البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي

الرابط المختصر :

الحلقة [ 5 ] الفصل الرابع : العباسيون والدعوة الإسلامية

إن الذين ثاروا على بني أمية كانوا مسلمين يرون أن هناك تقصيرا في عمل الحاكم، وسوءا في سيرته. فهم ينشدون حكما أرضى لله، وأحنى على الأمة، وأدنى إلى تعاليم الكتاب والسنة …!

وقد ظهر العباسيون أول ما ظهروا بصبغة دينية ورغبة في تقوى الله ورعاية عباده، ترى هل حققوا ما ارتبط بهم من آمال؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال نقول: إن الإسلام حول العرب من جاهلية وبداوة إلى معرفة واستنارة، ثم اطرد سير الزمن فاتسعت الثقافة وتنوعت العلوم..

حتى جاء العصر العباسي فإذا العرب والمسلمون جميعا ينشئون حضارة زاهرة، ويتألق الفكر الإنساني في أرضهم تألقا لم يعرف في أية بقعة أخرى.

لقد كانت المسافة بين الأوربيين وأهل الإسلام ـ في العصر العباسى مثلاً ـ كالمسافة بين وسط إفريقية وعواصم الغرب الآن..

والفضل في ذلك لطبيعة الدين الذي ساد، ورست دعائمه، إن فى كتاب الله وتراث محمد صلى الله عليه وسلم ثروة من العلوم الإنسانية والنظرات الكونية والأصول الفكرية تحيي الأمم إحياء...

والمهم ليس في وجود هذه الثروة الطائلة، المهم هو في الإفادة منها وحسن توجيهها، إن المعادن قد توجد في الأرض جامدة وسائلة، ولكن من يستخرجها، ويشيد بها صرح الصناعة والتقدم؟

لقد جاء العصر العباسي بعد تاريخ حافل والأجيال الأولى في الإسلام مقبلة على دينها مشغولة بالدرس والعمل، وقد استطاعت أن تتخطى به دسائس النفس البشرية ورغباتها الدنيا، ثم ورثت هذه الدولة مقام الإسلام وتجارب كثيرة في الحرب والسلام، والخطأ والصواب. فلننظر ماذا صنعت بهذا كله.

إن الخلفاء العباسيين في جملتهم لم يكونوا أنضر مواهب، ولا أزكى مسالك من سلفهم الأمويين.. وقد جعلوا من قرابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة لجمع القلوب، ودعم السلطة ولكن القرابة من رسول الله لا تقدم متأخراً. ولا تشفع لمسيء…!!

ولما كان العباسيون قد ظلوا في دست الحكم أكثر من خمسمائة عام، فإن حال الدعوة الإسلامية على أيامهم المتطاولة يستدعي النظر من وجوه عديدة.. ماذا صنعوا مع الصليبية وهى العدو التقليدي المتربص وراء الحدود؟

لقد بقيت الحرب معها مناوشات خفيفة تدور في المناطق الواقعة بين الشام والأناضول. وربما استطاع المسلمون التوغل شمالا وغربا ثم سرعان ما يعودون، وربما هدد الروم حلب نفسها ثم سرعان ما يتراجعون..

ولم يتحرك المسلمون ببأس وغضب إلا عندما أسرت امرأة مسلمة في عمورية، فلما أهينت صاحت: وامعتصماه ـ تعنى الخليفة المعتصم بالله ـ وتضاحك الروم لصرخة المرأة المستضعفة ، بيد أن خبرها بلغ المعتصم ففزع من مكانه، وحشد الجند على عجل، وانطلق يشق النجاد والوهاد حتى بلغ عمورية فدمرها على من بها، واستنقذ المرأة العانية بعدما أدب الروم على جرأتهم أدبا بالغا !!

والحادثة لها دلالاتها خصوصا هذه الأيام التي يُذَّل فيها الجم الغفير من المسلمين دون أن يجدوا مغيثا..

رُبَّ وامعتصماه انطلقت! .. لم تصادف نخوة المعتصم !!

ويبدو أن العباسيين شغلتهم شواغل أخرى عن الإعداد للصليبية المتربصة حتى دهمتهم آخر الأمر في زحف لا ينقطع مدده أشعل الحرب في ديارنا قرنين كاملين. ما هذه الشواغل؟ لا ندري..!

