نبدأ هنا بتعريفات مناسبة وسريعة، لبعض المفاهيم المهمَّة في بحثنا، مثل: الجهاد، والقتال، والحرب، والعنف، والإرهاب. وإن كنا سنشبعها بحثا في مواضعها بعد ذلك.
( 1 ) الجهاد :
مصدر: جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة. ويعني لغة: بذل الجُهد، أي الوسع والطاقة، أو تحمُّل الجَهد، أي المشقَّة. وقد ذُكرت الكلمة في القرآن باشتقاقاتها المختلفة (34) أربعا وثلاثين مرة.
وقد اشتهر بالاستعمال في القتال لنصرة الدين والدفاع عن حرمات الأمة.
ولكن سنتبيَّن فيما بعد: أن الجهاد - كما جاء في القرآن والسنة – أوسع دائرة وأبعد مدى من القتال، وقد قسَّمه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) إلى ثلاث عشرة مرتبة.
فهناك جهاد النفس والشيطان، وجهاد الفساد والظلم والمنكر في المجتمع، وجهاد المنافقين، وجهاد الدعوة والبيان، وجهاد الصبر والاحتمال، وما سمَّيناه (الجهاد المدني)، وهناك جهاد الأعداء بالسيف.
وسنتحدَّث بتفصيل عن هذه الأنواع في الباب الثاني من هذا الكتاب. وإن اختزل الكثيرون – للأسف – هذه الأنواع المختلفة للجهاد في القتال وحده .
( 2 ) القتال :
القتال هو الشعبة الأخيرة من شُعَب الجهاد، وهو القتال بالسيف، أي استخدام السلاح في مواجهة الأعداء، وهو مفهوم كلمة (الجهاد) عند الكثيرين. هذا مع أنه مختلف في اشتقاقه وفي معناه اللغوي عن الجهاد.
فهو - من ناحية الاشتقاق - مصدر: قاتل يقاتل، قتالا ومقاتلة.
وهو - من ناحية المعنى - يغاير معنى الجهاد، فإن معنى (قاتل) غير معنى (جاهد)، فالقتال من القتل، والجهاد من الجهد (بفتح الجيم وضمها)
وقد ذُكرت كلمة (القتال) ومشتقَّاتها في القرآن حوالي (67) سبع وستين مرَّة.
ولا عبرة بالقتال شرعا إلا إذا كان في سبيل الله، وهو قتال المؤمنين، كما أشار إلى ذلك القرآن: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76[
وكما جاء في الحديث المتَّفق عليه: "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" .[1[
وإذا فُرِّغ القتال من هذه الأهداف وتلك الدوافع لم يعد من الجهاد في شيء، مثل ما جاء في صحاح الأحاديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"! قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه" .[2[
"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" .[3[
"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" .[4[
ونستطيع أن نقول بلغة علماء المنطق: بين الجهاد والقتال عموم وخصوص مطلق، فكلُّ قتال جهاد إذا توفرت فيه النية المشروعة، وليس كلُّ جهاد قتالا.
( 3 ) الحرب :
الحرب: استخدام السلاح والقوة المادية من فئة ضد أخرى. قد تكون هذه الفئة قبيلة ضد قبيلة، أو أكثر، أو مجموعة قبائل ضد مجموعة أخرى، أو دولة ضد دولة أو أكثر، أو مجموعة دول ضد أخرى.
ويختلف مفهوم (الجهاد) عن مفهوم (الحرب): أن الجهاد مفهوم ديني، يختلف من حيث أهدافه ودوافعه، ومن حيث أخلاقياته وضوابطه، بخلاف (الحرب) فهي مفهوم دنيوي، وجدت في الجاهلية، ووجدت في الإسلام، ووجدت في شتَّى الأمم، وشتَّى العصور. وكثيرا ما يكون الهدف من الحرب الهيمنة على الآخرين، أو قمعهم وإذلالهم، أو الاستيلاء على ثرواتهم، أو غير ذلك، في حين أن الجهاد لا يقبل شرعا إلا إذا قُصد به أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي الحقُّ والعدل، وتحقيق الكرامة والأمن والحرية للبشر، حتى لا يكون بعضهم لبعض أربابا من دون الله، إلا إذا وصفنا الحرب بأنها (إسلامية) فتكون بمعنى (الجهاد(
والقتال – الذي يعني المواجهة العسكرية – ليس هو الحرب بمفهومها اليوم، فالقتال ليس من ضرورات الحرب المعاصرة، وإن كان لا يُستغنى عنه، وذلك أن القتال يعني مواجهة بين طرفين، وفي الحرب اليوم قد لا يوجد إلا طرف واحد يرمي بقنابله الذكية والعنقودية، وبصواريخه الموجهة أو العابرة للقارات، والطرف الآخر يستقبل الضربات القاتلة والمدمِّرة ولا يملك إزاءها شيئا.
