ثامناً: البدء بـ (الر) لبيان الإعجاز:
أن السورة بدأت بالحديث عن القرآن الكريم من خلال حروفها الهجائية ( الر ) حيث لا نجد سورة تبدأ بها إلا وسيتلوها الحديث عن الكتاب، كما في هذه السورة (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، فكأن الله تعالى يقول: إن هذا الكتاب المعجز مكون من الحروف الهجائية نفسها التي تتكون منها اللغة العربية، ومع ذلك لا أحد يستطيع أن يأتي بمثله، أو حتى بسورة واحدة منه.
ثم وصف الله تعالى هذا الكتاب المعجز بأمرين، هما:
1- البيان والإفصاح والإيضاح لجميع الحقائق، ومنها حقيقة قصة يوسف ـــ عليه السلام ــــ، حيث إن القرآن الكريم هو الوحيد الذي ذكرها بحقائقها وأسرارها، حتى إن بعض اليهود لما قرؤوا سورة يوسف تركوا ما عندهم حول قصة يوسف، واعتمدوا على ما في سورة يوسف.
2- أنه قرآن بلسان عربي مبين، وهذا يقتضي أن لا يتصدى لفهم القرآن الكريم وتفسيره إلا من كان عالماً باللغة العربية؛ فقهها، ونحوها وصرفها، وبيانها ومعانيها وبديعها، وحقيقتها ومجازها، وأساليبها و دلالاتها.
أما غير العرب فإما أن يتعلموا اللغة العربية، كما فعلوا فسبقوا أهلها، وأبدعوا فيها، أو تترجم لهم معاني القرآن الكريم، فتكون المعجزة في معانيه وتشريعاته، وما يتضمنه من الإعجاز العلمي والطبي ونحوه.
تاسعاً: منهجية القرآن الدقيقة:
نجد في القرآن الكريم بصورة عامة، وفي سورة يوسف بصورة خاصة منهجية فريدة معجزة حقاً، وهي:
1- دقة الكلمات حتى لا تستطيع أبداً أن تغير كلمة برديفها، فمثلاً لا تستطيع أن تغير ( قُدَّ من دبر ) بلفظ " قطع" أو "شق"؛ لأن القد هو القطع من فوق إلى تحت طولاً ، دون تمزق، وكان هذا هو الواقع المقصود الذي لا توجد كلمة واحدة تعبر عن هذا الواقع.
وكذلك لفظ" همَّ بها" حيث يدل على النية مع المباشرة بالعمل فعلاً، كما في قوله تعالى: ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) كما سيأتي.
2- إمكانية استعمال جميع معاني الكلمة دون الإخلال بالمقصود.
3 - أسلوب طوي بعض الوقائع لمعرفتها من السياق، وهذا كثير في هذه السورة.
4- التوالي بين الألفاظ ومعانيها، وبين المعاني وألفاظها، حيث ألفت بينهما حكمة الله فركبتهما تركيباً مزجياً، بحيث لا يجري حكم هذا التجاذب على إحداهما حتى يشملهما جميعاً، يقول مصطفى صادق الرافعي:" ومن أعجب ما رأينا في إعجاز القرآن وإحكام نظمه أنك تحسب ألفاظه هي التي تنقاد لمعانيه، ثم تتعرّف ذلك و تتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادة لألفاظه، ثم تحسب العكس ..... وما إن تزال متردداً على منازعة الجهتين كلتيهما، حتى ترده إلى الله الذي خلق في العرب فطرة اللغة، ثم أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة" .
5- قدرة الكلمات والأساليب القرآنية على تجاوز الزمان والمكان، فكأن اليوم نزلت وتتجدد معانيها وحكمها وأسرارها في كل عصر.
عاشراً: بيان بعض غايات القرآن الكريم:
إن الغاية من نزول القرآن الكريم هو التعقل والتدبر، والتبصر، والتفكر، والتحليل العقلي مع العمل به ـــ كما سبق ـــ.
الحادي عشر: التعبير ب(نحن) للدلالة على أن القصة عظيمة:
تعبير القرآن الكريم عن ذات الله الواحد الأحد بلفظ" نحن " للدلالة على التعظيم، وعلى أن الأمر له أهمية قصوى، وهنا كون القصة أحسن القصص ــــ وقد شرحنا هذا الجانب فيما سبق ــــ.
وهنا تنبيه مهم:
وهو أن إسناد قص القصة إلى الله تعالى لا يعطي الحق في إطلاق الصفة المشتقة منه عليه تعالى، ولذلك لا يجوز إطلاق " القاصّ " على الله تعالى، فالقاعدة الذهبية في هذه المسألة هي أن ما أثبته الله تعالى لذاته بصيغة الفعل، مثل: نقصُّ، وغضب الله، ينحصر الجواز على الفعل فقط، دون الصفة، وأن ما أطلقه الله على ذاته بصيغة الصفة، مثل: العالم، والقادر، ونحوهما يجوز إطلاقها وإطلاق فعلها على ذاته العلية.