من سماحة الشيخ يوسف القرضاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه (وبعد)
هذا بيان لجماهير شعب مصر العظيم، بكل فئاته وتياراته، واتجاهاته، وأيديولوجياته، شبابه وشيوخه، رجاله ونسائه، عماله ومثقفيه، مسلميه ومسيحييه: بعد الحكم الجائر، الذي جدد الأحزان، واستهان بالدماء الزكية التي سالت منذ 25 يناير 2011، حتى اليوم، والدماء الأخرى التي سالت قبل ذلك بثلاثين عاما.
هذا الحكم الذي نطق به قاض ظالم، معلنا براءة طاغية مصر وفرعونها، الذي أهلك الحرث والنسل، وأفقر البلاد، وأذل العباد، وأمر بالباطل، ونهى عن الحق، وكان عونا لأعداء الأمة على أبنائها، ومثّل - بشهادة الصهاينة_ الحليف والصديق والكنز الاستراتيجي لهم.
يا أبناء مصر المخلصين..
هذه أيام فاصلة في تاريخ مصر الحديث.. أيام عصيبة، تحمل في طياتها شدائد ومحنا، يُفتن فيها الناس عن دينهم الحق، وقيمهم الأصيلة، وقناعاتهم الراسخة ، هذه أيام تمحيص وابتلاء، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الأنفال:37].
إنها أيام عمل للحق، وكفاح في سبيله، وعض عليه بالنواجذ، وصبر على المحن، التي لا يقوى عليها إلا الصادقون المخلصون، ولا يرفع راية الحق فيها إلا المتجردون .... لكنكم لا تتألمون وحدكم.. {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} { النساء:104}.
لن تضيع ثورتكم الطاهرة، ودماء شهدائكم الزكية، لن تضيع أنات المعذبين، وجراحات المصابين، وصرخات الحرائر، وصيحات المقيدين، خصوصا من طلاب وطالبات الجامعات والأزهر، وأساتذتهم، وعمدائهم، كما يحاول أهل الباطل أن يصوروا لكم، فالصراع قائم، والأيام دول، والدهر قُلَّب، وعلينا أن نستفيد من أخطائنا، ونتعلم من تجاربنا، ونحذر من عدونا، ولا نلدغ من جحر مرتين!!
إنها معركة كر وفر، ربحتم جولة، وربحوا أخرى، والعاقبة للمتقين، والنصر للصابرين المصابرين المرابطين.
وأحب أن أؤكد أن دماء المصريين جميعا، دماء واحدة.. لا فرق عندنا بين دماء التحرير، ومحمد محمود، والعباسية، وماسبيرو، ودماء رابعة العدوية، والنهضة، والحرس الجمهوري، وجامع الفتح بالقاهرة، وجامع القائد إبراهيم بالإسكندرية، وسائر ميادين الثورة في المحافظات.. ولا فرق فيها بين دم مسلم، ودم مسيحي، فكلها دماء أريقت، وكلها أرواح أزهقت.
يا شباب الثورة..
يا حبات قلوبنا .. يا فلذات أكبادنا .. يا نور أعيننا .. يا عدة المستقبل وعتاده، لا يفرقكم عن إخوانكم، إلا كائد لكم، ولا يشغلكم بمعارك جانبية، وأحقاد أيديولوجية، ومصالح فئوية، ومرارات تاريخية، إلا عدو لثورتكم، حاقد على جيلكم، حانق على إنجازكم، الذي كاد يوشك على الاكتمال، بجلدكم وصبركم ووحدتكم.
يا شباب الثورة الأطهار، من كل فصائلها وتياراتها.. تجردوا لله تعالى، ثم لأوطانكم، ولا تنهكوا أنفسكم بخلافات لا دخل لجيلكم بها، أو بمرارات تاريخية، تسامحوا فيما بينكم، وترفعوا عن الصغائر، فأنتم المستقبل، وأولى بالمستقبل ألا يرث ضغائن الماضي وإحنه، أو ينغمس في بحار الكراهية. الحق معكم ما دمتم مستمسكين به، متعاونين عليه، والنصر لكم ما دمتم متبعين لسننه، غير متخاذلين في البذل له، فاستعينوا بالله، وأحكموا أمركم، ولا يضركم من خالفكم.
أيها الإسلاميون..
إن ثمرة الهوية الإسلامية المنشودة، هي تحقيق العدل، وإزاحة الظلم، والانحياز للحق، ومقاومة الباطل، والانتصار للمستضعفين في الأرض، ونشر روح الحرية، وبسط مبادئ المساواة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعمارة الأرض، ورفع شأن العلم، والعمل على تحقيق النهضة، في كل ديارنا، ولكل أبنائنا.
إن معركتنا مع النظام العسكري في مصر تتجاوز مرارات التيار الإسلامي، الذي كافح وناضل طوال قرن مضى، قدم فيه الشهداء والضحايا، ولاقى ما لاقى من ألم وقهر، وعذاب وبطش، كما لاقى غيره من الشرفاء من كل فصيل.