والأصل في الحرب: أنها (عسكرية) يستخدم فيها السلاح بكلِّ أنواعه. ولكن عرف عصرنا ألوانا من الحرب، منها: الحرب الثقافية، والحرب الإعلامية، والحرب الاقتصادية، والحرب النفسية، وقد أُلِّفت فيها كتب شتَّى.
والمفروض في الحرب أن يكون أحد الطرفين محقًّا عادلا، والآخر مبطلا ظالما، وقد يكون كلاهما ظالما، كما قال أحد السلف: يدفع الله ظالما بظالم، ثم ينتقم من كليهما! وقال الآخر: اللهم اشغل الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين!
كما أن المفروض فيها: أن تستمرَّ مدَّة من الزمن، قد تقصر أو تطول. كما كانت حروب العرب في الجاهلية، مثل (حرب البَسُوس) بين بكر وتغلب، التي استمرَّت أربعين عاما، أُريق فيها من الدماء ما أُريق.
ومثل الحرب العالمية الأولى التي استمرَّت من 1914م إلى 1919م، والحرب العالمية الثانية التي استمرَّت من 1939م إلى 1945م.
وقد ذُكرت الحرب في القرآن ست مرات، ففي سورة المائدة في حديث القرآن عن اليهود: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:64[
والتعبير موحٍ بأن الحرب أشبه بالنار المحرقة، وأن اليهود يريدون إيقادها والله يطفئها، كما أن القرآن ربط ذلك بالسعي في إفساد الأرض.
وقد قسَّم فقهاء المسلمين العالم إلى دور مختلفة، لكلِّ دار حكمها. فهناك دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد. والناس: إما مسلم أو (حربي) محارب أو معاهد.
والغربيون من قديم يقدِّسون الحرب، حتى إن الإغريق كرَّسوا الإله (آريس) إلها للحرب[5] . وكذلك فعل غيرهم من الشعوب.
والإسلام لا يرحِّب بالحرب، ولا يلجأ إليها إلا مضطرًّا، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وإذا انتهت المعركة بغير قتال ولا دماء، كما في غزوة الأحزاب، عقَّب عليها القرآن بمثل قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25[
والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر كلمة (حرب) من المفردات الكريهة عنده، حتى قال: "أقبح الأسماء: حرب ومُرَّة" [6[
وعند النصارى والغربيين: هناك ما يُعرف باسم (الحرب المقدسة). كالحرب التي شنُّوها لإبادة المسلمين في الأندلس، والحروب الصليبية التي استولَوا بها على القدس وفلسطين نحو قرنين من الزمان.
والحرب في عصرنا قد تطوَّرت تطوُّرا هائلا، من حيث مساحة المعركة، ومن حيث المشاركون فيها من عسكريين ومدنيين، ومن حيث الأدوات الجهنَّمية التي أصبحت تستخدم فيها، منذ نجاح الإنسان الغربي في الثورة الصناعية الأولى، ثم في الثورات العلمية الجبارة الحديثة: الثورة الإلكترونية، والثورة التكنولوجية، والثورة الفضائية، والثورة البيولوجية، والثورة النووية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات، مما مكَّن الإنسان من القدرة على تدمير الحياة والأحياء بإمكاناته المذهلة في وقت قليل، وهو ما وقع بالفعل من أمريكا - أكبر قوَّة عسكرية وعلمية واقتصادية في الأرض - مع خصومها، ولا سيما في اليابان والشرق الأقصى.
( 4) العنف :
العنف معناه: الشدَّة والغلظة، ويقابله: الرفق واللين.
