم يؤلمنا مرقدهم كما سيؤلم غيرنا
مرقدنا ، وكم يحزننا فراقهم ونحن لا حيلة لنا ، وكم تدعونا وحشة ضجعتهم إلى
الترحم عليهم والدعاء لهم ..
فيا من أنت أرحم بهم منا ، ويا من أنت
أرأف بهم منا ، ويا من أنت الجواد الكريم ؛ امنن بكريم عفوك وواسع رحمتك
على أحبتنا ، واغفر اللهم لنا وللمؤمنين والمؤمنات.