في عام 1938م نشر الدكتور طه حسين (1307 - 1393هـ، 1889 - 1973م) كتابه المثير للجدل عن "مستقبل الثقافة في مصر"، وفيه ادعى أن العقلية المصرية هي عقلية يونانية منذ القدم، وأن القرآن والإسلام لم يغيرا من الطابع اليوناني لعقليتنا، كما أن الإنجيل والمسيحية لم يغيرا الطابع اليوناني للحضارة الأوروبية، وأن قبول العقلية المصرية للفلسفة اليونانية شاهد على ضرورة قبولها للحضارة الأوروبية الحديثة، حلوها ومرها، خيرها وشرها، ما يحمد منها وما يعاب، وأننا لا بد أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم في الحكم والإدارة والتشريع.
وعقب صدور هذا الكتاب، نشر سيد قطب (1324 - 1386 هـ، 1906 - 1966م) عام 1939م، في صحيفة "دار العلوم"، أعمق دراسة نقدية لدعاوى طه حسين هذه.
ولقد عنون هذه الدراسة: "نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين"، وفيها تجلت عبقرية سيد قطب في الانتماء للحضارة الإسلامية وفي الموقف من الغرب، وماذا نأخذ منه، وما لدينا في ميدان الخصوصيات الثقافية والفلسفية والعقدية.
وفي هذه الدراسة قال سيد قطب: "إن الفلسفة اليونانية - قديما - لم تتجاوز مدينة الإسكندرية إلا قليلا، وظلت مدينة "منف" - العاصمنة الوطنية - محتفظة بفرعونيتها، حتى جاء الإسلام فاعتنقته راضية، وتأثرت به مع سائر البلاد، وإن هناك فارقا أساسيا بين الإنجيل وبين القرآن، ففي القرآن، مع اللاهوت، نظم وشرائع وحدود دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية، بينما الإنجيل يكاد يخلو من كل هذا.
والمسيحية حينما امتدت إلى أوروبا وصلت إليها نظاما روحيا وإرشادا أخلاقيا، ولكنها لم تضع لها أسسا للتشريع والاقتصاد والسياسية كما وضع القرآن، حينئذ بقي العقل الأوروبي يسيطر على الحياة الدنيوية ويشرع لها ويتصرف فيها، فلم يتغير منه شيء هام مع المسيحية. أما القرآن فقد وضع العقل المصري والعقول التي خضعت له في نظاق معين، هو نطاق التشريع القرآني والنظام الدنيوي للقرآن.
وإن الحضارة الأوربية هي دائما في نزاع واضطراب مع الإنسانية، نزاع بين العقل الواعي والعقل الباطن. والإنسان لا يستريح ويهدأ إلا حين تتوازن نفسه الباطنة مع ما يحيط بها من الحياة الظاهرة، وتتدرج تدرجا طبيعيا. فالحضارة الأوربية مادية، تفسر ظواهر هذا العالم على أساس المادة، من غير التفات إلى عالم آخر روحي وراء هذا العالم.
والعقل عندها ليس إلا شكلا من أشكال المادة الدائمة التغيير والتنوع.. بينما روحانية الحضارة الإسلامية الشرقية ترى أن المادة وحدها عاجزة عن أن تشرح كل ما يحدث في هذا العالم، فهناك شيء غير مادي، شيء روحاني وراء هذا الشيء المادي، هناك الإلهام الذي لا يُعلل مع المنطق الذي لا يُعلل.
وإن الواجب علينا أن نحلل هذه الحضارة الأوربية إلى عنصرين هما الثقافة والمدنية، فنعتبر الثقافة شاملة لديننا وفنوننا ونظمنا الخلقية وتقاليدنا، وخرافاتنا كذلك.. وهذه يجب أن نحتفظ فيها بماضينا، ونجدد فيها بمقدار ما تتطلب سنة التطور الطبيعي، ونعتبر أن المدنية شاملة للعلوم والفنون التطبيقية، وتلك نأخذها عن أوروبا أخذا".
هكذا وضع سيد قطب - في هذه الدراسة التي نشرها عام 1929م - دستورا للعلاقة بين حضارتنا الإسلامية وبين الحضارة الغربية، وهو دستور تجلت فيه عبقريته المبكرة، ولا يزال يمثل "الكلمة السواء" التي يجب أن يجتمع حولها الفرقاء والمختلفون في هذا الموضوع.