كان الدرس الأول من الدروس الحسنية الرمضانية هذا العام 1439هـ، يتعلق بالنفس الإنسانية وأثرها الاقتصادي، ألقاها أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، استنادا إلى قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.
إن النفس الإنسانية ملهمة بقوى واستعدادات وجدانية وعقلية وأخلاقية فطرية، يمكن لصاحبها أن يتجه بها إلى سلوك طرق الخير، تحكمه قيم أخلاقية تبعده عن الشر، وهذا هو الأصل الفطري.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وليس التقويم الأحسن مجرد شكل جسماني محسوس، وصورة جميلة مرفوعة الرأس، ولكن قوامه الأحسن أيضا هو فطرته وقوامه الوجداني والعقلي وما ينطوي عليه من استعداد للعلم والعمل.
ولكن يمكن أن تنجرف هذه النفس وتأمر بالسوء، وهي الصفة النفسية التي سماها القرآن بالنفس الأمارة بالسوء، وذلك إذا وقع انحرافها لأسباب اجتماعية وغيرها تصبح فاجرة في سلوكها، وشريرة في عملها وعدوانية في اتجاهها.
ويقول ابن خلدون إنه:” إذا فقد الإنسان دينه وخلقه فقد مسخت إنسانية”.
إذا انحرف الإنسان وفسدت نفسه، وتلوثت قيمه الأخلاقية أصبح كل شيء عنده مباحا لاختفاء ضميره الحي، وميزان عقله الذي يحكم سلوكه إذا انطفأ ذلك النور الذي يهديه سبل الخير، فأصبح أسفل سافلين، بمعنى أصبح يحكمه الجانب الحيواني، ويتصرف في شؤونه تصرفا حيوانيا أكثر منه إنسانيا.
ومن مظاهر ذلك الشح الذي تميل إليه النفس ويحضرها فتنساق إليه وتنجذب، ويسيطر عليها منع البذل، ولذلك سمى القرآن ذلك عقبة{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} من فك الرقاب من العبودية وإطعام الفقراء حين المسغبة، والجوع من اليتامى والمساكين.
وإذا شعر الإنسان بقوته وجبروته المالي أصابه الطغيان، سواء كان فردا أو دولة، وتاريخ الاستعمار في البلدان التي استعمرها، ويستعمرها اليوم أكبر شاهد على سلب خيراتها وإفقارها، وشن الحروب من أجل ذلك، باستعمال القوة، ولا هم للاستعمار إلا الثروات ونهبها عدوانا وطغيانا.
{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} والاستغناء يكون بالمال والقوة المسلحة وغيرها من الوسائل، وقد يطغى على الإنسان شهوة المال وجمعه وتعداده {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} يسكنه الدولار ويسعى لجمعه سعيا يفقده اتزانه وفطرته.
وما نراه من الفساد المالي في كثير من الأفراد والدول والذي يسميه القرآن السفاهة وفقدان الرشد {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} لعدم حسن التصرف فيها، وتنميتها.
ولذلك فإن سياسة المال العام وحسن إدارتها وتنميتها، وحفظها من التبديد سبيل من سبل قوة الدول وثرائها.
ونحن في العالم الذي يسمى بالنامي تأدبا، والثالث رقما لا نشكو من فقر في الإمكانات بقدر ما نشكو من فقر مدقع في منهج تدبيرها وحسن إدارتها، كما قال مالك بن نبي رحمه الله.
إذ يكثر الفساد المالي، الذي ينجر عن الفساد الخلقي ولذلك يعمل القادة المصلحون بقدر الإمكان للتصدي لهذا الفساد مثل ما نرى هذه الأيام في ماليزيا، لما شعر رجل في آخر عمره وتركه السياسية بتسرب الفساد إلى النظام السياسي تصدى له وعاد لإصلاح ما فسد، ورأب الصدع، وقد كان من قبل قد أصلح أمر شعبه ونهض به نهضة فائقة.
ونحن اليوم في أشد ما نكون حاجة إلى أمثال هؤلاء الذين يصلحون ما فسد، ويقفون في وجه المفسدين لأموال الأمة، لتزداد تخلفا وهوانا.
وتلهم شبابنا بالتقوى، وتبعدهم عن الفجور، وهو الفساد بكل ألوانه وأشكاله، ليحبوا وطنهم وأمتهم، ويعملوا على نهضة شعوبهم، حتى لا يعتقدوا أن الإبحار إلى العالم الآخر جنة، ويلقوا بأنفسهم إلى الانتحار في البحار ويعرضوا أنفسهم للطرد والإهانة.
فالتقوى في مفهومها الواسع اللغوي والشرعي إنما هي أن ننقي أنفسنا من كل ما يضر بها، امتثالا للقيم الدينية والأخلاقية، والفجور إنما هو انفجار الفساد، وطغيانه على شؤون الحياة الفردية والاجتماعية وفقدان الضوابط، والموازين في السلوك، ومن ذلك السلوك الاقتصادي والتصرف في الأموال، والأمانة، في المال العام، ومنع نهبه وضياعه، فإن ذلك من أفجر الفجور، وأفسد الفساد، والبلاء المبين. نسأل الله الرشاد، والوقاية من الفساد.