هل يتغير الخطاب الديني من عصر إلى آخر؟ وهل الخطاب في عصر العولمة(1). غيره فيما قبله من العصور؟ وهل كل عصر له خطاب يخصه؟ هل الخطاب مثل أزياء الناس: زي للشتاء وزي للصيف، وزي لأهل المدينة وآخر لأهل القرية، وزي لأهل كل مهنة يختلف عن زي أهل مهنة أخرى؟ أليس الدين - الذي يستمد منه الخطاب - ثابتا، فلماذا يتغير الخطاب ويتنوع بأسباب شتى؟
هذه التساؤلات تحتم علينا أن نبين: أن الدين في أصوله وكلياته العقائدية، والتعبدية والأخلاقية،والشرعية، لا يتغير، ولكن الذي يتغير هو أسلوب تعليمه والدعوة إليه.
وإذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائه قد قرروا: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، والفتوى تتعلق بأحكام الشرع؛ فإن نفس هذا المنطق يقول: إن تغير الدعوة أو الخطاب - بتغير الزمان والمكان والعرف والحال - أحق وأولى.
فما يقال للمسلمين غير ما يقال لغير المسلمين.
وما يقال للمسلم الحديث العهد بالإسلام غير ما يقال للمسلم العريق في الإسلام
وما يقال للمسلم الملتزم المستقيم، غير ما يقال للمسلم المتفلت العاصي لربه.
وما يقال للمسلم في دار الإسلام غير ما يقال للمسلم في مجتمع غير إسلامي.
وما يقال للشباب غير ما يقال للشيوخ.
وما يقال للنساء غير ما يقال للرجال.
وما يقال للأغنياء غير ما يقال للفقراء.
وما يقال للحكام غير ما يقال للمحكومين.
وما يقال في قرية من قرى الخليج، أو صعيد مصر، أو ريف باكستان، غير ما يقال للناس عبر قنوات الفضاء، ويشاهده ويسمعه العالم.
وما يقال للناس في عصور العزلة: غير ما يقال لهم في عصر ثورة الاتصالات، التي جعلت العالم كله قرية واحدة، وهذا أهم ما تدل عليه كلمة «عصر العولمة» أي عصر التقارب العالمي.
لا شك أن هناك أقدارا مشتركة تقال للجميع ويخاطب بها الجميع، ولكن يبقى هناك خصوصية لكل فئة ممن ذكرنا، توجب على العالم والداعية أن يوجه لها خطابا خاصا، يجيب عن تساؤلاتها، ويحل مشكلاتها، ويرد على شبهاتها. لما أرسل النبي صصص معاذ بن جبل الأنصاري إلى اليمن، قال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله ...» الحديث(2). قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في تعليل البدء بهذه الجملة «إنك تقدم على قوم أهل الكتاب»: هي كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا يكون العناية في مخاطبتهم، كمخاطبة الجهال من عبده الأوثان(3).
ومن هنا لا يستغرب أن يكون خطابنا الديني في عصر العولمة مغايرا - بعض المغايرة - لخطابنا الديني قبل عصر العولمة، إذا ثبت لنا فعلا أن هناك عصرا جديدا يحمل طابع العولمة. ربما كان خطابنا - نحن المسلمين - قبل ذلك العصر، ذا طابع محلي، أعني: أننا نخاطب فيه أنفسنا، ولا نفترض أن هناك أحدا يسمعنا، أو يقرؤنا، أو يطلع على إنتاجنا العلمي والدعوى. وهذا - بلا ريب - صحيح، وينطبق على طوائف منا، كانت تكلم نفسها في داخل دارها، ولا تحسب أن أحدا ينصت لقولها، أو يهمه خطابها، وربما كان خطابها يجرح الآخر، أو يؤذيه أو يخيفه، من مضمون خطابه أو لهجته أو من سياقه.
شاركت في أحد البلاد الإسلامية في مؤتمر إسلامي كبير، حضره نحو خمسمائة شخص من أنحاء العالم، وقام أحد المشاركين، ففاجأ الجميع بكلام خرج فيه على خط المؤتمر واتجاهه، وقال: ليس هناك شيء اسمه حوار الأديان، أو تقارب بين الأديان، لأنه لا يوجد إلا دين واحد، وهو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ} [آل عمران: 19] ولا يوجد أديان سماوية غير الإسلام. كما قال تعالى: {وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ} [آل عمران: 85] ، وكان بجواري رئيس المؤتمر، فقلت له: إن هذا المتحدث قال كلامًا خطيرًا، يمكن أن يشوه صورة هذا المؤتمر، واتجاهه الإيجاب، إذا لم يرد عليه، ويفند ما قاله. قال: هذا كلام يقوله بيننا، ولن يتجاوز هذه القاعة، قلت له: هذا مردود عليه من وجهين:
الأول: أنه لم يعد هناك أحد يكلم نفسه، أو فئة تستطيع أن تحصر كلامها داخل قاعة مغلقة، فهنا صحفيون ومندوبون لإذاعات وتليفزيونات، ينقلون كل ما يقال هنا إلى أنحاء الدنيا.
والثاني: أن ما قاله في ذاته غير صحيح، فهناك أديان غير الإسلام، وقد قال تعالى: {لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
والآية التي استدل بها ترد عليه: {وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا}، وقال تعالى: {يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ} [المائدة: 77].
ثم نحن مأمورون بالحوار دينا، فقد قال تعالى: {وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ} [النحل: 125].
