للوالد الحق في أن يأخذ أموال أولاده، و(يجتاحها) حسبما يشاء، معنى لم يقل به أحد من الفقهاء
الحديث لا يسلم طريق من طرقه أو رواية من رواياته عن النقد، ولكن له طرق وشواهد تقويه
حتى لو كان صحيحاً فهو يعارض أدلة قطعية ومبادئ عامة في الملكية والميراث
فقد وردتني استفسارات حول حكم أخذ الأب أموال أولاده الصغار والكبار، (أنه لديه أولاد قُصّر جاءتهم هدايا في حدود ما يعادل سبعين ألف ريال قطري) فطلب اقتراضها منهم ووافقت والدتهم على ذلك ، ثم حدث النزاع بينهما فتراجع عن اعتباره قرضاً، والآن يقول الأب: هذا حقي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (أنت ومالك لأبيك).
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فبداية أود أن أوضح سند الحديث ، ومناسبة وروده ، ثم فقهه ، ثم الإجابة عن السؤال بعون من الله تعالى :
أولاً – ما يدور حول الحديث سنداً ورواية :
(1) روى الطبراني في الأوسط (7/19، 4/31) بسنده عن جابر أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي مالاً وولداً ، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (أنت ومالك لأبيك) .
قال الدارقطني في الإفراد (غريب من حديث يوسف بن أبي إسحاق ، تفرد به عيسى بن يونس ورواه البزار من طريق هشام بن عروة ، وقال : إنما يعرف عن هشام عن ابن المنكدر مرسلاً) وكذا أخرجه الشافعي في الرسالة رقم (1290) عن ابن عيينة عن ابن المنكدر مرسلاً) قال البيهقي في السنن الكبرى (7/481) : (قد روى من وجه آخر موصولاً لا يثبت مثله).
وقال الحافظ في التلخيص (3/383) ط. مؤسسة قرطبة 1416هـ باعتناء أبي عاصم: (وأخطأ من وصله عن جابر) .
إذن الحديث بهذا الاسناد ضعيف لا ينهض حجة .
(2) وروى ابن ماجه الحديث رقم (2291 -2292)، وابن حبان في صحيحه (2/142) وأحمد في مسنده الحديث 6902 (2/179) وأبو داود الحديث (3530) بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( إن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه فقال : إن أبي يريد أن يجتاح مالي؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئاً) .
وأحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيها مقال من حيث المبدأ والأصل ما سوى بعض الحالات،
(3) وروى الطبراني في الروض الداني إلى المعجم الصغير (1/23، الحديث 2) بسنده عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أنت ومالك لأبيك) وفيه معاوية ابن يحيى ، وهو ضعيف .
(4) وروى أبو داود الحديث (3528) وابن حبان (4246) والحاكم في المستدرك (2/46) عن عائشة بلفظ : (إنما أنت ومالك سهم من كنانته) ، لكن ابن أبي حاتم نقل عن أبيه : إنه منكر، وقال أيضاً في رواية الأسود عن عائشة بلفظ (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ابنه من كسبه) قال : (فأخطأ فيه أسناداً ومتناً) علل الحديث (1/470) ورقم الحديث (1411) ولكن الرواية الأخيرة عن عائشة رويت بطرق أخرى غير طريق الأسود، حيث رواه عن غير طريقه أبو داود الحديث (3528) وابن حبان في صحيحه الحديث (4246) والحاكم في المستدرك (2/46) عن عائشة بلفظ : (أن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه) ولدى الحاكم وغيره زيادة (فكلوا من أموالهم).
(5) روى البيهقي في السنن الكبرى (7/481) من طريق قيس بن أبي حازم قال : حضرت أبابكر الصديق ، قال له رجل: يا خليفة رسول الله : إن هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه قال له أبوبكر: (إنما لك من ماله ما يكفيك) الحديث ، وفيه : (أنت ومالك لأبيك) مرفوعاً ، ولكن في إسناده المنذر بن زياد الطائي ، وهو متروك . ويراجع تلخيص الحبير (3/384).