وعندما نتجه إلى الشرق ناحية الهند والصين نجد جهد العباسيين لا يكاد يبين مع أن الإمكانات المادية والأدبية للدولة كانت تقرب البعيد..

ولا يعني ذلك أن الإسلام توقف في هذه الأقطار، لا.. إن الدويلات التي انبعثت من كيان الدولة قامت بأعمال كبيرة في هذه الأقطار، كما أن الجهود الذاتية للأفراد والجماعات أدت واجبها حتى إن ثلث الهند أسلم، وجمهوراً كبيراً من أهل الصين .

غير أننا نجزم بأن هذه النتائج أقل مما كان يمكن تحصيله لو أن الخلافة العباسية شعرت بحقوق الدعوة ورسمت لها سياسة مدروسة.

والألوف المؤلفة من الهنادك والبوذيين وأمثالهم من عباد الأوثان ليس من الصعب تبصيرهم بحقائق الإسلام.

وربما دخل المنبوذون سراعا في دين الله واستراحوا إلى عقيدة تصحح تفكيرهم وتحترم وجودهم لو أن المسلمين في عصرهم الذهبي قاموا بهذه المحاولات.. لقد ترك أولئك الهمل حتى وضعت الماركسية يدها عليهم.. بعد ما أخذت الصليبية منهم عدداً غير قليل ..!!

والبلادة التي أصابت المسئولين في الدولة العباسية بقيت أمداً مدهشا، إنها لم تبق أربعين أو سبعين سنة، بل بقيت أكثر من ثلاثة قرون.

زمان مديد لو كان أعداء الإسلام فيه متفرقين لتجمعوا ، لو كانوا عاجزين لقدروا، لو كانوا يائسين لأملوا وطمحوا.. وذاك ما حدث، فإن الهجوم المرتقب جاء آخر الأمر من الشرق والغرب فكان ما كان.

ماذا كان يشغل الخلفاء فى هذا الدهر الطويل؟ إن المؤرخين يقسمون العصر العباسي قسمين، ويرون أولهما أنضج وأرقى في مجال العلم والأدب والحكم، ويرون الثانى عصر استرخاء وذهول..

وهذا التقسيم أدنى إلى الصحة إذا نظرنا إلى وحدة الدولة، ومهابة الخلافة، واستبحار العمران، واتساع الثقافة، لكننا ـ على ضوء الدعوة ومتطلباتها ـ لا نرى بُدًا من تسجيل ملاحظات شتى على كلا العصرين..

( 1 ) لا ندري ما الذي جعل المسلمين يشوبون علمهم النقي بعلوم أخرى سقيمة رخيصة؟

إن نهر المعرفة الإسلامية شق مجراه في أنحاء الدولة، فروى جدبها وأحيا مواتها وجعل المسلمين أرجح كفة في الإلهيات والإنسانيات، وميزهم بفقه لا نظير له في الدقة والصدق والاستيعاب والشمول..

وتمت في القرنين الثاني والثالث علوم الدين واللغة، وصحب هذا التمام صحو في الفكر الإسلامي من أثر التزامه لكتاب الله وسنة رسوله، وقيل بحق: إن المجتمع الإسلامي أرقى مجتمعات العالم.

لكن الغنى الواسع الثروة في الحقائق، قد تصيبه لوثة فيبحث عن الخرافات في مظانها، ويستقدمها لتزاحم ما عنده.

وهذا ما فعله العباسيون عندما شجعوا الترجمة، وأخذوا ينقلون تراث اليونان والسريان والفرس وغيرهم إلى اللغة العربية.

وراجت سوق المنقولات الأجنبية حتى خيل إلىَّ أن بعض العرب ألف من عند نفسه أشياء ليست من التراث الأجنبي إلا في العنوان، وتقدم بها ليربح ويعيش.

إنني أرحب بنتائج العقل الإنساني الناضج، وأقدره، ولكنني لا أزاحم به وحي السماء، ولا أستحمق فأنقل تراب الأفكار وأزعمه تبراً لأنه يحمل اسم فلان الفيلسوف، أو فلان الأديب..

لكن ذلك ما وقع، فكان عصر الترجمة شرا كبيرا على الثقافة الإسلامية. وقد نهضت عناصر المقاومة في الكيان الإسلامي كما تنهض الكرات البيضاء في الدم للاشتباك مع العلل الوافدة. ولا نزعم أن النجاة كانت كاملة.

