أيا تكن القراءات والتوصيفات، أو التحليلات والتفسيرات للحدث الجزائري، وأيا تكن دوافعه، صراع إرادات، أو تضارب مصالح وامتيازات، فهو في النهاية عنوان لتيه سياسي يترجم مأزق نظام ومأساة شعب ووطن.
فالنظام السياسي الجزائري (النظام الجزائري يقصد به محليا جهاز صنع القرار) ليس نظام مؤسسات لها آليات وقواعد محددة ومعلومة تكفل انتقال الحكم بشفافية، وتضمن سلاسة عملية الانتقال.
وقد بلغ النظام في صراعه الداخلي ذروة أزماته مع قرب الانتخابات الرئاسية، والتي أدخلته بدورها إلى هذا المأزق الذي عنوانه الظاهر: من يحكم؟ وعنوانه في قواعد علم السياسة وفي ميزان علم الاجتماع السياسي: ماذا بعد انتخاب الرئيس؟ وكيف يمكن استئناف فكر الدولة في تسيير شؤون الحكم؟ وكيف يمكن صياغة مفهوم حقيقي وجاد للدولة من خلال طرح مشروع يقوم على المؤسسات والمشاركة الفعلية لكافة القوى السياسية والمجتمعية؟
فنحن اليوم أمام أزمة دولة في الباطن، وأزمة حكم في الظاهر، وإلا لما سحب ملف مالي (ودول جنوب الصحراء عموما) من يد الخارجية الجزائرية، ولما ارتجفت الجزائر عند حدوث التغيير في تونس وليبيا، ولم يعكس تعاملها عراقة وحرفية دبلوماسيتها، ولم تمسك ولو جزئيا بهذين الملفين الأساسيين، في دولتين تمثلان امتدادا لأمنها الإقليمي المباشر، كونها بلا مؤسسات مستقلة وفاعلة وكفؤة تحمل تفكير دولة لا أفكار حكم.
ومهما بلغت الخصومة في الإبقاء على قواعد لعبة الحكم أو تغييرها، فستتوصل (العائلة الحاكمة) إلى تسوية ما، ذلك أن الصراع الظاهر الآن هو من يحكم؟ لأن الحكم في الجزائر يساوي: السلطة المطلقة والثراء المطلق، فعقلية هؤلاء المتصارعين لا تفكر في كتابة تاريخ أو صناعة مستقبل، فهذا الفكر انتهى مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وإذا ما أشر الصراع بخروج الوضع عن السيطرة وتطور ليؤدي إلى تغييرات جذرية فعلية في نظام الحكم، أو تكون له تداعيات عميقة اجتماعيا، ففرنسا بنفوذها وبيدها الغليظة والناعمة في آن يدفعها لتلقي بكل ثقلها لوقف هذا الصراع عن حدود معينة، فهي لن تغامر بالسماح للجزائر بالخروج عن سيطرتها ولو جزئيا كما حدث في تونس.
وبعد وصول النظام من داخله إلى تسوية ملف من يحكم، ومرور انتخابات الرئاسة بمعادلة: النظام هو الغالب، يبقى السؤال هو: كيف سيتجاوز هذا النظام مأزق تسيير دولة بحجم وثقل وأهمية الجزائر؟ وكيف سيتفاعل ويتعامل على خلفية مشهد إقليمي شديد الحركة عميق التحول متجدد الأفكار؟ وداخلي مفتوح على كل الاحتمالات والتوقعات، بآلية سلسة وخطوات منتظمة لتفادي أي انزلاق غير محمود العواقب بعد صيغة معادلة لا منتصر ولا منهزم في الانتخابات الرئاسية؟
صعوبة الجواب تتمثل في جود عقبتين أو مشكلتين أساسيتين (في الداخل) تتطلبان قدرا من الاحترافية والحكمة والوقت، الأولى: (ذاتية) تتعلق بمنظومة تفكير الحكم، الذي يفتقد إلى علمية ومرونة وسعة تفكير، ولا يحوز رؤية تكفل له استشعار الموقف كما هو واقعيا، لا كما يراه أفراد الحكم.