ولم ترد الكلمة في القرآن، لا مصدرا، ولا فعلا، ولا صفة.
ولكنها جاءت في الأحاديث النبوية مذمومة محذَّرا منها، كما في حديث: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" .[7[
"إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإذا أحبَّ الله عبدا أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير" .[8[
وقد اشتهرت الكلمة في هذه المرحلة من عصرنا، وغدت (مصطلحا) شائعا، وأُلصقت – أكثر ما أُلصقت – بالمسلمين: لأن فئة منهم اتَّخذت العنف طريقا لها للتغيير في الداخل، ولمقاومة ما تسميه الاستكبار أو العدوان من الخارج. ولكن هذه الفئة لا تمثِّل جمهور المسلمين، بل هم ينكرون عليها أعمالها، التي تجسد العنف، في الداخل والخارج.
وأعجب من ذلك: اتهام الإسلام بأن تعاليمه نفسها تفرز العنف، لأنه يأمر بالجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة الإسلامية نفسها تعلِّم الناس العنف، لأن (الله) عند المسلمين إله (جبَّار) (متكبِّر) (منتقم)، وليس إله محبَّة ورحمة مثل إله اليهود والنصارى!!
وقد رددنا هذه الدعوى الكاذبة ردًّا علميا موثَّقا في كتابنا الموجز (الإسلام والعنف)[9] ، وأثبتنا أن اسم الجبَّار المتكبِّر، لم يرد في القرآن إلا مرَّة واحدة في سورة الحشر، ولا ريب أنه جبَّار ومتكبِّر على الجبابرة الطغاة، والمستكبرين في الأرض بغير الحق ، وأنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
أما الأسماء التي تكرَّرت لله تعالى في القرآن، فهي الرحمن الرحيم، التي افتتحت بها كل سور القرآن ما عدا سورة التوبة (113 سورة). وهو أيضا: {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]، {خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]، ومَنْ رحمتُه وسعت كلَّ شيء. بل عنوان رسالة محمد هو الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ومحمد صلى الله عليه وسلم وصف نفسه فقال: "إنما أنا رحمة مهداة" [10]، وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" [11].
وذمَّ القرآن القسوة وأهلها، وقال عن بني إسرائيل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، وجعل القسوة عقوبة لهم على خطاياهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13].
أما الجهاد فإنما أوجبه الله لمقاومة عدوان المعتدين على دين المسلمين أو أنفسهم أو أرضهم أو أموالهم، وتأمين حرية الدعوة ومنع الاضطهاد في الدين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
( 5 ) الإرهاب :
الإرهاب لغة: مصدر أرهب يرهب: أي أخاف وخوَّف. وجذره أو فعله الثلاثي: رهب بمعنى: خاف.
ومقابل (خاف): أَمِن، ومقابل الخوف: الأمن.
وفي القرآن: {آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55[
والمراد بـ(الإرهاب) في هذا السياق: إحداث حالة من الخوف والفزع عند الناس، نتيجة عمليات عسكرية، فردية أو جماعية.
وليس منه قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، فإن هذا الإرهاب مشروع لدى كل العقلاء؛ لأن إعداد القوة يخيف الأعداء، فيمنعهم من إشعال الحرب أو العدوان.
ولعل أقرب الكلمات الإسلامية في هذا السياق إلى المفهوم المراد هنا، هو: (الترويع)، أي ترويع الآمنين البرآء، وإلقاء الروع والفزع في قلوبهم، وفيه جاء الحديث: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما" [121]. وإنما نص على المسلم؛ لأن القصة وردت في شأنه.
ولكن الأصل هو ما أشار إليه الحديث: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" [13]، فأشار إلى أمن الناس – كل الناس – منه.
والإرهاب أو الترويع أو التخويف للناس، الأصل فيه المنع، وقد يجوز لتحقيق أهداف مشروعة، إذا اتخذ وسائل مشروعة، أما ما كان هدفه مشروعا، ووسيلته غير مشروعة، أو كان كلاهما غير مشروع، فهو محرم ومنكر في نظر الإسلام.
وسيأتي الحديث في الباب العاشر عن الإرهاب وأنواعه وأحكامه بتفصيل .