إن هذا الغزو الذي جلبناه بأيدينا بقيت له آثار رديئة في بعض المؤلفات الدينية.

والغريب أن المحافظين تطيروا من كل مجتلب على تراثهم العربي فتجهموا لمنقولات لا بأس بها يمكن أن تزيد بها التجربة البشرية في نشدان الحق وطلب الكمال، وتلك عقبي الإسراف والإفراط.

( 2 ) كان أشد النواحي الدينية استقبالا للغزو الأجنبي علم الكلام والتصوف، ولا يصعب أن تميز الدخيل من الأصيل في هذه الميادين، إلا أن المزج يبلغ أحيانا درجة كبيرة من المهارة ، فإنكار المعتزلة لصفات المعاني تأثروا فيه بتفسير أرسطو للوحدانية المطلقة ، لقد ظل أرسطو يشرح الوجود الإلهي الأعلى، وينزه هذا الوجود من كل شيء إلا التأمل الذاتي.. فالإله ـ من ذاته ـ يعلم ويقدر ولا شيء إلا الذات.

وكلام أرسطو لا يسلم له، وفيه مبالغات ظاهرة ومع ذلك فإن بعض علماء المسلمين مالوا إليه، وقالوا: إن القول بوجود الصفات قول بتعدد القدماء، وعقدوا مباحث سخيفة لهذه القضية ‍‍!!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍وشغلوا بها جمهور الأمة.‍‍‍‍‍‍‍‍‍

ولأرسطو منطق ذكي يساعد على الجدل، ولا تزيد به المعارف الإنسانية، وقد رحب المسلمون ترحيبا حارا بهذا المنطق، حتى جاءت الحضارة الحديثة ‍‍‍!! فأنزلته عن عرشه .

ثم إن التصوف الإسلامي تأثر بالتصوف الهندي، والتصوف النصراني، وبعض الأفكار الإغريقية، ومن السهل أن تذم الدنيا بحجة الإقبال على الآخرة، وأن تحارب الجسد بحجة الإقبال على الروح، وأن تقبل مبادئ من وحدة الوجود بحجة الاستغراق فى وحدة الشهود.

وقد حمل علم التصوف جملة من هذه الأخطاء النفسية والفكرية وأشاعها بين جمهور المسلمين، وكان له أثر عميق في بلبلة العقل الإسلامي ومخاصمته للفقه الموزون.

وأعان التصوف على بلوغ هذه الغاية إخلاص رجاله وحماسهم، وغلبة الصناعة والارتزاق على نفر من أهل الفقه والفتوى..

والغريب أن خرافات الفلسفة الإلهية عند الإغريق وغيرهم تبناها بعض المفكرين العرب، فوجد بينه من يقول بالأفلاك والعقول والعنقاء والغول !! تقليدا لليونان، والموضوع كله هزل.

أين كانت الخلافة العباسية في أثناء الهجوم على الفكر الإسلامي بهذه الطريقة الوضيعة؟ لم تكن تكترث بالنتائج! وعندما تحركت الخلافة تحركت لتنصر انحراف المعتزلة في بعض القضايا الكلامية، وأمرت بسجن وجلد ابن حنبل الذي كان يعتبر زعيم المحافظين في ذلك الوقت...

على أن علماء الإسلام ووراءهم السواد الأعظم من الأمة قاوموا هذا الغش المفروض على ثقافتهم الدينية مقاومة ناضجة.

وأمكن حصر الإسرائيليات والنصرانيات والإغريقيات وكل القمامات الفكرية التي أرادت الالتصاق بالرسالة الخاتمة وتم تحذير الناس منها..

والواقع أن أصول الإسلام بقيت معصومة، غير أننا لا ننكر أن أوهاماً ومبتدعات ومرويات واهية وآراء سقيمة لا تزال تحيا بين ظهرانينا ما يبصرها إلا أولوا النهي..

( 3 ) للعلماء من الناحية الشعبية مكانة موطدة، فهل لهم مثل هذا التوقير في المجال الرسمي.

عندما أرى وفيات الأئمة الأربعة، ومن يليهم من العلماء الراسخين أحس أن الفجوة عميقة بين الأمة وحكامها..

