لازلنا نتحدث عن سنن الله سبحانه وتعالى والتي يترتب على فهمها وفقهها الوقوف على كثير من القضايا والمشاكل التي ربما تستشكل على كثير من الناس لتوضيحها وفهمها فهماً دقيقاً.
واليوم سنتحدث عن سنن الله سبحانه وتعالى وعلاقتها بقدر الله جلّ في علاه.
فالكل يعلم أن الإيمان بالقضاء و القدر ركن أساسي من أركان هذا الدين الحنيف، حيث لما جاء جبريل عليه السلام إلى نبينا وحبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسأله عن عدة أشياء منها سؤاله عن الإيمان، فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى".
إذاً فالإيمان بالقدر يقتضي التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى بإرجاع الخلق والأمر إليه سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق والرازق والعالم المحيط بعمله بكل شيء وأنه كل شيء يحدث في هذا الكون بقدر الله وبعلمه سبحانه وتعالى.
هذا الإيمان القوي يصنع الرجال، الذين يكونون أقوى من الجبال الشوامخ، فالإيمان الصحيح يجعل المؤمن كالطود العظيم الذي لا تهزه الريح والبلاء والمصائب والابتلاءات، مهما كانت قوة هذه الرياح إن هذا الإيمان القوي يجعل المؤمن مطمئناً قوياً منشرح الصدر مهما تعرض للمصائب والبلايا.
عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً
هذا هو المقصود بهذا الإيمان وهو الهدف والغاية، وليس المقصود منه أن يركن الإنسان إلى الكسل بل عليه أن يعتقد بأن هذا الإيمان يجعله مطمئناً، ثم ينطلق إلى الأخذ بالأسباب، حيث أمرنا الله سبحانه وتعالى
إلى جانب هذا الإيمان القوي وفي كثير من الآيات والأحاديث أمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب والتجهيز لكل شيء كما فعل عليه الصلاة والسلام حينما هاجر من مكة إلى المدينة، وهو أكمل الناس إيماناً وأقواهم وأشدهم أقربهم علاقة مع ربه، قد أخذ بكامل أسباب السفر والهجرة من هروب وتغيير للطريق والراحلة وتقصي الأخبار وما
إلى ذلك، وقد قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ )، وأيضاً تجهيزه للحروب ووضع الخطط والاستشارة وما إلى من الأسباب، لكي يعلمنا إلى جانب الإيمان يجب الأخذ بالأسباب.
وأيضاً هناك إشكالية يأتي بها بعض الناس، إذا الله كان خالق كل شيء وهو المرجع لكل شيء، وإذا كان قدر الله قد كُتب فما الذي نستفيد منه؟ وما الذي نستطيع أن نفعل وأن نقابل إرادة الله تعالى؟
هذه الشبهة هي شبهة المشركين الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم وقد سجلها القرآن الكريم في قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ )، فكان ردّ الله سبحانه وتعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ )، إن الله ليس عاجزاً بل هو قادر على ذلك، ولكن ليقيم عليكم الحجة.
وما يقيم هذه الحجة إلا حينما يقدم الإنسان على شيء بعمله وتصرفاته وإرادته ومشيئته.
أما لو فرض الله سبحانه وتعالى على الناس وأجبرهم وأكرههم على شيء، لما كان هناك من مسؤولية عليهم، ولكن عدل الله يقتضي ذلك، لأنه عندما يحاسبنا فإنه يحاسبنا بعدله لا بعلمه، فهو يحاسبنا حسب الشهود والبينات والشهادات من الإنسان نفسه، لأن الله تعالى يعلم ما يفعله الإنسان ولكنه عندما يسأل الشخص عما فعله
فإذا قال: لا، فتشهد عليه ألسنته وتشهد عليه أيديه وتشهد عليه جميع جوارحه كل حسب المسألة المتعلقة به.
بالإضافة إلى هذا السجل (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا -- اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ).
إذا القضية ليست قضية إكراه أو أجبار إنما القضية هي هل الإنسان مسير أم مخير كما هو منشور بين الناس.
فهذا الكلام غير معقول وغير وارد بالنسبة للقرآن الكريم لمن يفهم حقيقته، ويقتضي إيماننا بالله تعالى أن نسند الأمر كله له لتطمئن قلوبنا، وأن نأخذ بالأسباب، فالله جل في علاه خلق إلى جانب الإيمان السنن، وجعل لكل شيء سبباً وهو منه وإليه، كما قال رب العالمين: (كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )، فالله تعالى قد كتب على نفسه مجموعة من السنن وجعلها قاضية بأمره والأمر كله من قبل ومن بعد راجع إليه.
فلذلك سنن الله تعالى تقتضي بأن يكون الإنسان مخيراً في دائرته وأن تكون قضايا الإيمان بالله في دائرة العقيدة، وليس هناك تعارض بين الدائرتين، فدائرة إرادة الله محيطة بالإنسان، وأن الإنسان إذا أراد شيئاً وأخذ بأسبابها فإن الله سبحانه وتعالى يحقق له ما أراد.
عندما يطلق على طلق ناري على مكان مقتل الإنسان فالموت بيد الله واقتضت سنته أن تكون تلك الرصاصة سبباً لموته، فالموت واحد والأسباب متعددة، والإنسان مهما كانت قوة إيمانه قد يكون الجوع سبباً لموته أيضاً، فهذه الأسباب وغيرها تؤدي إلى النتيجة بقدر الله تعالى.