والتحقيق أن هذا الحديث لا يسلم طريق من طرقه أو رواية من رواياته عن النقد، ولكن له طرق وشواهد تقويه ، فينهض بها حجة كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/211).
ثانياً- معنى الحديث وفقهه :
المعنى الظاهري أن للوالد الحق في أن يأخذ أموال أولاده، و(يجتاحها) حسبما يشاء، وهذا المعنى لم يقل به أحد من الفقهاء – حسب علمنا – بل يتعارض مع المبادئ الثابتة في الملكية، والميراث ووجوب الحفاظ على أموالهم التي تثبت بأدلة قطعية صحيحة، لا يمكن ان يعارضها حديث بهذه الدرجة، قال الحافظ المناوي (فيض القدير 5/13) : (معناه – أي الحديث- : إذا احتاج لمالك أخذها ، لا أنه يباح له ماله عن الاطلاق، إذ لم يقل به أحد) .
ثم من جانب آخر ينبغي البحث عن تخريج المناط وتنقيحه ، وتحقيقه ، فهل العلة الوالدية ، وبالتالي فهي تشمل الوالد والوالدة والأجداد والجدات؟
أم أن العلة هي الإرث والتوارث ؟، وحينئذ تشمل جميع الورثة ، بل إن إرث الولد أكبر من إرث الوالد مع أنه ليس له الحق في مال والده بالإجماع .
ولذلك قال الشافعي في الرسالة (ص 468) عند تأويله لهذا الحديث بان اللام فيه للإباحة وليست للملك : (لم يثبت -أي هذا الحديث-، فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره ، وقد يكون أنقص حظاً من كثير من الورثة ، دلّ ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه) .
واكد ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين (1/116) فقال : ( واللام في الحديث ليست للملك قطعاً) .
وبناء على ما ذكر وعلى أمور كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرها والخوض فيها هنا ، أن اللام هنا هي للإباحة المقيدة بالحاجة ، وليست للتمليك ، ولا لمقتضى الإباحة.
ويدل على ذلك الجمع بين هذا الحديث ، وبين الأدلة القطعية الدالة على ثبوت ملكية الأولاد لأموالهم منذ تحقق أهلية الوجوب لهم، بالإضافة إلى القواعد والمبادئ العامة القاضية في التوارث بأن للوالدين نصيباً مفروضاً (بالتعصيب أو بفرض نسبة) ، ولو كان الحديث على ظاهره لكان الوالد يأخذ كل أموال أولاده لأنها له مثل بقية أمواله.
وقد ورد حديث آخر رواه الحاكم في المستدرك (2/284) والبيهقي في السنن الكبرى (7/480) ، عن عائشة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أولادكم هبة الله لكم (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ) [سورة الشورى/ الآية 49] فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها) .
هذا الحديث نص في اشتراط الحاجة ، وهو بهذا اللفظ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة الحديث (2564) ، وإن كان الحافظ ابن الملقن في البدر المنير (8/310) قد ضعّف هذه الزيادة ، ولكن تصحيح الألباني لها وكونها مطابقة مع المبادئ العامة يجعلاها معتمدة معنى وسنداً إن شاء الله تعالى .
والذي أفهمه من هذا الحديث : هو توجيه نبوي شريف للأولاد بان لا يمنعوا آباءهم من أخذ أموالهم إذا احتاجوا إليها وان الوالد إذا أخذ شيئاً من أموال أولاده يجب ان يكون بالمعروف وعند الحاجة فهذا من حقه الأبوي ومن البرّ به ، ولكنه ليس من باب الملكية، كما لا يجوز له تجاوز الحقوق والحدود .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يوجه الأولاد نحو البرّ والإحسان الذي هو فوق العدل وفوق الحقوق المالية .