إن رجلا من رجال العلم كأبي عبد الله البخاري نَبَتْ به الدار لأن الأمير منحرف عنه ‍‍!!

وما هذا الأمير؟ شخص مكنته ظروف مبهمة أن يملك السلطة، فإذا اصطدم بالذكاء والرسوخ الفقهي تلاشي من أمامه كل شيء.

إن هذا منطق الغابات في رسم العلاقات بين الحيوانات..

وأعرف أن يحيى بن زكريا عليه السلام طار رأسه من فوق منكبيه لأن الحاكم أمر. وقد أمر الحاكم لأن امرأة جميلة رأت هذا، فليكن ما رأت !!

لقد اقشعرت الإنسانية من سير الأمور على هذا النحو. وأقامت ضوابط كثيرة لصيانة الدماء، دماء العوام فضلا عن دماء العباقرة.

إن الأمم الكبيرة ليست كبيرة بأعدادها، وإنما هى كبيرة بإنتاجها العقلي وسبقها الحضاري، وهذا وذاك لا تصنعه الدهماء. إنما تصنعه العبقريات الرائدة والبصائر النفاذة، فأية مصيبة تجرها الأمم على نفسها يوم يجلد الأئمة ويسجنون، ويظفر بالتكريم والتنعيم ذوو الهمم القاعدة والغرائز الناشطة؟؟

إن العباسيين أساءوا إلى أنفسهم وأمتهم بهذا المسلك، ولا يزال كثير من الحكام يربط توقيره للعلماء بمدى ولائهم له. وتقديرهم لشخصه، فإذا فتروا أو انحرفوا تنكر لهم ونال منهم.

وكان العباسيون ـ صدر دولتهم ـ يحترمون العلماء، ولا عجب فقد قاموا باسم الإصلاح الديني لعهد اتهموه بفساد كبير..

ويذكر التاريخ أن أبا جعفر المنصور اعتذر أشد الاعتذار لمالك إمام دار الهجرة لما اعتدى عليه الوالي بالضرب، وكاد يكسر ذراعه... وقبل مالك العذر، واستأنف تدريسه كما كان.

ويذكر التاريخ أن أبا يوسف التلميذ الأول لأبي حنيفة ـ عين قاضيا للقضاة أيام لرشيد ووجد الرجل لعمله مكبرين ومنتفعين!

إلا أن هذا المسلك لم يطل ولم يعم، وكأن الدولة لا تمنح تقديرها وإعزازها إلا لمن يوافقونها على ما تفعل أو يلوذون بالصمت إذا حدث ما يوجب الاعتراض والجؤار.

( 4 ) الإسلام دعوة عالمية، والأمم التي تدخل فيه كثيرة. وبديه أن يكون العرب ـ أعنى الناطقين بالعربية ـ أهله الأقربين لأنهم فكره ولسانه.

وهذا لا يعنى افتياتاً على الأجناس الأخرى، فإن المسلمين إخوان مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم. والقاعدة الموطدة التي لا يشغب عليها أحد: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".

والجماعة الإسلامية تقوم بعملين يكمل أحدهما الآخر، ولا يغني عنه. فهي تقرب لغة القرآن والسنة من أهل الأرض، وتنشر العربية بحماس وذكاء.

وهي في الوقت نفسه تتعرف على الأجناس الأخرى، ولغاتهم، وشئونهم المادية والأدبية، وترى ذلك من صميم جهادها.

إن تذويب الفوارق بين الشعوب التي دخلت فى الإسلام فريضة قائمة إلى آخر الدهر. واستحياء أى عصبية جنسية ضرب من الجاهلية الأولى، وخروج على دين الله القويم.

وقد أحس الفرس أن العرب اجتازوا دونهم السلطة، فظاهروا على الحكم الأموي أهل البيت المعارضين له، وأمكنتهم الفرص من إسقاط السلطة الأموية..

وجاء العباسيون يعلنون أن دولتهم سوف تكون أقرب إلى تعاليم الإسلام ولا يفيد ذلك أن تكون مقاليد الأمور بيد الفرس.. لكن الفرس هم أصحاب الدالة على الحكم الجديد، ومن حقهم ـ وعلى سيوفهم قام ـ أن يتصدروا ويقودوا..

وقد مشت الدولة معهم حيناً، وغدرت بهم حينا، ولم يكن لرجالها من التجرد للمثل ما يضع الحق في نصابه، وينسى كل جنس نعرته المقيتة. فتنافس التياران الفارسي والعربي في الاستئثار بالسلطان والاستكثار من الأتباع.

ويجب أن نذكر أن ذلك التحزب برز وقوي بين القريبين من الحاكم، والطامعين في مغانمه. أما جمهرة الأمة والسواد الأعظم من المسلمين فقد كانوا وراء الأئمة والعلماء والعباد، يملأون صفوف الصلاة، ودروس العلم وأسواق التجارة وأكناف البادية والحضر، وكأنهم يرون أن " السلطان من لا يعرف السلطان "...

لكن إغراءات الحكم قوية، وكذلك نداء الدم، وقد اشتد النزاع بين العرب والفرس فجاء أحد الخلفاء وأراد ترك الفريقين معاً والاستظهار بجنس آخر فاستعان بالترك...

وهذا الاتجاه لا يحل المشكلة، فمع ضعف مشاعر التقوى، وضعف الروابط التي تمسك الناس بالدين، ستزداد النار اشتعالا، وينضم إلى الوقود القديم حطب جديد..

وقد جنى العباسيون عواقب هذا التخبط فكانت القرون الأخيرة من حكمهم بلاء هدم أشخاصهم بقدر ما هدم من قيم الإسلام.. !

عندما يكون الحاكم مثلا حيا لقوله تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).

وعندما يكون تجسيداً لقول الرسول الكريم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "

عندئذ تكون طاعته ديناً، يهرع إليه أشراف الجنس الأبيض ولو كان هو من مجاهل إفريقية.. لكن عندما يكون أبيض الجلد، أسود القلب والسيرة ، فهيهات هيهات ولو قال إنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا ريب أن العصبيات المتناحرة كانت من أسباب انهيار الخلافة العباسية.

( 5 ) نحن نعجب بمعيشة عمر بن الخطاب التي تقوم على الزهد والشدة، ولكننا نحب معيشة عثمان بن عفان القائمة على النعومة والدعة، ولسنا بصدد المقارنة بين رجلين من كبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكلاهما خليفة راشد سبق له الرضوان الأعلى..

والذي نؤكده أن أحدهما لم يرزأ المسلمين شيئا من مالهم: وأن عثمان إن توسع في نفقته فمن ماله الخاص.

والرجل ذو جدة في جاهليته وإسلامه وله سبق في الصدقة والنفقة على مطالب المسلمين.

لكن حكام المسلمين في دولتي أمية والعباس توسعوا في أموال الأمة وأترفوا في معايشهم، وكانت لهم مسالك في المال العام يرفضها الفقهاء ويعترضون عليها سراً وعلنا.

وترف الأمويين كان مصطبغا بالطابع العربي ـ فيه قرب وبساطة، أما ترف العباسين فقد اصطبغ بالطابع الفارسي، واستحيا فى فنونه تقاليد الأكاسرة وتشبعهم من أنواع اللذة.

ومع إقبال أولئك الخلفاء على الدنيا تألفت أعداد من الأسر الحاكمة تؤخذ منهم الأسوة السيئة، وأعداد أخرى من الأتباع المولعين بتقليد الأكابر، والعيش فى حواشيهم.

فشاع الترف في المجتمع، وتقلصت تقاليد الصلاح والتقوى، وانكمشت مظاهر الجهاد والإعداد، أو حمل عبئها أهل الطبقتين الوسطى والدنيا. أما الجهاز الحاكم ومن يدور في فلكه فله شأن أخر ترفضه تعاليم الإسلام جملة وتفصيلا..

والغريب أن الخليفة كان حريصا أن يلقب بابن عم رسول الله ‍!! الرسول الذي مات ولم يتشبع من طعام قط، والذي كان تمر الشهور ببيته ما توقد نار تحت قدر، إنما هما الأسودان: التمر والماء. أين وجه الشبه بين حاكم بغداد وبين الرجل الذي كان يرقع ثوبه. ويخصف نعله، ويحيي ليله قائما لله!

إن الترف المتوارث أفسد الحكم والأمة، وكان له رد فعل عجيب. فإن أهل الإيمان لما رأوا هذه الشهوات الجامحة ألفوا مجتمعا آخر، زاهدا في الدنيا معاديا لشهواتها أنسحب من الحياة واعتزل ضجيجها .