وإن هؤلاء الذين لا يفهمون يقولون: إن الإنسان مخير وله كامل الخيار، هذا الكلام غير صحيح، أو يقولون إن الإنسان مسير وليس له إرادة وهذا أيضاً غير صحيح، لأنهم لم يفقهوا كتاب الله حيث إن القرآن الكريم كتاب متكامل مجموع يضم بعضه إلى بعض ولا يضرب بعضه ببعض.
كان هناك فرقة تسمى بالجبرية وكانوا ضمن دائرة المسلمين، ولكنهم ضلوا الطريق بسبب الفلسفة، وانحرفوا عنه وقالوا إن الإنسان مجبور مستشهدين بقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّه )، وقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ)، وإن كان ظاهر هذه الآيات تدل على أن الإنسان مسير، ولكنهم غفلوا عن آيات كثيرة منها قوله تعالى: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ )، وقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ)، وهناك الكثير من الآيات الأخرى التي تدل على ذلك، "جزاء بما كنتم تعملون" ، "جزاء بما كنتم تكسبون".
لو لم يكن الإنسان مخيراً أيضاً لما أسند الله شيئاً إليه، لذلك حينما تجمع هذه الآيات فإنها فتكون في دائرة العقيدة والإيمان، لذلك إلى جانب العقيدة والإيمان يجب أن نعمل ونأخذ بالأسباب، حيث إن الله قد جعل مشيئتنا سبباً وسنة من سننه التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً.
فهذه السنن جعلها الله قاضية وحاكمة وفاعلة بفضله ومنّه وكرمه وقدرته وعدله، فهنا لا تبقَ أي إشكالية ولا أي تعارض بين هذه الآيات، فإيمانك يجعلك مطمئناً ولكنك مسؤول عن عملك وأفعالك.
ومن هنا تأتي عظمة الإسلام والتي تجعلك مؤمناً قوياً لا يمكن أن يضاهيك في هذا لإيمان أي مخلوق في الدنيا، لأنك أنت مؤمن بأن الله يحميك من الذل ويحميك من الخضوع لأنك تؤمن بأن كل شيء بيد الله جلّ في علاه.
إذا أظمأتك أكفُّ الرجال كَفَتْك القَناعَة ُ شَبْعا وَرِيّا
فَكُنْ رَجُلاً رِجْلُهُ في الثَرَى وهامة همّته في الثريا
فالمسلم دائماً هامته في الثريا وهو جبل شامخ لا يخضع لأحد، لا للمال ولا للجاه لا لأي شيء، وهذا لا يعني أن يتحدى أو يتعدى وإن كان في قرارة نفسه ملكاً من الملوك، لأنه ملتجئ إلى الله تعالى الذي هو قادر على كل شيء، ولكن في باب الأعمال والأخذ بالسنن أن يكون مثل أي إنسان مادي، كما أن الغرب والملحدون وغيرهم أخذوا بالأسباب فالمسلم من باب أولى أن يأخذ بالأسباب مع هذا الإيمان القوي بأمر الله وبقدره.
فيكون مع اطمئنان القلب وثباته وعزة النفس وشموخ الرأس مع الأخذ بالأسباب والسنن قد جمع بين الخيرين، خير معنوي في داخل نفسه وخير مادي لا يضاهيه فيه أحد، فتكون قد تحققت له سعادة الدنيا، كما ستتحقق له إن شاء الله تعالى سعادة الآخرة، هكذا فهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ونحن أيضاً يجب أن يكون هكذا فهمنا.
يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا عدوى ولا طيرة )، وفي حديث آخر قال: ( فر من المجذوم فرارك من الأسد)، هل هنا تعارض بين الحديثين؟ الجواب هو لا.
إنه بيان بأن الحديث الأول هو جزء من عقيدتنا والتي تجعلنا نؤمن بأن كل شيء بيد الله تعالى وأمره وقدره، والحديث الثاني يدلنا على الأخذ بالأسباب.
فالرسول يأمرنا بالابتعاد عن مكان العدوى وأن لا ندخل مكاناً فيه طاعون أو غيره أو أن نقترب من شخص مجذوم، والطب أيضاً يأخذ بهذا الأمر ( الحَجْر الصحي )، فهذا أمر من الله تعالى.
هذا هو ديننا لأننا لو فهمناه لما أصابتنا الكثير من هذه المشاكل والمصائب التي تؤدي إلى التأخر اليوم.
الخطبة الثانية:
إخوتي الكرام هكذا أمر الله سبحانه وتعالى وهكذا سننه، وإن الله تعالى أراد لهذه الأمة أن تكون أمة قوية قادرة على تحقيق الخير والحضارة وأن تكون أمة فاعلة لا مفعولاً بها، كما هو اليوم، فالجميع منشغل بنفسه ومنشغل بهذا الجدل الفلسفي العقيم.
لأننا لو عدنا إلى قرآننا الكريم وقرأناه قراءة صحيحة وفهمناه لما انشغلنا، ولوجدنا كل خير في هذا القرآن ولوجدنا تبياناً لكل شيء.
اللهم أصلح أحوالنا
19 / 1 / 2018م