وهذا الحديث تأكيد على النفقة الواجبة على الأولاد نحو آبائهم وأمهاتهم من وكل ما في الأمر أعطى لهم الحق ان يأخذوا منها بمقدار حاجتهم .
ثالثاً- وبناء على ما سبق فإن للوالد الذي أخذ مبلغ (سبعين ألف ريال ) يجب عليه رده إلى أولاده لعدة أسباب ، منها :
السبب الأول : ما ذكرناه في الحديث بأن اللام فيه للإباحة وليست للملك، وأنها مقيدة بالحاجة الفعلية للوالد واستعماله الشخصي لهذا المال فقط ، بالإضافة إلى أن لا تكون حاجة الولد أكبر، وان لا يتضرر الولد بذلك .
السبب الثاني: أنه أخذ المبلغ بنية القرض ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنبيّات) متفق عليه ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون عند شروطهم ) الحديث بهذا اللفظ رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم ـ مع الفتح ـ (4/451) والترمذي في جامعه وقال : ( حسن صحيح ) ـ مع تحفة الأحوذي ـ (4/584) وأبو داود ـ مع عون المعبود ـ ( 9 / 516) .
السبب الثالث : أن الله تعالى أمر أولياء القصر بالحفاظ على أموالهم بل إن الله تعالى ذكر قاعدة عامة فيما يجوز أخذه لهم فقال تعالى: (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء / الآية 6] بل إن الإمام الطبري ذكر أن المقصود بالمعروف ، هو : أن يستقرضه من مال اليتيم، ثم يقضيه، وهذا رأي عمر بن الخطاب حيث قال : (إني أنزلت مال الله تعالى مني منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت)، وقال ابن عباس وعبيدة، وابن سيرين وسعيد بن جبير ، والشعبي، ومجاهد، وغيرهم : هو عليه قرض . يراجع تفسير الطبري في تفسير هذه الآية .
السبب الرابع: أن الله تعالى أمر برد أموال القصّر إليهم فقال تعالى : (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً) [سورة النساء / الآية 6] فلوا كانت الأموال أموال الآباء لما وجب عليهم ردها، ولا الإشهاد عليها.
والخلاصة أن الحديث المذكور ليس قوياً من حيث السند، فأقصى ما تصل إليه درجته هو الحسن لغيره، وحتى لو كان صحيحاً فهو يعارض أدلة قطعية ومبادئ عامة في الملكية والميراث، ولذلك اتجه البعض إلى اعتباره منسوخاً ، ونحن لا نرى ذلك ، بل نرى الجمع وهو أولى ، حيث حملنا اللام للإباحة ، واشترطنا الحاجة ، وعدم إضرار الولد به، وبذلك يتفق الحديث مع قاعد النفقة الواجبة ، كما أنه ورد في إطار البرّ والإحسان، وتوجيه الأولاد إلى التضحية بالمال في سبيل إرضاء الوالدين.
وبناء عليه يجب على الأب أن يرد هذا المبلغ الذي أخذه قرضاً لأولاده ولا يحلّ له أخذه إلاّ لنفقته إن كان محتاجاً.
رابعاً – هل الحديث يشمل الأم أيضاً ؟
الذي يدل عليه ظاهر الحديث أن هذا الحكم خاص بالأب، لأن الحديث ورد فيه ، وأن الأصل عصمة الأموال فلا يجوز تجاوزها إلاّ من دلّ دليل خاص على ذلك ، ولكن الراجح أن للأم الحقّ نفسه، وهو أخذ جزء من أموال أولادها عند حاجتها، وأن لا تصرفها إلاّ في مصالحها الحاجية، وذلك بدليل أن هذا الحديث علل بأن الأولاد من الكسب الذي تشارك فيه الأم أيضاً، كما أن حقها مضاعف (أمك، ثم أمك، ثم أباك) رواه الترمذي بسند صحيح (2/175)
هذا والله أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث