نحن في حاجة إلى تربية إيمانية سليمة، تزرع في القلوب المعاني الربانية الأصيلة: الخشية من الله، والرجاء فيه، والأنس به، والحب له، والرضا عنه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطاعة لأمره، والتسليم لحكمه، وحكم رسوله. كما قال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (النساء: 65) "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"(النور:51(
ومن عناصر هذه التربية: استحضار معاني الآخرة وما يتعلق بها: الموت، القبر، البعث، الحشر، الموقف، الحساب، الصحف، الميزان، الصراط، الجنة، النار.
وبعبارة أخرى: نحن في حاجة إلى لون من الصوفية الربانية الإيجابية المعتدلة التي عبر عنها بعضهم بأنها: الصدق مع الحق، والخلق مع الخلق، وإليها يشير قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" (النحل: 128(
وهذا هو روح الدين الحق: التقوى لله، والإحسان للناس. فالتصوف الحقيقي تقوى وأخلاق، قبل كل شيء.
يقول ابن القيم: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين، وكذلك التقوى.
وينقل ابن القيم في "مدارج السالكين" عن بعض متقدمي الصوفية في تعريف التصوف قوله: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف.
فهذا هو التصوف الذي نريد: تصوف التربية والأخلاق القرآنية والنبوية: التصوف الذي يغذي الإيمان، ويرقق القلوب، ويحرك الدوافع، ويشحذ الإرادة، ويهذب النفس، ويقوِّم السلوك في ضوء الكتاب والسنة، وهدى السلف الصالح، فهو الذي نحرص عليه، وندعو إليه. وهو الذي يقوم بمهمة (التزكية) التي أشار إليها القرآن في معالم الرسالة المحمدية "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ..." (الجمعة: 2). وهو (مقام الإحسان) الذي جاء في حديث جبريل المشهور، وعرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(
أما إذا كان التصوف سلبية كالتي عبر عنها بعضهم بقوله: دع الخلق للخالق، واترك الملك للمالك! يريد تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مرفوض ومثل ذلك قولهم: أقام العباد فيما أراد! فهو كلام حق يراد به باطل!
وإذا كان التصوف إلغاء لشخصية المريد أمام شيخه، كما قالوا: من قال لشيخه: لم؟ لم يفلح! وقالوا: المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل! فهو كذلك مرفوض.
وإذا كان التصوف تفرقة بين الحقيقة والشريعة. كالذين قالوا: من نظر إلى الخَلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم! فلسنا منه في شيء.
وإذا كان التصوف كهانة وتجارة بالدين لدى العوام، الذين يقادون بالأساطير وتصنع لهم التمائم والأحجبة والتعاويذ، فهو باطل نبرأ منه.
وبالجملة: إذا كان التصوف مباءة للخرافات في الفكر، والشركيات في العقيدة، والمبتدعات في العبادة، والضعف في الأخلاق، والسلبيات في السلوك، والإهمال للحياة. فنحن أول من يحاربه.
فإنما يتجدد الدين حقاً، بالدعوة إلى (الإسلام الأول): الإسلام الذي جاء به القرآن الكريم وشرحته السنة المطهرة، وفهمه الصحابة وتابعوهم بإحسان، قبل أن يخلط بشوائب الملل والنحل، وفلسفات الأمم في الشرق والغرب. ندعو إليه خالصاً بلا شركة، نقياً بلا شوائب، شاملاً بلا تجزئة، متوازناً بلا غلو ولا تفريط، صراطاً مستقيماً بلا ميل ولا انحراف إلى اليمين أو الشمال "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام:153(
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
من كتاب " من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا"