ما الفرق بين اسمٍ مشهور مخلَّد في التاريخ، وبين آخر يُذكر فيستغرب الناس ذكره؛ لأنهم لا يعلمون إن كان مرَّ على هذا الكوكب أصلا؟
الفارق أن الأول أخفق ولم يستسلم، بل أصرَّ وكرر المحاولة حتى نجح، والآخر توقف في بداية الطريق أو وسطه.
النجاح الروحي الإيماني هو أهم نجاح متاح للإنسان، لأنه يصلك بمصدر الوجود والخلود والمجد والخير، يصلك بـ (الله) .
تأمّلت الصلاة فوجدتها محاولة تتكرر خمس مرات يوميًا، لتحقيق أهم هدفين:
١- تعزيز الصلة بـالله، وتحويل المعاني والقيم الروحية التي نؤمن بها نظريًا إلى حقائق ومعتقدات راسخة في النفس.
٢- وتعزيز الصلة بالناس، على أساس الرحمة والسلام والتعاون.
ولذا جاء في وصف الصلاة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ. وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ. وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ) (رواه الترمذي)، وصححه بعضهم من كلام ابن مسعود.
التكبير محاولة استحضار معنى الألوهية سبع مرات في الركعة الواحدة.. ولو تخيَّلنا إنسانًا يحاول ألا ينسى، يحاول أن يتذكَّر معنى: الله أكبر، أو سمع الله لمن حمده.. في كل مرة يقولها كم سيكون عدد محاولاته خلال الصلاة الواحدة؟
وخلال اليوم؟
والأسبوع؟
والشهر؟
والسنة؟
وخلال حياته (لنفترض٤٠سنة) ؟!
رقم مهول!
هل يتصور أن يخرج من كل هذه المحاولات فاشلًا صفر اليدين؟ وهو يتشبث بالقضية الأكبر والأخطر في الوجود؟
لا تبحث بعد هذا عن السؤال المكرور:
كيف يمكن أن أخشع في صلاتي..؟
هكذا تبدأ الصلاة ليكون العابد متلبِّسًا بحالةٍ من الإقبال على خالقه يُمنع معها من مخاطبة غيره، ومن الالتفات إلى سواه.
ويخرج من هذه الحالة بالالتفات يمينًا وشمالًا، ليوزع دعوات الحب والسلام والتراحم والتسامح لمن عن يمينه، ومن عن شماله:
السلام عليكم ورحمة الله..
أليس هذا مقصودًا جوهريًا في الصلاة؟
أليس توظيفًا للسمو الروحي في ضبط الصلة بالناس؟
الركن الآخر، وهو قراءة الفاتحة، مناجاة مباشرة لرب العالمين، واهب الرحمات، ومالك يوم الدين، بضمير الخطاب {إِيَّاكَ} (5: الفاتحة) .
لينتقل الضمير بعد ذلك إلى جماعة البشر المتضامنين في طلب الوصول إلى الخير كله {اهدِنَا} (6: الفاتحة) .
وهي تربية على الالتفات للناس مع حفظ حق النفس.
السجود ذروة الاقتراب من الرب المعبود و«أقرب مَا يَكُونُ الْعبد مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (رواه مسلم) ، وفي التنزيل {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (19: العلق) ، وأكثر حالات الصلاة دموعًا وخشوعًا ولهفةً هو السجود:
اتئد يا إمام لا ترفع الرأس... فما زلت خاشعًا في سجودي!
وهي تربية لا تتوقف على التجرُّد من حظوظ الذات ومن سطوة الـ (أنا)، وتعويد على خفض الجناح للعباد والتذلل لهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (54: المائدة) .
وتذكير بالمساواة بين الناس أمام سلطان الله فلا كبير إلا الله، والعظيم والمحتقر من البشر سواسية مع الأشراف والعلية أمام الخالق:
نحنُ الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحربُ تسقي الأرضَ جامًا أحمرا
جعلوا الوجوهَ إلى الحجازِ وكبَّروا في مسمع الرّوحِ الأمينِ فكبّرا
محمودُ مثلُ إياز قام كلاهما لك في الوجود مصلِّيًا مستغفرا
العبد والمولى على قدمِ التّقى سجدا لوجهكَ خاشعيْنِ على الثّرى
محمود بن سبكتكين الغزنوي؛ فاتح الهند والصين يقف للصلاة، إلى جوار خادمه إياز الجورجي؛ الذي تحول إلى قائد من أعظم قواده.
وبالمناسبة الذين يتهمون محمود بعلاقة سرية مع خادمه يحاولون تشويه صورة البطل الفاتح العظيم؛ الذي هدم الأصنام وهو يتلو سور القرآن العظيم..
الصلوات خمسٌ في العدد
وخمسون في الفضل والثواب
عبادة تصبح كالعادة، وعادة ترتقي للعبادة..
كفارة لذنوب الحياة، وكأن صاحبها يغتسل من درنه كل يومٍ خمس مرات، (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ. مَا تَقُولُونَ؟ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. يَمْحُو الله بِهَا الْخَطَايَا) (رواه البخاري ومسلم عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله).
وتأهيل لإقامة الجسور مع الناس، وبناء العلاقة على أعظم أساس.
طمأنينةٌ تطارد أشباح الخوف والقلق والتوتر في القلوب، وراحةٌ بالاقتراب من علام الغيوب.
صلاة الجماعة تقوية لحبل الوصل، وتعويد على لقاء الناس، والاحتكاك الرشيد بهم، وتجاوز حالات التكاره والتباغض والاختلاف إلى السماحة واليسر والعفو (يَلْتَقِيَانِ. فَيُعْرِضُ هَذَا. وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)، (متفق عليه).
هل يمكن بعد هذا لمن عقل صلاته وتلقّن درسها واستلهم رسالتها أن يقدم وهو في طريقه إلى صلاته أو في انتظارها أو هو لتوِّه قد خرج منها..على أن يقترف أذى لأخيه أو يؤذيه بقول أو فعل؟
هل يمكن أن تبوء هذه المحاولات بالفشل في تهذيب شخصياتنا، وطرد أوضارنا، وتطهير سرائرنا ونوايانا؟
امض إلى صلاتك مدفوعًا بالحب والأمل والتطلُّع إلى مانح الحياة والروح، خائفًا على ذاتك من الجفاف والتيبُّس والضياع إن بقيت نائيًا عنه معرضًا عن ذكره..
أقبل على عبادتك إقبال من يتزوَّد منها بطاقة المصابرة على ضَعْف النفس وكثرة عثارها، وعلى بذل الخير للغير؛ التماسًا للفضل والجزاء من الرب الكريم.
واجعل من صلاتك في بيتك توطينًا للملائكة الكرام، وتدريبًا للنشء على الامتثال والقيام، وتجويدًا وتجديدًا لأواصر العلاقة الزوجية كلما اقتضى المقام، والسلام.