وفي هذا الجو ولد التصوف ونما، فكان الفعل ورد الفعل معا إساءة للإسلام، لأن الانسحاب من الحياة، واطراح مطالبها، يمكنان للظلمة، ويضعفان جانب الحق..

وقد توقحت المعصية وكلح وجهها ـ فعندما اعترض أحد العلماء على مديح أبي نواس للخمر، وزجره عن شربها أرسل قصيدته التي جاء فيها:

فقل لمن يدعى في العلم معرفة .. حفظت شيئا، وغابت عنك أشياء

ترى ما هى الأشياء التي غابت عن رجل الدين لما حارب الخمر وطارد شربها؟ أو ليس مزعجا ومذهلا في جو إسلامي رحب أن يتغنى مخنث كأبي نواس بمزايا الخمر فيقول مفتتحا القصيدة الآنفة:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء .. وداونى بالتي كانت هى الداء‍‍‍‍‍‍‍!!

قد يفهم هذا الكلام في لندن أو موسكو! أما فى بغداد قصبة الخلافة الإسلامية، فذلك نذير انهيار لا يزال يمور حتى يستقر في قعر جهنم بالسكارى ومن تغاضى عنهم..

ونعود فنؤكد أن هذا الفساد كان في القشرة التي تتولى السلطة، أما الأمة نفسها فإنها ظلت على تحريم الحرام، وتحقير المنكر، وموالاة العلماء، والاحتشاد حولهم، واعتبار المترفين مجرمين مهما كانت مكانتهم...!

لقد كان الخليفة العباسي يموت ـ وربما زهقت روحه على أيدي حاشية ـ فما يتبعه إلى قبره أحد، أما أئمة الدين فإن سكان بغداد كلهم كانوا يتبعون جثمان أحدهم إذا مات.

وقد خرجت العاصمة كلها وراء أحمد بن حنبل، وأدرك الناس صلاة العصر آخر الوقت لاشتغال الألوف المؤلفة بتشييع الجنازة التي ملك صاحبها القلوب.

***

أحوال الدعوة فى العهد العباسى الأخير:

وهَى سلطان الخلافة، وذهبت مهابته. وقامت دويلات إسلامية كثيرة في الشرق والغرب تحكم تارة باسمه، وتارة تتجاهله أو تعاديه.

ولنذكر أنه قامت في غرب العالم الإسلامي خلافة أموية قوية لم تعترف بالعباسين، ومشت وحدها تخدم الإسلام بأسلوب لم يختلف في مباديه ولا نهاياته عن أسلوب العباسيين …!!

والحديث عن دولة الإسلام في الأندلس له ذيول طوال، وذو شجون قابضة كئيبة، لقد بدأ الأمير الغريب عبد الرحمن الداخل رجل دولة موفور الدهاء والمضاء، وظل المسلمون غرب البحر الوسيط أعصارا، وهم يرفعون لواء الإسلام، وزهت هنالك حضارته، وأضاء منارها حتى بحر الشمال.

ولكن الذين كانوا لله خلائف سرعان ما تحولوا إلى ملوك طوائف، يبحثون عن اللذات، ويتحركون بالعصبيات ، ويتنافسون في المباني والزخارف، وانتهى من حياتهم ذكر القيم الأولى، وذكر الأجداد الكبار، والأسلاف الدعاة الرعاة.. فانفجرت أهواؤهم براكين قضت عليهم قبل أن يقضي عليهم زحف الكاثوليك المتربصين...

وقد لفتت ألقابهم الطنانة وحقائقهم الفارغة نظر المتنبي فسخر منها لكن هل كانت هذه النقائص وقفاً على الأندلس؟ كان الشرق الإسلامي والغرب الإسلامى سواء فى هذه المهازل.

إنه في بغداد نفسها كان اسم الخليفة يتضاءل أمام أسماء رجال آخرين استلبوه الحكم، وأملوا عليه ما يشاءون.

وضربت الفوضى بأطنابها في أجهزة الدولة العليا، فلا عجب إذا تحرك أعداء الإسلام في الداخل والخارج، وكالوا له ضربات شدادا، ونالوا منه أسوأ منال.

