لا نستطيع أن نمضي في تشييد بنية فكرية قوية؛ من غير فهم جيد للأمور التي تجعل اتفاق أهل العلم صعباً أو مستحيلاً, ومن غير فهم جيد لتأثير التكوين الثقافي في تعدد وجهات :النظر، تجاه الكثير الكثير من القضايا المتنوعة, ولعلِّي أحاول ملامسة شيء من ذلك بالمفردات الآتية
1 – ذكرتُ -في مقال سابق- أن عقولنا تعمل بواسطة أدوات معرفية, هي، على نحو عام: التعريفات، والمصطلحات، والأفكار، والمفاهيم، والمعلومات.
والمدهش في الأمر أن العقل لا يستطيع أن يستخدم هذه الأدوات دون أن يتأثر؛ وذلك لأن العقل ليس بنية متكاملة، كالجسد -مثلاً- وإنما هو مزيج معقد جداً من الإمكانات والمواهب والقدرات والمعتقدات والمفاهيم والملاحظات والقابليات والأوهام والانطباعات الهشة والرؤى الغائمة.
أي: إن العقل يظل غير واثق تماماً مما لديه, ويظل توَّاقاً إلى الكمال، وإلى المزيد من التبصر, ولهذا فإنه يستجيب في العادة للمعطيات الجديدة, ويتفاعل معها, وربما غيّر من طرحه بناء عليها, وقد حَدَثَ هذا فيما يفوت الحصر من الحوادث والحالات.
ويذكرون -في هذا السياق- أنه جرت مناظرة، بين الإمامين الكبيرين: الشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام، في تحديد معنى (القَرْء)؛ هل هو: أيامُ الحيض، أو هو أيام الطُّهر؟ وانتهت المناظرة دون أن يتزحزح أي منهما عن رأيه, وبعد مدة فوجئ الناس بتبادل هذين الإمامين للمواقع؛ حيث صار الشافعي يفتي بما كان يراه أبو عبيد, وصار أبو عبيد يفتي بما كان يراه الشافعي! وهذا منتهى الإنصاف، ومنتهى التجرد والموضوعية، ومنتهى الاحترام للأدلة والبراهين؛ من العالِمين الجليلين!
2 – من المهم أن ننظر إلى اختلاف الناس في آرائهم، وأفكارهم، ونظراتهم إلى الأشياء. إنه يشبه اختلاف وجوههم تماماً؛ كل إنسان سويٍّ له فم وأنف وعينان وجبين وحاجبان.. ومع هذا فلا تكاد ترى وجهاً يطابق وجهاً آخر مطابقة كاملة؛ وذلك بسبب اختلاف الملامح والألوان والتفاصيل الصغيرة..
وهكذا الناس؛ تتشابه آراؤهم, بل تتطابق حين يفكرون في مسائل وقضايا كبرى؛ هي أشبه بالأصول والثوابت الثقافية. فإذا فكروا في مسائل فرعية أو جزئية, وإذا تجادلوا في صلاحية أداة أو أسلوب أو هدف جزئي..؛ فمن من الطبيعي جدّاً أن يختلفوا اختلافاً واسعاً, بل إن من العسير عليهم آنذاك أن يتفقوا.
وسأضرب مثالاً واحداً لتوضيح هذا: هناك إجماع لدى كل الأمم على بر الوالدين واحترامهما, وهذا الإجماع على المبدأ؛ حيث لا نعرف أي ثقافة تقول: يستحب ضرب الوالدين! أو الغدر بهما! أو إهانتهما!..
لكن حين يأتي الناس لتوصيف معنى البر والاحترام؛ فسنجد اختلافاً واسعاً داخل الملّة الواحدة! فهناك من المسلمين -مثلاً- من ينظر إلى نفسه على أنه عاقٌ لوالدته التي تسكن في الحي الذي يسكن فيه؛ إذا لم يقم بزيارتها كل يوم أو يومين مرة. وقد يكون له أخ شقيقٌ يرى أنه سيكون بارّاً بأمه؛ إذا زارها في الأسبوع مرة.
فإذا ذهبنا إلى المجتمعات الغربية اختلفت الصورة كليّاً, حيث نجد هناك من يعد نفسه بارّاً جدّاً؛ إذا زار والدته التي تسكن في الحي نفسه الذي يسكن فيه مرة في الشهر أو الشهرين! وقد أوجدوا يوماً في السنة لتكريم الأم؛ بسبب ضعف التواصل بين الأبناء مع أمهاتهم طيلة العام!!
في هذا الإطار ينبغي أن نفهم قول الله جل وعلا:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ…}[1].
قال الحسن وعطاء ومقاتل في: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: أي: للاختلاف خلقهم.
وقال ابن عباس والضحاك وقتادة: ولرحمته خلقهم.
وقيل: المعنى: للرحمة والاختلاف خلقهم. ورجَّح هذا القول القرطبي[2].
والذي يبدو لي صواب هذا القول, فالناس كلهم يختلفون؛ لكن المرحومين منهم لا يختلفون في الأصول والكليات، فهم معتصمون بالوحي وقطعياته, أما غير المرحومين فهم يختلفون في القطعيات, وبذلك يصبح خلافهم وبالاً عليهم في الدنيا، وسبباً لعذابهم في الآخرة.
أما الخلاف في الجزئيات والكيفيات والأساليب؛ فقد خلق الله جميع عباده له, فهو سمة عامة لا يكاد ينجو منها أحد, واختلاف الصحابة -رضوان الله عليهم- في كثير من المسائل دليلٌ على هذا, وهم خير القرون وأفضلها.
والحمد لله رب العالمين
وللحديث بقية…
ــــــــــــــــــــ
[1] سورة هود: 118, 119.
[2] تفسير القرطبي 9: 115.