رحم الله أوائلنا، من الأجداد، والجدّات الذين كانوا يلقنوننا، أن العالم الدنيوي موجود فوق رأس ثور، أو “على كف عفريت”. ولم يكن المستوى العلمي لأجدادنا وجدّاتنا، بالذي يمكّن من تفسير معنى العالَم، ولا معنى وجوده فوق رأس ثور. وما كان أوائلنا، وهم قُرّاء البقرة التي أنزلها الله على سيدنا محمّد، بالمتأثرين بعبّاد البقرة، من الهندوسيين، الذين يقدّسون الثور، ويعبدون البقرة، التي تأتي قداستها من صنع البشر.
كما أن مستوانا العقلي، أو العلمي، لم يكن يتيح لنا مناقشة أوائلنا في هذه الأحكام التي كانوا يطلقونها عن العالم الدنيوي، والتي كان المقصود منها، التنبيه إلى خطورة العالم الذي نحن نعيش على سطحه.
وتقدم العلم، وتطور العقل البشري، فأصبح للمفهوم معنى مغايراً، لما كان عليه من سذاجة الذهنية البشرية البدائية.
فالثور، اتخذ في الثقافة الإسبانية، معنى عظيماً، في شكل رياضة الثيران، التي يتنافس الكثير على اكتسابها، وتدرّ على الأمة الإسبانية الكثير من الملايين. كما أن العفريت، هو الآخر، أخذ مفهوما أكثر دقة، وتحديداً.
فلم يعد العفريت، ينتمي إلى عالم الجن فقط، كما كان في معجزة سيدنا سليمان عليه السلام، الذي كان كفيلاً، بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ في اليمن، في لحظة عين، بل تغير العفريت من الجن، وتغير اليمن السعيد إلى شقي، وأصبح العفريت، رمزاً للإنسان الذي يفسد ولا يصلح، ويهدم ولا يبني، ويبدد ولا يصون، بحيث نصطدم به في عالم السياسة وفي عالم الاقتصاد، وفي عالم الثقافة، وفي عالم المجتمع…
وحسبك بعالمنا –اليوم- الذي تحكمه عفاريت المال، وعفاريت الجنس والمخدرات. إن العفريت اليوم، هو الطاغوت الذي يميزه الجبروت، فهو يعيث فساداً في العالم، دون رادع أو وازع.
ويكفي أن يلتفت الإنسان شرقاً أو غرباً ليكتشف عفريتاً في كل ميدان، يتحكم في مال أو في رقاب، أو في مصير العالم، بحسب الموقع الذي يوجد فيه…
فهذه الصهيونية الإيديولوجية، يحكمها نوع خاص من العفاريت، التي يحق لها أن تمتلك السلاح النووي المتطور، وتقتل، وتسحل، وتسجن، وتطعن، من شاءت من الفلسطينيين، دون أن يردعها أحد، بل وتجد الدعم والمباركة من عفريت آخر هو أمريكا.
وفي الصين، يقف عفريت صناعي واقتصادي آخر، هو المتحكم اليوم، بلا منافس في الصناعة العالمية، فيبسط نفوذه على العالم، ويحمي طغاة الميانمار، في تصفيتهم للأقلية المسلمة من الروهنقيين، بأبشع وأشنع الوسائل والطرق الهمجية.
وشاء الله، أن يقف اليوم، على سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، عفريت إيديولوجي آخر، لا أصفه كما وصفته مستشارته السابقة أومانوسا مانيغولت “بالمعتوه”، وإنما أقول بأنه منذ وصوله إلى البيت الأبيض لم يتوان عن زرع الرعب، والدمار، والتهديد والوعيد، في كل ركن من أركان العالم.
إن الخاصية الأولى، لهذا النوع من العفاريت هو بغضه للإسلام، بجميع مذاهبه، سيّان عنده السني أو الشيعي، فقد بدأ بقبلة المسلمين الأولى “القدس”، فألحقها بالكيان الصهيوني المحتل، وصفّى قضية اللاجئين الفلسطينيين وأعانه على ذلك قوم آخرون، وها هو يتصدى لتركيا، ولإيران، بفرض العقوبات الاقتصادية على شعبيهما، وكأنه من قوم عناهم الشاعر العربي حين قال:
قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
إن هذا العملاق الأمريكي، هو الذي يتحكم اليوم في السلاح النووي، وفي الطاقة العالمية، بحيث إنه يتحكم في خراب ودمار العالم، وأن العالم اليوم بسبب سياسته التي لا يحكمها منطق، على كف عفريت.
غير أن النتائج الوخيمة، للمقدمات الفاسدة بدأت تطل بأعراضها. فالأزمات قد طوقت العفريت الأمريكي من كل جانب، وشبح العزل أصبح يهدد وجوده، وما ذلك إلا لأن عدل الله حق، وهو يمهل ولا ويهمل.
فما كان الله ليضيع إيمان المرابطين، والمرابطات في المسجد الأقصى، وما كان الله ليرد تكبيراتهم الصاعدة إلى عنان السماء، تشكو ظلم الجبابرة والطغاة الذين تآمروا على إخراج المقدسيين من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا ربنا الله، ووطننا فلسطين.
وإن الله –كما وعدنا- ليستحي أن يردّ عبدا صادقا رفع إليه يديه بالدعاء، كما هو حال المستضعفين في غزة العزة، وفي الضفة الغربية، وهم يقتلون، ويعذبون، ويسجنون في كل يوم، بتواطء من الجبروت الأمريكي.
إن تضرع المساجين الفلسطينيين الذين يقاومون بالأمعاء الخاوية، وإن أطفال الحجارة، الذين يزحفون بالأقدام الدامية والهامات العالية، والإرادة الواعية، لن يخيّب الله تضرعهم، لأنه دعاء المستضعفين، وأنين المظلومين، ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾[سورة النساء، الآية: 141].
ومن غرائب الصدف، بل ومن علامات قيام الساعة أن يعود في عصر العلم والديمقراطية، مصطلح العفريت والعفرتة، وأن يصبح العالم على كفه، والفرق الوحيد بين العفريتين. أن الأول البدائي كان من الجن، بينما عفريت العصر، صار من الإنسان، فهو يضع يديه على أزرار السلاح النووي المندر بالدمار والخراب، ويتحكم في شتى أنواع الصواريخ العابرة للقارات، ويتصرف في كل هذا حسب نزواته وما تمليه عليه حماقاته. ومن يدر، فلعل هذا العفريت الأخطبوط، كما وصفه إمامنا الإبراهيمي هو من يحشد جيوشه في كابول، ويريد أن تخضع لها اسطنبول، وهو من يضع رجله على الظهران وعمان، وعسقلان، وعينه زائغة، نحو طهران ووهران، وتيطوان، وفزان، والقيروان، وحتى الطنطان. فيالله لهذا الطغيان، والخوف كل الخوف أن يصبح، في ثوان، المستحيل في الإمكان، من عفاريت الإنس والجن، فيعيثون فسادا في العالم، والبلدان والإنسان.
وبعد فإن العالم – اليوم- يبدو وكأنه على كف عفريت، غير أن إرادة الله التي تحكم العالم، والتي من سننها حماية الحق، ودحر الباطل، هي التي ستتولى مصير الظالين ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾[سورة الشعراء، الآية: 227]. قد تكون للظلم صولة، وتكون للحق دولة، فصولة الظلم ساعة، ولكن دولة الحق إلى قيام الساعة.
فيا أحرار العالم ! ويا أحرار فلسطين وكل الشعوب المظلومة: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[سورة آل عمران، الآية: 139].