مرت الأيام الأول من شهر ربيع الأول، احتفل المحتفلون، وبدّعهم آخرون (المحرمون الاحتفال)، ورمى الأولون (القائلون بجواز الاحتفال) الآخرين (المحرمون الاحتفال) بالتشدد والتنطع، وكال الآخرون تهم التسيب والتبديع للأولين (القائلون بجواز الاحتفال) وفي مثل هذه الأيام من العام القادم -إن أحيانا الله تعالى_ سنعيش هذه الجدال من جديد، فيا ترى أين نحن من هذا كله؟؟!
العجيب أنه في كل عام، تخرج نفس الفتاوى، ويسنّ كل طرف أسنان أقلامه، ويحشد أدلة رأيه وبرهانه، ويقذف البعض من كلا الطرفين مخالفيهم بتهم فوق الحصر والعدّ.... ولن ينتهي هذا لا في هذا العام ولا في العام المقبل...
وفي هذه الأسطر سأحاول _مستعينا بالله_ أن أناقش المسألة بما يعطيني الله من الفهم والإنصاف، وسيكون ذلك على هذا النحو:
1. هل المسألة أصل أم فرع؟
هذه المسألة لا شك أنها فرع من الفروع وليست أصلا، وأعني بذلك أنها من المسائل العملية (الفقهية) لا العلمية (العقدية)، وما كان الأمر كذلك فالخلاف فيها وراد، ولا يمكن لأحد أن يدعي فيها الإجماع، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي مراعاة أدب الخلاف فيه..
2. هل اتفق العلماء الكبار على قول واحد في ذلك؟
والحق أن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء في زمن من الأزمنة منذ ظهورها، بل كانت _وما زالت وستبقى_ محل خلاف، والمتأمل في هذا يرى أن علماء ربانيين في القديم وفي الحديث مالوا إلى أحد القولين:
• القائلون بالمنع والبدعية:
وأشهر من قال بالمنع: ابن تيمية، والشاطبي، والسخاوي، والأنصاري، وينسب لابن الحاج، والفاكهاني، عبد الله بن محمد الحفار الغرناطي، وأحمد عبد الرحيم أبو زرعة العراقي... وحديثا قال بالمنع: الشوكاني ومحمد شمس الحق العظيم آبادي، ومحمد بشير السهسواني الهندي (وهما من علماء الهند)، ومحمد رشيد رضا، ومحمد بخيت المطيعي (مفتي مصر) وعبد الله بن زيد (من علماء قطر) وعلى محفوظ، وهو قول المدرسة السلفية المعاصرة كلها ومن أشهر من قال بذلك (ابن باز، ابن عثيمين، الألباني).
• القائلون بالجواز والمشروعية:
وأشهر من قال بالمشروعية والجواز: أبو الخطاب بن دحية الكلبي، وأبو العباس السبتي، وأبو شامة المقدسي (شيخ النووي)، والإمام السبكي، وأبو عبد الله الرندي، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، والسخاوي، وابن حجر الهيتمي، والقسطلاني، والزرقاني، وملا على القاري، وأبى الفرج بن الجوزي، وعبد الرءوف المناوي ،... وحديثا: الشرباصي ومحمد الطاهر بن عاشور، وحسنين محمد مخلوف شيخ الأزهر، ويوسف القرضاوي، وهو قول المدرسة الأزهرية ومن وافقها كعلماء الزيتونة والقرويين....
3. أدلة المانعين:
وقد استدل المانعون بأدلة أجملها فيما يلي:
أ. هذا عمل لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجاب عن ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كونه لم يفعل ذلك لا يعني المنع، لأنه بين أظهر الصحابة يرونه يغدو ويروح، فضلا أن هذا ليس داخلا في العبادات وإنما هو من العاديات كما سيأتي.
ب. هذا عمل لم يعمله الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
ويجاب عن ذلك: بأن الصحابة لم يغب النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لحظة، وحتى بعد وفاة كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم بسنته قولا وفعلا، وهم مشغلون بالجهاد والدعوة.
ت. هذا عمل لم يعرف في القرون الثلاثة الأولى.
ويجاب عن ذلك: بمثل ما سبق؛ فقد كان السلف مشغولين بالعلم والتعلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرا في أقوالهم وأفعالهم اقتداء وسلوكا.
ث. هذا مما استحث في الدين وعليه فهو بدعةـ، وفي الصحيح عند مسلم:" وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وفي المتفق عليه:" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ».
ويجاب عن ذلك: بأن هذا العمل لا يدخل في العبادة، وإنما هو من باب العاديّات، وفي هذا متسع كبير.... وشبيه بهذا ما استحدثه السلف من تنقيط المصحف وتقسيمه إلى أجزاء وأحزاب وأرباع.... والمانعون يقرون ذلك ويعملون به..
ج. أن هذا الاحتفال في يوم لم يثبت أنه يوم مولده صلى الله عليه وسلم ، لكن الثابت الصحيح أنه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يوم وفاته، وعليه يكون الاحتفال بوفاته لا بمولده.
ويجاب عن ذلك: بأن للناس نياتهم، ولا يشق عن قلوبهم، ولا يعقل أن يكون رجل محب للنبي صلى الله عليه وسلم يحتفل بوفاته... وهب أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه هل سيكون الاحتفال مشروعا؟!!
ح. أن المولد من أعمال الشيعة الفاطميين، وهؤلاء لهم في هدم الدين ما لهم.
ويجاب عن ذلك: بأن الفاطميين لهم من البدع ما لهم، وقد ذكر المقريزي ما كان من بدعهم في الأعياد فقال: كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أوّل رجب، وليلة نصفه، وليلة أوّل شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرّة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات.. (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/ 436)).
ويلاحظ أن من أعمال الفاطميين عيد الفطر وعيد النحر، فهل يترك من أجل احتفال الفاطميين به؟! فإن قال قائل هذا مشروع، نقول له: نعم. ولكن من أعمالهم (ليلة الختم) والمقصود به ختم القرآن في رمضان، فهل تعتبر هذه أيضا بدعة؟!
وهل نعتبر (موائد الرحمن) في رمضان بدعة، لأن الفاطميين كانوا يقمون بها وهو ما يسمى (سماط رمضان)؟!
كما أن من ملوك السنة من احتفل به وهو الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى، قال ابن كثير: وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه. وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية.. (البداية والنهاية ط الفكر (13/ 137)). وهذا لا يمنع أن الفاطميين زادوا بدعا وضلالا..
خ. أن هذه الاحتفالات يصاحبها ما يصاحبها من المنكرات التي لا يقبلها شرع ولا عقل.
ويجاب عن ذلك: وهذا حق، ولا خلاف في ذلك، والقائلون بالجواز يقولون بمنع هذه المنكرات قلت أو كثرت..
د. أن في هذا تشبيه بالنصارى الذين يحتفلون بميلاد المسيح.
ويجاب عن ذلك: بأن هذا التشبه منهي عنه إذا بلغ التقديس، وأخرج النبي من درجة النبوة إلى درجة الألوهية أو الربوبية، فنحن مأمورون بتعظيم الأنبياء وتكريمهم لا تقديسهم أو تأليههم، فإن بالغ النصارى أو غيرهم خالفناهم في صنيعهم، وقد عظم النبي صلى الله أخاه موسى حين وجد اليهود يصومون عاشوراء فصام كما صاموا لكنه أحدث قبل وفاته مخالفة لهم ، ففي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ».
ذ. أن الاحتفال بالمولد يخالف ما رواه أحمد في مسنده عن أنس قال: قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ ".
ويجاب عن ذلك: بأننا لا ندعو إلى اعتباره عيدا في يوم بعينه، أو عبادة معينة، وإنما اجتماع على علم يدرس أو تلاوة تقرأ، أو أشعار يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم....:
4. أدلة المجيزين:
وقد استدل المجيزون بأدلة أجملها فيما يلي:
أ. الاحتفاء بالنبي صلى الله عليه وسلم له أصل ما دعت الحاجة إلى ذلك، ومن هذا ما رواه مسلم:" عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
ب. أن الاحتفال المقصود هو ما كان في نفسه مشروعا لا ممنوعا، فهو قراءة قرآن أو تدبر حديث، أو مدارسة سيرة، او توعية الناس بمحاسن الشريعة الغراء... وأما كان سوى ذلك من بدع وخرافات كطبل وزمر ورقص وإسراف وتبذير فهذه في أوقاته ممنوع لا مشروع...
ت. أن الفرح بالنبي مطلوب، وأصله في قوله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] نقل ابن الجوزي أن: فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس. (زاد المسير في علم التفسير (2/ 336).
ويجاب عن ذلك: بأن تحديد موعد غير ثابت بدليل فكيف حددتم هذا اليوم أو غيره؟!
ث. أن هذا داخل في عموم قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وكل منة تحتاج إلى شكر.
ويجاب عن ذلك: بأن الأصل متفق عليه، لكن المختلف عليه هو تخصيص يوم بعينه، تشرع فيه عبادة بعينها...
ج. أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل بمولده أسبوعيا، فقد روى مسلم: سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ - أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ -» وهذا دليل على الاحتفاء بيوم مولده..
ويجاب عن ذلك: بأن احتفال أسبوعي بصيام فهلاّ صمتم كما صام، واقتديتم به قولا وفعلا..
ح. أن هذا داخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»
ويجاب عن ذلك: بأن هذه بدعة لا سنة، وإن كانت سنة فهي سنة سيئة لا سنة حسنة فكيف يكون عليها أجر؟!
ر. أن هذا الاحتفاء إنما هو من باب شكر النعمة، وأصله في الصحيحين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ»، ويستفاد من هذا شكر الله على ما أنعم به من نعمة شرع الشكر عليها، وأي نعمة كميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم...
ز. هناك بعض أعمال لم تكن على عهد السلف وعليها اتفاق بين كثير من الأئمة، ومن ذلك: تنقيط المصحف وتقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب وأرباع، واتخاذ المآذن والمحاريب...
س. أن هذا داخل في العاديات لا العبادات، وكل ما كان من هذا الباب كان فيه متسع كبير، وقد استحدث الناس تقسيم العلوم فقه وتفسير ومصلح وأصول، ولم يكن هذا في القديم أبدا...
ش. ليس كل ما لم يفعله النبي يجب تركه ما دعت الحاجة إليه، فالله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولم يقل: (وما تركه فاتركوه)، فما تركه ودعت الحاجة إلى فعله جاز فعله...
ص. ليس في هذا انتقاص للصحابة لأنهم فعلوا ما كان واجبا فعله في زمانه، وقد تركوا الاحتفال لأنهم انشغلوا بالجهاد والدعوة أيام أبي بكر وعمر وبداية عهد عثمان، ثم كانت الخلافات آخر عهد عثمان وأيا علي، ولم يكونوا بحاجة فالنبي كان حاضرا معهم بآثاره وأفعاله واقواله نظرا لقرب عهدهم به.
ض. أن الناس الآن بحاجة إلى من يدارسهم سير النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انشغلوا عن الدين بالدنيا، وبالماديات عن الروحانيات، فإن وجدت فرصة على ذلك فما المانع؟!
الترجيح بين القولين:
بعد النظر في أدلة الفريقين أخلص قناعاتي فيما يلي:
أ. للاحتفال بالمولد صورتان:
الصورة الأولى: متفق على تحريمها، وهي ما كان بالبدع والشركيات والمنكرات، كرقص وطبل وزمر واختلاط واستغاثة ببشر؛ وليا كان أو نبيا..
الصورة الثانية: وهي ما اختلف فيها، وهي ما كانت باجتماع الناس على تلاوة قرآن أو تدبر حديث، أو مدارسة سيرة، أو مدح بشعر أو إنشاد.
وهذه الصورة ينبغي فيها مراعاة التالي:
• قبول الخلاف في الصورة الأخير؛ فمن شاء احتفل ومن شاء امتنع.
• عدم التبديع أو التفسيق أو التكفير، إذ كل مسألة في الفروع لا يجوز لأحد أن يفسق فيها أحدا أو يبدع أحدا فضلا حتى وإن رأى بدعية العمل.
• عدم الخصومة أو المشاحنة، وقد أحسن ابن تيمية حين قال: ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير... ((مجموع الفتاوى (24/ 173)).
ب. على المحتفلين بالمولد النبوي أن يقدموا نموذجا للاقتداء لا يقف عند الاحتفال فقط، فلا يجدر بالمحتفل أن يكونا كذابا ولا مرتشيا، ولا يحسن به أن يكون خائنا ولا آكلا للربا، ولا يجدر به أن يكون عاقا أو مدمنا، ولا يجدر بمن تحتفل أن تكون متبرجة ولا سافرة، ولا يحسن لها أن تكون ثرثارة ولا حقودة...
ت. أن يراعى في كل بلد حال الناس وواقعهم، فإن كان الناس في زمن كثر فيه الإثم، وظهر الفساد، وكثرت المغريات، وصار باب المعصية مفتوحا، وكان الناس في بعد عن الطاعة، فلا مانع من عقد مثل هذه اللقاءات التي تجمعه على القرآن وتذكرهم بسيرة النبي الدنان عليه الصلاة والسلام..
أما إذا كان الخير عامّا، والسنة مشرعة لها الأبواب، والناس تغدو وتروح في هدى ونور، والقرآن سائد، والشرع حاكم، والأمة في خير وعافية، فأرى أن المنع أقرب إلى الصواب....
ث. كلمة رائعة لابن تيمية:
والحق أن ابن تيمية كان منصفا للطرف الآخر الذي أباح الاحتفال، فهو وإن كان محرما للاحتفال حيث يقول: .. فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص... إلا أن ابن تيمية عاد فقال: فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة. وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط. وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه... ((اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 126، 123))..
هذا والله تعالى أعلم...
مرت الأيام الأول من شهر ربيع الأول، احتفل المحتفلون، وبدّعهم آخرون (المحرمون الاحتفال)، ورمى الأولون (القائلون بجواز الاحتفال) الآخرين (المحرمون الاحتفال) بالتشدد والتنطع، وكال الآخرون تهم التسيب والتبديع للأولين (القائلون بجواز الاحتفال) وفي مثل هذه الأيام من العام القادم -إن أحيانا الله تعالى_ سنعيش هذه الجدال من جديد، فيا ترى أين نحن من هذا كله؟؟!
العجيب أنه في كل عام، تخرج نفس الفتاوى، ويسنّ كل طرف أسنان أقلامه، ويحشد أدلة رأيه وبرهانه، ويقذف البعض من كلا الطرفين مخالفيهم بتهم فوق الحصر والعدّ.... ولن ينتهي هذا لا في هذا العام ولا في العام المقبل...
وفي هذه الأسطر سأحاول _مستعينا بالله_ أن أناقش المسألة بما يعطيني الله من الفهم والإنصاف، وسيكون ذلك على هذا النحو:
1. هل المسألة أصل أم فرع؟
هذه المسألة لا شك أنها فرع من الفروع وليست أصلا، وأعني بذلك أنها من المسائل العملية (الفقهية) لا العلمية (العقدية)، وما كان الأمر كذلك فالخلاف فيها وراد، ولا يمكن لأحد أن يدعي فيها الإجماع، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي مراعاة أدب الخلاف فيه..
2. هل اتفق العلماء الكبار على قول واحد في ذلك؟
والحق أن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء في زمن من الأزمنة منذ ظهورها، بل كانت _وما زالت وستبقى_ محل خلاف، والمتأمل في هذا يرى أن علماء ربانيين في القديم وفي الحديث مالوا إلى أحد القولين:
• القائلون بالمنع والبدعية:
وأشهر من قال بالمنع: ابن تيمية، والشاطبي، والسخاوي، والأنصاري، وينسب لابن الحاج، والفاكهاني، عبد الله بن محمد الحفار الغرناطي، وأحمد عبد الرحيم أبو زرعة العراقي... وحديثا قال بالمنع: الشوكاني ومحمد شمس الحق العظيم آبادي، ومحمد بشير السهسواني الهندي (وهما من علماء الهند)، ومحمد رشيد رضا، ومحمد بخيت المطيعي (مفتي مصر) وعبد الله بن زيد (من علماء قطر) وعلى محفوظ، وهو قول المدرسة السلفية المعاصرة كلها ومن أشهر من قال بذلك (ابن باز، ابن عثيمين، الألباني).
• القائلون بالجواز والمشروعية:
وأشهر من قال بالمشروعية والجواز: أبو الخطاب بن دحية الكلبي، وأبو العباس السبتي، وأبو شامة المقدسي (شيخ النووي)، والإمام السبكي، وأبو عبد الله الرندي، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، والسخاوي، وابن حجر الهيتمي، والقسطلاني، والزرقاني، وملا على القاري، وأبى الفرج بن الجوزي، وعبد الرءوف المناوي ،... وحديثا: الشرباصي ومحمد الطاهر بن عاشور، وحسنين محمد مخلوف شيخ الأزهر، ويوسف القرضاوي، وهو قول المدرسة الأزهرية ومن وافقها كعلماء الزيتونة والقرويين....
3. أدلة المانعين:
وقد استدل المانعون بأدلة أجملها فيما يلي:
أ. هذا عمل لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجاب عن ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كونه لم يفعل ذلك لا يعني المنع، لأنه بين أظهر الصحابة يرونه يغدو ويروح، فضلا أن هذا ليس داخلا في العبادات وإنما هو من العاديات كما سيأتي.
ب. هذا عمل لم يعمله الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
ويجاب عن ذلك: بأن الصحابة لم يغب النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لحظة، وحتى بعد وفاة كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم بسنته قولا وفعلا، وهم مشغلون بالجهاد والدعوة.
ت. هذا عمل لم يعرف في القرون الثلاثة الأولى.
ويجاب عن ذلك: بمثل ما سبق؛ فقد كان السلف مشغولين بالعلم والتعلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرا في أقوالهم وأفعالهم اقتداء وسلوكا.
ث. هذا مما استحث في الدين وعليه فهو بدعةـ، وفي الصحيح عند مسلم:" وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وفي المتفق عليه:" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ».
ويجاب عن ذلك: بأن هذا العمل لا يدخل في العبادة، وإنما هو من باب العاديّات، وفي هذا متسع كبير.... وشبيه بهذا ما استحدثه السلف من تنقيط المصحف وتقسيمه إلى أجزاء وأحزاب وأرباع.... والمانعون يقرون ذلك ويعملون به..
ج. أن هذا الاحتفال في يوم لم يثبت أنه يوم مولده صلى الله عليه وسلم ، لكن الثابت الصحيح أنه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يوم وفاته، وعليه يكون الاحتفال بوفاته لا بمولده.
ويجاب عن ذلك: بأن للناس نياتهم، ولا يشق عن قلوبهم، ولا يعقل أن يكون رجل محب للنبي صلى الله عليه وسلم يحتفل بوفاته... وهب أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه هل سيكون الاحتفال مشروعا؟!!
ح. أن المولد من أعمال الشيعة الفاطميين، وهؤلاء لهم في هدم الدين ما لهم.
ويجاب عن ذلك: بأن الفاطميين لهم من البدع ما لهم، وقد ذكر المقريزي ما كان من بدعهم في الأعياد فقال: كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أوّل رجب، وليلة نصفه، وليلة أوّل شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرّة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات.. (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/ 436)).
ويلاحظ أن من أعمال الفاطميين عيد الفطر وعيد النحر، فهل يترك من أجل احتفال الفاطميين به؟! فإن قال قائل هذا مشروع، نقول له: نعم. ولكن من أعمالهم (ليلة الختم) والمقصود به ختم القرآن في رمضان، فهل تعتبر هذه أيضا بدعة؟!
وهل نعتبر (موائد الرحمن) في رمضان بدعة، لأن الفاطميين كانوا يقمون بها وهو ما يسمى (سماط رمضان)؟!
كما أن من ملوك السنة من احتفل به وهو الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى، قال ابن كثير: وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه. وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية.. (البداية والنهاية ط الفكر (13/ 137)). وهذا لا يمنع أن الفاطميين زادوا بدعا وضلالا..
خ. أن هذه الاحتفالات يصاحبها ما يصاحبها من المنكرات التي لا يقبلها شرع ولا عقل.
ويجاب عن ذلك: وهذا حق، ولا خلاف في ذلك، والقائلون بالجواز يقولون بمنع هذه المنكرات قلت أو كثرت..
د. أن في هذا تشبيه بالنصارى الذين يحتفلون بميلاد المسيح.
ويجاب عن ذلك: بأن هذا التشبه منهي عنه إذا بلغ التقديس، وأخرج النبي من درجة النبوة إلى درجة الألوهية أو الربوبية، فنحن مأمورون بتعظيم الأنبياء وتكريمهم لا تقديسهم أو تأليههم، فإن بالغ النصارى أو غيرهم خالفناهم في صنيعهم، وقد عظم النبي صلى الله أخاه موسى حين وجد اليهود يصومون عاشوراء فصام كما صاموا لكنه أحدث قبل وفاته مخالفة لهم ، ففي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ».
ذ. أن الاحتفال بالمولد يخالف ما رواه أحمد في مسنده عن أنس قال: قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ ".
ويجاب عن ذلك: بأننا لا ندعو إلى اعتباره عيدا في يوم بعينه، أو عبادة معينة، وإنما اجتماع على علم يدرس أو تلاوة تقرأ، أو أشعار يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم....:
4. أدلة المجيزين:
وقد استدل المجيزون بأدلة أجملها فيما يلي:
أ. الاحتفاء بالنبي صلى الله عليه وسلم له أصل ما دعت الحاجة إلى ذلك، ومن هذا ما رواه مسلم:" عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
ب. أن الاحتفال المقصود هو ما كان في نفسه مشروعا لا ممنوعا، فهو قراءة قرآن أو تدبر حديث، أو مدارسة سيرة، او توعية الناس بمحاسن الشريعة الغراء... وأما كان سوى ذلك من بدع وخرافات كطبل وزمر ورقص وإسراف وتبذير فهذه في أوقاته ممنوع لا مشروع...
ت. أن الفرح بالنبي مطلوب، وأصله في قوله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] نقل ابن الجوزي أن: فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس. (زاد المسير في علم التفسير (2/ 336).
ويجاب عن ذلك: بأن تحديد موعد غير ثابت بدليل فكيف حددتم هذا اليوم أو غيره؟!
ث. أن هذا داخل في عموم قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وكل منة تحتاج إلى شكر.
ويجاب عن ذلك: بأن الأصل متفق عليه، لكن المختلف عليه هو تخصيص يوم بعينه، تشرع فيه عبادة بعينها...
ج. أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل بمولده أسبوعيا، فقد روى مسلم: سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ - أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ -» وهذا دليل على الاحتفاء بيوم مولده..
ويجاب عن ذلك: بأن احتفال أسبوعي بصيام فهلاّ صمتم كما صام، واقتديتم به قولا وفعلا..
ح. أن هذا داخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»
ويجاب عن ذلك: بأن هذه بدعة لا سنة، وإن كانت سنة فهي سنة سيئة لا سنة حسنة فكيف يكون عليها أجر؟!
ر. أن هذا الاحتفاء إنما هو من باب شكر النعمة، وأصله في الصحيحين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ»، ويستفاد من هذا شكر الله على ما أنعم به من نعمة شرع الشكر عليها، وأي نعمة كميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم...
ز. هناك بعض أعمال لم تكن على عهد السلف وعليها اتفاق بين كثير من الأئمة، ومن ذلك: تنقيط المصحف وتقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب وأرباع، واتخاذ المآذن والمحاريب...
س. أن هذا داخل في العاديات لا العبادات، وكل ما كان من هذا الباب كان فيه متسع كبير، وقد استحدث الناس تقسيم العلوم فقه وتفسير ومصلح وأصول، ولم يكن هذا في القديم أبدا...
ش. ليس كل ما لم يفعله النبي يجب تركه ما دعت الحاجة إليه، فالله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولم يقل: (وما تركه فاتركوه)، فما تركه ودعت الحاجة إلى فعله جاز فعله...
ص. ليس في هذا انتقاص للصحابة لأنهم فعلوا ما كان واجبا فعله في زمانه، وقد تركوا الاحتفال لأنهم انشغلوا بالجهاد والدعوة أيام أبي بكر وعمر وبداية عهد عثمان، ثم كانت الخلافات آخر عهد عثمان وأيا علي، ولم يكونوا بحاجة فالنبي كان حاضرا معهم بآثاره وأفعاله واقواله نظرا لقرب عهدهم به.
ض. أن الناس الآن بحاجة إلى من يدارسهم سير النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انشغلوا عن الدين بالدنيا، وبالماديات عن الروحانيات، فإن وجدت فرصة على ذلك فما المانع؟!
الترجيح بين القولين:
بعد النظر في أدلة الفريقين أخلص قناعاتي فيما يلي:
أ. للاحتفال بالمولد صورتان:
الصورة الأولى: متفق على تحريمها، وهي ما كان بالبدع والشركيات والمنكرات، كرقص وطبل وزمر واختلاط واستغاثة ببشر؛ وليا كان أو نبيا..
الصورة الثانية: وهي ما اختلف فيها، وهي ما كانت باجتماع الناس على تلاوة قرآن أو تدبر حديث، أو مدارسة سيرة، أو مدح بشعر أو إنشاد.
وهذه الصورة ينبغي فيها مراعاة التالي:
• قبول الخلاف في الصورة الأخير؛ فمن شاء احتفل ومن شاء امتنع.
• عدم التبديع أو التفسيق أو التكفير، إذ كل مسألة في الفروع لا يجوز لأحد أن يفسق فيها أحدا أو يبدع أحدا فضلا حتى وإن رأى بدعية العمل.
• عدم الخصومة أو المشاحنة، وقد أحسن ابن تيمية حين قال: ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير... ((مجموع الفتاوى (24/ 173)).
ب. على المحتفلين بالمولد النبوي أن يقدموا نموذجا للاقتداء لا يقف عند الاحتفال فقط، فلا يجدر بالمحتفل أن يكونا كذابا ولا مرتشيا، ولا يحسن به أن يكون خائنا ولا آكلا للربا، ولا يجدر به أن يكون عاقا أو مدمنا، ولا يجدر بمن تحتفل أن تكون متبرجة ولا سافرة، ولا يحسن لها أن تكون ثرثارة ولا حقودة...
ت. أن يراعى في كل بلد حال الناس وواقعهم، فإن كان الناس في زمن كثر فيه الإثم، وظهر الفساد، وكثرت المغريات، وصار باب المعصية مفتوحا، وكان الناس في بعد عن الطاعة، فلا مانع من عقد مثل هذه اللقاءات التي تجمعه على القرآن وتذكرهم بسيرة النبي الدنان عليه الصلاة والسلام..
أما إذا كان الخير عامّا، والسنة مشرعة لها الأبواب، والناس تغدو وتروح في هدى ونور، والقرآن سائد، والشرع حاكم، والأمة في خير وعافية، فأرى أن المنع أقرب إلى الصواب....
ث. كلمة رائعة لابن تيمية:
والحق أن ابن تيمية كان منصفا للطرف الآخر الذي أباح الاحتفال، فهو وإن كان محرما للاحتفال حيث يقول: .. فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص... إلا أن ابن تيمية عاد فقال: فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة. وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط. وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه... ((اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 126، 123))..
هذا والله تعالى أعلم...