ومرد ذلك تعطل عمل المؤسسات الذي يفترض أن تؤدي وظيفتها وفق معطيات الواقع والموقف بالتنسيق مع باقي مؤسسات الدولة، لا أن تتجمد في انتظار التعليمات (من فوق).
وأما العقبة أو المشكلة الثانية: (موضوعية) يشترك فيها بالتساوي النظام والمعارضة وتتمثل في الاتي:
- سياسيا، أفرغ العمل السياسي من كل مضمون جاد يصنع حياة سياسية تقوم على المؤسسات، وتشارك في صنعها الأحزاب والنخبة المثقفة والنقابات والمجتمع، فكل الأحزاب تقريبا، تمت صناعتها أو اختراقها أو تهميشها، وهي أحزاب تفتقد مفهوم المعارضة القوي والجاد، والبرلمان بالنسبة لقادتها هدف، بما له من امتيازات إدارية ومالية وعلاقات شخصية، وليس وسيلة للتغيير أو الدعوة إليه.
ولهذا نجد صراعات عنيفة على تصدر القوائم الانتخابية للحزب، يحسم في نهاية المطاف أما بحسابات القبلية أو الولاء أو المال أو القرابة أو المصاهرة والنسب.
فلا وجود لمعارضة سياسية حقيقية للأحزاب وهو ما يجعل النظام أقوى بكثير وأسبق بمراحل في تولي زمام المبادرة والمبادأة بغرض فرض منطقه وفق حساباته، وتوجيه المشهد بحسب الحالة والحاجة التي تمليها ضرورات البقاء والاستمرار، وتحول المجلس التشريعي (البرلمان) إلى مجرد ملحق إداري بالجهاز التنفيذي للنظام لا أكثر.
وأما اقتصاديا، فالفائض المالي الوفير، يقابله فساد مالي يكاد يكافئه، في الشرائح كافة وبنسب من مسؤولين وساسة وكبار تجار ورجال أعمال وإداريين (الصحف تنشر يوميا عشرات القضايا الجنائية ذات الصلة بالفساد المالي) وهو ما خلق جمهورية مالية للفساد في بطن الجمهورية السياسية.
وقد أدى هذا الوضع الكارثي إلى فشل كل المشاريع التنموية المخططة من قبل الجهاز التنفيذي، وانتهى بالنظام نفسه إلى الفساد وذلك بتقديم رشاوى مقننة تهدف إلى إسكات المواطن والنقابات بشراء الهدوء وصمت الاحتجاجات الاجتماعية والنقابية.
ففشلت بالتالي مشاريع التنمية وتحولت إلى مجرد مشاركة في قسمة الريع (الدخل القومي) على أن تستأثر الطبقة العليا من صانعي القرار بالحصة الأضخم (تنمية الثروة بدل تنمية الدولة) كما ظهرت طبقة من الأغنياء الجدد، كنتيجة للفساد المستشري، وهي طبقة تعمل في مجال الممنوعات أو في معاملات غير مشروعة، وهي وإن كانت لا تهتم بالسياسة كثيرا، إلا أنها أدركت أهمية الحصانة القانونية للبرلمان، فدخلته، أو الحصانة خارج القانون عن طريق علاقات تزيل أمامها موانع الثراء وتبعدها عن المساءلة القانونية.
وأما اجتماعيا، فالوضع أقرب إلى البؤس، نتيجة مناهج تعليمية تسطح العقل ولا تصنع هوية وشخصية محددة الملامح، وأزمات متعددة فككت النظام الاجتماعي ومزقت البناء الأسري وهدمت شبكة العلاقات الاجتماعية، مع ارتفاع نسب تعاطي المخدرات، وانقلاب سلم القيم وفقدان المواطن الثقة في الإدارة المعينة وفي المجالس المنتخبة على السواء (لدرجة تدخل المؤسسات الأمنية كوسيط لحل المشكلات وتفادي الانزلاق بين الطرفين).