تحرك الصليبيون في جحافل جرارة، وأوقعوا بالأمة الإسلامية هزائم نكراء، وقد أثبت التحقيق العلمي أن الخلافة العباسية والفاطمية لم تبذلا جهداً يذكر في مقاومة هذا العدوان، وأن الشتات الذي حل بالدولة كان السبب الأوحد في تلك الهزائم.

ولم يقف الهجوم الصليبي عند أخذ القدس والمسجد الأقصى، بل إن البرتغاليين عن طريق الدراسات الجغرافية والجرأة النفسية عرفوا طريق رأس الرجاء الصالح والتفوا حول قارة إفريقية ليصلوا إلى جزيرة العرب من الجنوب، ويبنوا لهم حصونا في البحرين ، والحكومات الإسلامية تغط في نومها!.

وقد حاول " ماجلان " ـ المكتشف الأوروبي الصليبي ـ بعد ذلك أن يضع علم المسيحية على الجزر التي بلغها جنوب شرق آسيا، لولا أن أفراداً من المسلمين منعوه وقتلوه ـ والحكومات الإسلامية لا تدري قليلا ولا كثيراً، عما يراد للإسلام وأمته..!

إنه ذهول فاجع جعل الغفلة التامة تسيطر على الأعصاب والأفكار، وعجزت الدولة ـ أو الدول الكثيرة ـ المنتمية إلى هذا الدين أن تدرك ما يفعل أعداؤها أو ما يبيتون.

ووضع القدر حدا صارما لهذا الاعتلال، فسقطت الخلافة العباسية تحت أقدام التتار في منتصف القرن السابع..

ولا بد للباحث المصنف من التفريق بين أجهزة الحكم وأحوال الأمة نفسها.. فإن العفن الذي ضرب فى القشرة نفسها لم يصل إلى اللباب...

ظلت المساجد والمدارس وجماعات من العباد والزهاد وأولى الفقه والغيرة، وجماعات من التجار المقيمين والرحالة المتنقلين، ظلت أجهزة كبيرة فى الأمة تؤدي عملها بنشاط أو كسل.

ولما كانت الدعوة إلى الله في دم كل مسلم، وتوسيع دائرة الإسلام أملاً لكل من يتقرب إلى الله، فإن دار الإسلام ـ مع الخلل في أساليب الحكم ـ اتسعت أرجاؤها، وزادت أعداد الداخلين في الإسلام حتى شملت شرقا الجزر الكبيرة بين المحيطين الهادي والهندي ـ إندونيسيا وما يسمى الآن بالفلبين ـ وحتى استوعبت غربا شواطئ الأطلسي وما يلى الصحراء الكبرى في إفريقيا: غانا وغينيا ونيجيريا.

وتغلغلت الدعوة في الهند ،والهند الصينية ،والصين، كما زحفت شمالاً فوق القوقاز وبلغت في أوروبا الغربية جنوب فرنسا ومناطق من سويسرا، وجميع جزر البحر الأبيض تقريبا بما في ذلك صقلية وجنوب إيطاليا.

***

أمور لا بد منها :

والدعوة الإسلامية لتبلغ أهدافها تحتاج إلى أربعة أمور:

أولا : منع الفتنة، أو بتعبير أوضح منع الإرهاب المحلي أو الدولي من تقييد الدعاة وتكميم أفواههم، فإذا انتفت الفتنة امتنعت الحرب..

ثانيا: عرض الدعوة على الجماهير عرضا صحيحا يغري ذوي الطباع السليمة بقبولها.

ثالثا: نشر الثقافة الإسلامية على نحو يرسخ مفاهيم الدعوة، ويخلطها بمعالم البيئة، ويضم الأجزاء الجديدة إلى جسم الأمة الإسلامية الكبيرة فلا يتميز قديم من حديث...

رابعا: النظر فيما بذل من جهود وفتح من آفاق، وما تم من تقدم، هل بلغ ذلك مداه وفق الخط الإسلامي المرسوم ؟ وهل جدَّت عوائق جمدت الحركة الإسلامية أو أرهقتها ونالت منها..

إن الفلاح يرمق مزرعته قبل الحصاد وبعده، وللتجار وقفات كل عام أمام دفاترهم يعرفون الربح والخسارة...

والداعية المسلم يقدم للناس وحى الله، ويتعرف على مدى ارتباطهم به وانتفاعهم منه.