وربما كان هذا الخطاب يحتقر الآخرين أو لا يلقى لهم بالا، ولا يقيم لهم وزنا. وربما كان مشحونا بالغضب عليهم، والبغض لهم بسبب موقفهم من الإسلام وقضايا أمته، والوقوف مع أعدائه.
وربما كان هذا نتيجة لعدم المعرفة الكافية بالآخر. وقد قال العرب قديما: من جهل شيئا عاداه.
ربما كان هذا أو كان غيره، فكل هذا مسوغ للنظر في خطابنا الديني - المسموع والمقروء - هل هو ملائم لعصرنا أو لا؟ وهل يتحقق به الدعوة إلى الله على بصيرة؟ وهل استوفي شروط الكلام البليغ الذي يجسد المطابقة لمقتضى الحال مع فصاحته؟
ومما لا خلاف عليه: أن الخطاب الديني يختلف باختلاف المدرسة التي ينتمي إليها الداعية ويعبر عنها.
فخطاب الصوفي غير خطاب الأثري، وخطابهما غير خطاب المتكلم. وهو غير خطاب الفقيه.
وخطاب الفقيه الملتزم بتقليد مذهب غير خطاب الفقيه المتحرر من ربقة التقليد.
وخطاب الداعية المخاصم للتصوف كله غير الذي يأخذ منه ما صفا ويدع ما كدر.
وخطب الداعية المحصور في تراث السابقين غير الذي انفتحت عينه على العصر وثقافته وتياراته.
وخطاب الداعية الذي لم يخرج من بلده غير الداعية الذي جاب الآفاق، وعرف الناس والأديان والمذاهب والثقافات.
وكل هذا من أسباب تنوع الخطاب الديني في الجملة، وإن كان الأصل المتفق عليه: أن يستمد الجميع من محكمات القرآن، وصحيح السنة، وما اتفق عليه سلف الأمة، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.
والمنهج الأمثل: أن يجمع خطابنا الدعوى الإسلامي: بين روحانية المتصوف، وتمسك الأثري، وعقلانية المتكلم، وعلمية الفقيه. يأخذ من كل صنف خير ما عنده، ويمزج بينها في تناسق وانسجام.
القرآن نفسه دليل تغير الخطاب:
وأقوى دليل على تغير الخطاب بتغير ملابساته وموجباته: هو القرآن ذاته، فقد رأينا خطاب القرآن المكي «أي قبل الهجرة إلى المدينة» غير خطاب القرآن المدني، وهو أمر معروف مقرر لدى دراسي القرآن، ويلحظه كل من يقرأ القرآن، ويعرف السور المكية فيه من السور المدنية. فموضوعات القرآن المدني تختلف عن موضوعات القرآن المكي في الجملة، وأسلوب القرآن المدني يختلف عن أسلوب القرآن المكي في الجملة.
موضوعات القرآن المكي تدور - أساسا - حول ترسيخ العقيدة من التوحيد بأقسامه المختلفة، وإثبات النبوة، والجزاء في الآخرة، والإيمان بالغيب، والدعوة إلى العمل الصالح، ومكارم الأخلاق، وما يؤيد ذلك من قصص الرسل والمؤمنين، والرد على المخالفين. وموضوعات القرآن المدني تدور حول إقامة المجتمع المؤمن، والتشريع له، ولذا لم ينزل في مكة: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ} فكل ما يحتاج إليه المجتمع من عبادات ومعاملات وتشريعات وعقوبات، تجده في السور المدنية.
وأسلوب القرآن المكي غير أسلوب القرآن المدني في الجملة أيضا، فالأسلوب المكي تغلب عليه الشدة والحرارة، والنبرة السريعة، وتكرار بعض اللوازم، كما في سورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة الرحمن، وسورة المرسلات. يخاطب القلوب، ويثير المشاعر، ويجابه المكابر، ويفحم المعارض. بخلاف الأسلوب المدني، فإنه أسلوب تعليمي تشريعي هادئ النفس، هادئ النبرة، يخاطب العقول أولا، وإن لم يخل من مخاطبة القلوب، لأنه موضوعه التشريع والتعليم.
وسر تغير الخطاب هنا وهناك: أن سورة القرآن مكية ومدنية تراعي المخاطب وتكلمه بما يناسبه: القرآن المكي يخاطب. أولا - المشركين المناوئين لعقيدة التوحيد، والجاحدين لنبوة محمد، والمتطاولين عليه، ولذا ساد الخطاب لغة الشدة والسخونة. وأما القرآن المدني فهو يخاطب الجماعة المؤمنة الجديدة، التي يكلفها بالأوامر والنواهي، والتوجيهات والتشريعات، ولذا ساد الخطاب لغة الهدوء والتعليم.
ومن قرأ سورة مدنية كسورة البقرة، وسورة مكية كسورة الشعراء، يتبين له الفرق في الخطاب واضحا بين السورتين، في المضمون وفي الأسلوب.
.............
*من كتاب "خطابنا الإسلامي في عصر العولمة" لفضيلة العلامة.
(1) راجع في «مفهوم العولمة» كتابنا «المسلمون والعولمة» (ص 9 - 17) طبعة دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة.
(2) رواه البخاري عن ابن عباس في مواضع من كتابه بأرقام (1395، 1496، 1458) وغيرها، ورواه مسلم أيضًا.
(3) «فتح الباري» (3/358) شرح الحديث رقم (1496) في كتاب الزكاة.