هذه الأسباب الرئيسة وغيرها، كالبطالة والفساد المالي وتبديد الثروة والجريمة بأنواعها، وغيرها من المشكلات الاجتماعية العميقة، تضع الدولة، وليس النظام في مأزق حقيقي يصعب قراءة فصوله ونهاياته، لأن النظام أرهق ولم يعد يملك القدرة على الذهاب بعيدا، وليس باستطاعته تحمل تبعات تسيير دولة بسبب شبه إفلاسه فكريا وأخلاقيا.
والنظام (الجمهوري العربي الوحيد الذي لم يطل جوهره تغيير ولم يمس بناءه تبديل) في مأزق يجعل الجواب على سؤال: ماذا بعد انتخابات الرئاسة من عملية الانتقال من فكر السلطة إلى فكر الدولة، ومن فكر الحاكم إلى فكر المؤسسات، بالغ الصعوبة؟
وهو أيضا في مأزق بشأن إيجاد آليات انتقال الحكم وتداول السلطة على أساس قواعد معلومة ومنضبطة أساسها العمل الحزبي والنضال الجماهيري يكفل للشعب اختيار من يحكمه ومن يمثله وفق اختيار حقيقي وإرادة حرة بكل نزاهة وشفافية، تتماهى من خلالها العلاقة بين السلطة والمواطن.
ويتأكد ذلك أكثر في ظل المعطيات الواقعية التالية:
- غياب نخبة مثقفة ومحترمة في مستوى تفكيرها، تمتلك تجربة ورصيدا معرفيا وعلميا واجتماعيا يؤهلها لطرح مشروع أو حلول ورؤى.
- غياب أحزاب سياسية منظمة ومنضبطة، قيادة وقاعدة، ولها جذور وامتدادات شعبية حقيقية.
- غياب الثقة بين الشعب والسلطة من جهة، وبين الشعب والنخبة والأحزاب من جهة أخرى.
- غياب القيادات الاجتماعية الحقيقية التي تستطيع التأثير في الشعب والضغط على السلطة.
- غياب الفصل بين المؤسسات الدستورية الثلاث (تنفيذية وتشريعية وقضائية).
- غياب استقلال حقيقي للقضاء (تفرضه النصوص).
- غياب التمثيل الحقيقي والجاد في البرلمان (بسبب قانون الانتخاب) وضعف الوعي السياسي.
إن التحولات السياسية العميقة والحادة أحيانا، إقليميا: تونس وليبيا ومصر، والذي يصعب التنبؤ بمآلاتها، لهي أوضاع مستجدة لم تكن دوائر صنع القرار ورسم السياسات في النظام الجزائري تتحسب لها أو تضعها في الاعتبار عند رسم معادلة استمرار منظومة الحكم، بل فاجأتها وهو ما يترجم تخبط الدبلوماسية حينها، إضافة إلى "التصحير" السياسي والمؤسساتي والاجتماعي (المقصود والمتعمد) الذي انتهى إلى ما يشبه -صورة ومعنى- السير في مستنقع أو على رمال متحركة شديدة الحركة.
ولنا في الأخير أن نقرر أن: أزمة النظام الجزائري، بكل أبعادها وتجلياتها وتوصيفاتها، هي عنوان حقيقي لمأساة وطن وشعب يجد نفسه بلا إرادة ذاتية يفرض بها اختياره، بل يتولى النظام صناعتها بدلا عنه، وهو بلا سيادة فعلية على وطنه رغم نص الدستور على أن إرادة الشعب هي مصدر السلطات.
إنه مجرد رقم صغير، رغم تضحياته الجسام الطويلة، في معادلة كبيرة عنوانها: زواج أبدي بين سلطة تفرض وجودها ومال حرام ولو على حساب الوطن وتاريخه النضالي الكبير والطويل في سبيل أن تكون له مكانة محترمة تحت الشمس بين الأمم.