إن معركتنا هي معركة الإنسان على هذه الأرض، وحقه في تقرير مصيره، ومباشرة حرياته، والفوز بما رزقه الله وسخر له من الطيبات، التي ينهبها هؤلاء دون وجه حق، فيزداد الغني غنى، والفقير فقرا.
إنني أدرك مرارة ما تشعرون به، من تخلي كثير من رفاق الثورة عنكم، وخذلانهم إياكم، لكني أذكركم أن قضيتكم ليست في رؤية الناس لكم، وإنما فيما يريده الله منكم، وهذا يدفعكم حتما للمزيد من البذل والعطاء والتضحية، دون منٍ أو أذى. كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافيء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها.."
وإخوانكم في التيارات الثورية رحم لكم، وهم أولى من نصل.
إخواننا في الله والوطن، والمصير..
لقد أثبتت تجاربنا مع المجلس العسكري في الأعوام الماضية: أن الظلم لا يفرق بين مسلم ومسيحي، وأن سفكه للدماء لا يفرق بين رواد مسجد ومرتادي كنيسة: إذا وقف هؤلاء أمام أطماعه، وهو حريص على تأجيج الفتن بين أبناء الأمة، وإثارة الضغائن بين شرائحها، وإيقاد العداوة بين عناصرها، حتى يستتب له الأمر، ويتمكن من ناصية الحكم، فلينوا في أيدي إخوانكم، واصطفوا معا في خندق الحق، فيد الله مع الجماعة، وليحسن كل منا الظن بأخيه في الوطن، وشريكه في المصير، ولنتجاوز خلافات الماضي، ولا ننساق خلف أولئك الذين يشترون بدينهم وعلمهم وأبناء دينهم ووطنهم: ثمنا قليلا.
أيها العسكريون..
أنتم إخواننا وأبناؤنا، وقوتنا في وجه عدونا، وعدتنا لحماية وطننا، بعد الاستعانة بالله سبحانه.. كم تبذلون من جهد، وتتحملون من مشقة، كان ينبغي أن توجه ثمارها في وجه العدو، كما قال سبحانه: { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال:60] لكن بعض قياداتكم خاصموا ثورة أبناء مصر الأحرار، ففجروا في خصومتهم، وسعوا لوأد هذه الثورة، التي كادت آثارها تشمل المصريين جميعا: مدنيهم وعسكريهم، كبيرهم وصغيرهم، لتصلح أحوال مصر السياسية والاقتصادية، والتعليمية والثقافية، والصحية والإنسانية. فاعتبرها هؤلاء خصما لهم، لأنها ستعيد توزيع الثروات التي اغتصبوها، والخيرات التي احتكروها، ثم طالبوكم أن تكونوا أذرعتهم التي تقتل، وأيديهم التي تعتدي، وشر الناس من باع دينه بدنياه، وشر منه من باع دينه بدنيا غيره، كما قال السلف.
أيها العسكريون.. احذروا أن يغركم الشيطان، فتقولوا: السلطة السياسية مع الحماية العسكرية. فهذا هو الخطأ الأكبر، والكبريت الأحمر، ومحْور الاستبداد، وأساس الفساد. قال تعالى يتحدث عن العساكر: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ }[البروج: 17-18]. وقال تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } [القصص:8].
ولقد قلت سابقا وأؤكد: إنه لا يوجد عذر شرعي لأولئك الذين يتلقون الأوامر بالقتل وينفذونها.. القاتل قاتل.. ستحاسب أمام الله على ذلك، فأن تُقتل أو تُسجن بسبب عصيانك الأمر، خير لك أن تَقتُل مؤمنا بغير حق، فالعقاب شديد، قال تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32]
أيها الآباء والأمهات..
لا تثبطوا أبناءكم وبناتكم، لا تدفعوا شباب الأمة عن مطالبهم، لا تقللوا من شأنهم، لا تسفهوا أحلامهم، لا تسخروا من حراكهم، ولا تستهينوا بشهدائهم ، كونوا معهم بالتشجيع والدعاء، والنصح والدعم بكافة أنواعه، فهم منكم، وما يفعلون في النهاية إلا كل صالح، يرجونه للوطن.
أيها الانقلابيون من كل تيار..
أنتم إلى زوال، وإن ظننتم غير هذا، وسوف يعلو صوت الحق، ويخفت صوت الباطل، { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40] . هؤلاء الشباب لن تهن عزائمهم، ولن يتراجعوا عنكم، ولن يرضوا إلا أن يصنعوا مستقبلهم، وينالوا حريتهم، فلا تقطعوا على أنفسكم خطوط الرجعة، ولا تكلفوا مستقبل الأيام عداوات ومرارات يحملها لكم الشباب، ولا تدفعوهم إلى عداوتكم، اتقوا الله فيهم وفي أنفسكم، وتراجعوا عن نصرة الباطل، فالغد للشباب، مهما حاولتم، أو دبرتم.
اللهم إني أسألك أن تربط على قلوب المصريين، وأن تجمع كلمتهم على الهدى والتقى، وعزائمهم على الرشد والخير، تقوي عزمهم، وأن ترفع الظلم والبلاء عنهم، وأن تبلغهم مما يرضيك آمالهم.
والحمد لله رب العالمين.
يوسف القرضاوي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.