نعم.. إن الداعي ليس تاجرا يعرض سلعة فإذا أخذ ثمنها ذهب في طريقه، كلا.. إنه يعرض الدين ليؤاخي الداخلين فيه، ويمزجهم بكيانه المادي والأدبى .

وأذكر ـ وأنا أزور أوغندا ـ أن كبيرا لإحدى القبائل قال لي: لقد جاءنا آباؤكم بهذا الدين، فلِما جئتمونا به إذا كنتم ستتركوننا بعده؟ ما هذه القطيعة؟ ما يجيئنا من لدنكم دعاة ولا فقهاء ولا مدرسون!!.

‍‍ وأذكر أنني شعرت بالخجل أو بالخزي وأنا أستمع إلى هذا القول الصحيح.

إن العمل، والمتابعة بعده، هما سر النجاح. وذلك لا تقوم به إلا حكومات قائمة أو هيئات دائمة، والجهد الفردي هنا يعد نجاحه شذوذا بل نجاحه بعيدا إذا قاومته مؤسسات رسمية أو شعبية مستقرة.

وعلى أية حال فإن الإسلام شرَّق وغرَّب في أنحاء العالم مع استرخاء خلافته أيام الترف العباسي، وانقسام السلطة السياسية بين حكومات كثيرة . ولكن المسلمين في كثير من الأقطار التي استجابت للدعوة، لم يجدوا المتابعة الواجبة المستمرة، خصوصا الأطراف النائية، فنشأ عن ذلك: من الناحية العلمية شيوع للبدع والخرافات. ومن الناحية النفسية إحساس بالانقطاع والوحشة.

وحاول أولئك المسلمون المهملون التغلب على هذه العزلة السيئة فكان ألوف منهم يستميتون في أداء فريضة الحج، ويتجشمون السفر من الملايو وإندونيسيا وبقية الجزر الإسلامية ـ التي سميت بعد بالفلبين.

ذاك في شرق العالم الإسلامي، أما في غربه فإن الوضع نفسه يتكرر، فيجيء المسلمون من داكار، ولاجوس، كما يجيئون من مدغشقر وزنجبار. فهل استغل مؤتمر الحج للم الشمل، ووصل ما أمر الله به أن يوصل؟

إن أعداء الإسلام استغلوا هذا التفريط من المسئولين عن الإسلام وسيره فى أرض الله، فوثبوا على الأماكن القصية واقتطعوها، وضموها إلى عالم التثليث أو الإلحاد .

كانت جزائر الهند الشرقية وراء جاوة وسومطرة قد عمرت بالإسلام فوثب عليها الأسبان وغيرهم من المغامرين الأوروبيين، ووضعوا عليها اسم فيليب الثاني وشرعوا في تنصيرها، وظلوا يقومون بعملهم فى دأب واستغفال لجمهرة المسلمين، حتى جاء هذا القرن، ولم يبق إلا عشر الفلبين فقط باقيا على دينه!! ومستقبلهم ومستقبل الإسلام معهم هناك موكول إلى السيف والنار.

وقد وضعت خطة مشابهة للقضاء على دين التوحيد في جزائر إندونيسيا والخطة تكرار لمحو الإسلام من الأندلس، ثم محاولة محوه من جنوب أوروبا ودول البلقان. أي أن ما وضع من خطط يقوم على خطف الأطراف تمهيدا لضرب القلب نفسه.

ونحن ما نحمل العباسيين هذه النتائج البعيدة، وإنما نبحث عن العلة من نشأتها الأولى، وسوف نتحدث عن مضاعفاتها فيما بعد..

وعجز الخلافة في بغداد عن نشر الدعوة، وحمايتها، ورعاية الشعوب التي دخلت فيها، وإمدادها بأسباب البقاء والنماء أعطى أعداء الإسلام في أوروبا وآسيا فرصا ثمينة للنيل منه.

وقد انحلت الخلافة العربية عن دويلات كثيرة وأجناس كثيرة، وتمهد. الطريق لخلافة كبري من جنس آخر، من الترك..


: الأوسمة



التالي
فترة الصيف فرصة لتربية الأهل و الأولاد على ما يرضي الله
السابق
الاتحاد ينعي العالم والمفكر الإسلامي البروفيسور أبو أحمد اسحق بن أحمد فرحان رئيس مجلس إدارة ملتقى القدس الثقافي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع