تتمثل أهمية التربية في كونها أداة تشكيل شخصية الفرد ضمن الجماعة التي ينتمي إليها، وهي بذلك الوحيدة دون سواها التي تعمل على تزويد المجتمع بالموارد والكفاءات البشرية التي تحافظ على مكانته بين الدول والأمم والثقافات، فالتربية هي عنوان التاريخ والهوية والانتماء والعلم والمعرفة والتاريخ والحضارة والهوية. والتربية هي عنوان النماء والازدهار والتفوق والتميز دون الانغلاق والانجراف والاغتراب والذوبان في الآخر. فالإصلاح التربوي هو أداة مواجهة التحديات على كل المستويات والتأقلم والتكيف مع التطورات الجديدة سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو الدولي، فالإصلاح هو التخطيط الإستراتيجي لما يجب أن يكون عليه جيل المستقبل لرفع راية التحدي وتحقيق الأهداف المسطرة في جميع مجالات الحياة ضمن رؤية مبنية على قيم ومبادئ ولغة وهوية الأمة، إصلاح مؤسس على القيم والأعراف والتقاليد والهوية الوطنية وليس الانجراف والاغتراب والذوبان في الآخر.
تعتبر المنظومة التربوية في أي بلد الركيزة الأساسية والفضاء الحيوي للتربية والتعليم والثقافة والقيم والهوية الوطنية. والنظام التعليمي لأي بلد هو اللبنة الأولى لتنمية الطاقات البشرية والتنمية المستدامة. والنظام التعليمي الناجح هو ذلك المنهج الذي يفرز العلم والمعرفة والإبداع والابتكار ويؤهل الكادر البشري لخوض العملية التنموية في البلاد. على الصعيد العالمي هناك دول نجحت في وضع أنظمة تعليمية تنبع من واقعها ومن تاريخها وثقافتها وتقاليدها وأعرافها وهناك على عكس ذلك دول تلجأ إلى التقليد الأعمى وثقافة الاعتماد على الآخر واستخدام مناهجه وطرائقه في تحديد منظومته التعليمية.
يجري هذه الأيام جدال ونقاش حول إصلاح المنظومة التعليمية في الجزائر بمساعدة خبراء فرنسيين والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو لماذا بالضبط الفرنسيين وما موقع هؤلاء في الخريطة العالمية للأنظمة التعليمية. فحسب الترتيب العالمي لأفضل الأنظمة التعليمية في العالم لا نجد مكانا ولا وجودا لفرنسا ضمن أحسن 20 دولة في العالم، بل نجد دولا كـ"كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة والدول الإسكندنافية وكندا وأستراليا...إلخ". هذه الدول أبدعت بأنظمة متميزة واستطاعت أن تعلم أجيالا ابتكروا وأبدعوا وأسهموا في ازدهار وتطور بلدانهم. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو على أي أساس أختار المسؤولون الجزائريون الخبراء الفرنسيون وهل الموضوع يتوقف على اللغة أكثر من المناهج والطرائق.
إذا كان الأمر يتعلق باللغة فيجب أن نعي النظام التعليمي لأي بلد يجب أن يقوم ويؤسس على اللغة الرسمية والوطنية للبلد. أما بالنسبة للغة الثانية فالموضوع بكل بساطة ومنطق يجب أن يبنى على لغة العلم والمعرفة واللغة المهيمنة عالميا على صناعة المعرفة وهذا يعني أن لا خيار غير اللغة الإنجليزية. مع السف الشديد هناك في الجزائر من المسؤولين من يرى أن فرنسا هي القدوة وهي المثل وهي مفتاح النجاح وما زال يصدق ويؤمن بأن اللغة العربية غير قادرة على نقل العلم والمعرفة وهي لغة النشر والشعر والموشحات.
ماذا نستنتج عندما تصرح وزيرة التربية الفرنسية نجاة فالو بلقاسم بأن وزارتها أسهمت في "الإصلاحات التربوية" بالجزائر، وأن دورها لا ينحصر في تكوين الأساتذة فحسب، بل يتعدّاه إلى تكوين المكوِّنين والمفتشين وحتى مديري المدارس الذين سيرافقون هؤلاء الأساتذة في تطبيقها، واعتبرت ذلك "دورا نافعا" لفرنسا في هذه "الإصلاحات"، وأكّدت أن هناك "تقدّما جيدا" في هذا المجال، ينبغي أن يتحوّل إلى "شراكة قويّة"! الموضوع بالنسبة للجانب الفرنسي هو غنيمة حرب، هو بكل بساطة إحياء لغة هي العاشرة عالميا وهي التي أصبحت عاجزة عن التنافس عالميا، حيث إن الباحثين والعلماء الفرنسيين أصبحوا مجبرين على النشر باللغة الإنجليزية إذا أرادوا أن يصلوا إلى العالمية وأن تقرا أبحاثهم ودراستهم في الأوساط الأكاديمية والعلمية العالمية.
هكذا إذن اتضح للجميع أن ما اقترحته لجنة بن زاغو التي كانت بن غبريط – وزيرة التربية والتعليم الحالية- عضوًا فيها، سيُطبّق حرفيا في عهدها، وبمساعدةٍ "قوية" من فرنسا؛ ويتعلّق الأمر بفرْنَسة المواد العلمية في التعليم الثانوي، في مرحلة أولى، بدعوى تحضير التلاميذ لدراسة العلوم الدقيقة والتطبيقية في الجامعة باللغة الفرنسية، وبعدها تمتدّ فرْنسة هذه المواد إلى التعليم المتوسط، ثم الرياضيات في الابتدائي، والحجّة ستكون نفسها في كل مرّة: تحضير التلاميذ للمراحل الدراسية المقبلة، وستتكفل فرنسا على مدار سنواتٍ عديدة بتكوين أساتذة هذه المواد والمكوِّنين والمفتشين باللغة الفرنسية ومرافقتهم لضمان نجاح العملية.
ما نعيشه منذ سنوات طويلة في الجامعة من انقسام لغوي يميّزه فرْنَسة العلوم الدقيقة وتعريب العلوم الإنسانية، سيصل إلى كل أطوار التعليم، فتُدرّس الموادُ العلمية بالفرنسية ولا يبقى للعربية سوى الأدب والتربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا والتربية المدنية؛ مع إخضاعها بدورها لتعديلاتٍ واسعة في مضمونها، بذريعة مواكبة القيم العالمية كالحداثة وحقوق الإنسان ومكافحة التطرّف والعنف.. وغيرها من المسمّيات والمصطلحات والمفاهيم. هذا الانقسام اللغوي كان يمكن أن ينتهي بتطبيق قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي ينصّ بوضوح على تعريب الجامعة، لكن السلطة لم تكتفِ بتجميد القانون قرابة رُبع قرن، بل قرّرت الآن العمل في الاتجاه المعاكس له؛ أي تعميم استعمال الفرنسية في مختلف أطوار التعليم بدل تعريب التعليم العالي! إنها "إصلاحاتٌ" بهُوية فرنسية، تستهدف ضرب اللغة العربية في معقلها الرئيس وهو المدرسة، وإضعافَها، وكذلك التخلص نهائيا من لغة العلم والمعرفة، اللغة الإنجليزية التي يخشاها الفرنسيون ويخافون على انتشارها ما يعني نهايتهم في مستعمراتهم القديمة والقضاء على وجودهم الثقافي والذي يعتبر من اخطر وأفتك أنواع الاستعمار. ما فشلت في تحقيقه فرنسا خلال 132 سنة من الاستعمار نرى مجموعة من صانعي القرار في الجزائر هذه الأيام يعملون ليل نهار لتجسيده في أرض الواقع.
فالبداية كانت بجس النبض وهو التدريس بالعامة في الأطوار الأولى من التعليم ثم الانتقال إلى الاعتماد على خبراء فرنسيين لإصلاح التعليم بحجة أن مديري التعليم والمسؤولين على التعليم في الجزائريين لا يعرفون لغات أجنبية أخرى ما عدا الفرنسية. الغريب في الأمر أنه بعد ما يزيد على نصف قرن من الاستقلال ما زالت الجزائر وإعادة الفرنسية بقوّة إلى كل أطوار التعليم، ومنحَها الاحتكار كلغةٍ أجنبية وحيدة في تدريس المواد العلمية، فتفقد اللغة العالمية الأولى أيّ تأثير لها وهي التي يعترف بها العالمُ أجمع إلا الفرانكوفوليين الجزائريين المتغلغلين في دواليب الحكم بالجزائر، اللغة الأم ولغة الدين والتاريخ والأصالة والقيم بالنسبة لهؤلاء هي لغة الشعر والأدب والنثر والغزلٍ وهي بذلك لا تقدر على العلوم والمعرفة بل اللغة الفرنسية هي الوحيدة التي تقدر على تحقيق ذلك.