استغلت أوروبا الحديثة أثناء توسعها الحضارات القديمة الإسلامية، والهندية، والصينية، وتوغلت في أوساطها في الحرب الأولى العالمية، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية حصل جوّ جديد أعلن عن نفسه أولا باحتشام، ثم نتج عنها عدد من الأزمات الخطيرة أدت إلى تغيير الأوضاع، فأخذت الشعوب غير الأوروبية من العالم القديم تزلزل السيطرة الأوروبية وتحكّمها في مصائرها، لا تطالب باستقلالها الخارجي فحسب، ولكن باستقلالها التام سياسيا واقتصاديا.
اتخذ الإسلام موقعا لا بين آسيا والغرب، ولكن كان وسطا ليس بين آسيا وأوروبا فحسب، وإنما بين أوروبا وإفريقيا، وهذا بالتحديد ما يجعله في الموقع الاستراتيجي الوسط، الذي يمكن له أن يؤثر به في تشكيل العالم مستقبلا.
وهذا ما أدركه الغربيون، فإنه إذا تضامنت الشعوب الإسلامية، وأظهرت عداوتها كما يقولون للغرب، فإن الجسور تقطع بين أوروبا من جهة وإفريقيا وآسيا من جهة أخرى.
ويرى Ferpau F.W في دراسته عن العالم الإسلامي(1) أنه من الخطأ الكبير الذي يمكن ارتكابه هو الاعتقاد بأن الغرب في مقدوره أن يرسم للإسلام الطريق الذي يسير فيه، ونصح الغرب أنه آن الأوان لتأسيس صداقة دائمة على أساس المصالح المشتركة، وهذا نظر استشرافي ثاقب، لم يدركه الغرب ليومنا هذا، فإن الجزيرة العربية تكوّن مقطعا تقريبا في الوسط، شمال إفريقيا جناحه الغربي، وآسيا الوسطى جناحه الشرقي، ومساحته من (25) خمس وعشرين مليون كم مربع إلى ثلاثين مليون، تغطي تقريبا ثلث العالم القديم، (القارة الإفريقية وحدها تغطي ثلاثين مليون كـم2، إذا أردنا المقارنة)، ولهذة المنطقة تأثير بحري من جهة البحر الأحمر، والخليج حول الجزيرة العربية.
فأوروبا في الشمال الغربي، وإفريقيا الاستوائية جنوبا، وآسيا في الجنوب الشرقي.
والمغرب العربي منطقة، بين رمال الصحراء، وشواطئ البحر المتوسط والمحيط الأطلنتيكي، فالمسلمون يقعون بين المغرب وتركستان، وهذه الأقاليم تمثل مفاتيح القوة العالمية، فالمنطقة الإسلامية وسط واسع جدا يأخذ ما بين مركزين حضاريين من العالم القديم: أوروبا غربا، والصين، والهند شرقا، حدّه جنوبا إفريقيا الاستوائية. إن العالم الإسلامي، قارة وسطية: un continent intermidiane، وبعد القرن الثامن عشر أصبح هذا الوسط للعالم القديم مسرحا للصراع الأجنبي، وأدركت القوات الكبرى أن مفاتيح العالم إنما هي في هذا العالم الإسلامي وخاصة في مناطقه الوسطى، التي يسميها الأوروبيون: الشرق الأوسط والأدنى.
وهذا المفتاح العالمي يمسك به الإسلام، وهذا الموقع المفتاح للعالم الإسلامي يبقى معطي دائما، فهو منطقة الاتصال بين القارات، وموقع مرور التجارة العالمية، ومصدر الطاقة البترولية الكبرى التي تقع فيه.
فالمسلمون اليوم يمثلون الشعوب الشابة، والأوروبيون يمثلون شعوب الشيخوخة، والاضطرابات في العالم الإسلامي تمثلها ثلاث عناصر القوميات، والنهضة الإسلامية، والأمل في تغيير اجتماعي حضاري.
لذا تجد هذه المنطقة لم تنقطع فيها الحروب، من الحروب الصليبية إلى الاستعمارية إلى التحريرية إلى الاستعمارية الأخرى اليوم، لكن إن دمّرت النظم، والعروش فإن الأمة الإسلامية لا تموت أبدا ولن تفنى.
ونشأ في الفترة الأخيرة ما يسمى إسلاموفوبيا واكزينوفوبيا Xenophobie (كراهية الأجانب) بسبب عداء اليمين المتطرف، وزعمه أنه يستحيل تعايش المسلمين مع القيم الأوروبية وعصر التنوير، وذهبوا إلى أن المسلمين أعداء من الداخل والخارج، وأن الجماعات الإسلامية أصبحت بؤر للإرهاب موجهة إلى الغرب نفسه، وانعدمت الثقة بها، وأن الإسلام مولد للطاقة الإرهابية، وهذا ما أبطله بعض الباحثين مثل Olivier Roy، الذي بيّن أن وجود إرهابيين مسلمين في أوروبا، إنما هو صناعة أوروبية لفشل عملية إدماج مجتمعات الهجرة، وتركهم على الهامش إهمالا لهم.
فنشأ احتقان عام من الوجود الإسلامي في أوساط الغربيين مبالغ فيه، فانتهكوا حقوقهم الإنسانية واضطهدوهم لكونهم مسلمين.
وكما قال Galles Kepel: سمح لنا الرعب من الإسلام أن نعلن أنه عدو ومهدد، وأن ننسب إليه حتى أعمال البلطجية في شوارعنا في خَبَل وفوضى عامة في المشاعر، فجاء شعار: صدام الحضارات بدل الحرب الباردة، وجاءت إيديولوجية الخطر الإسلامي، والمواجهة بين الحضارة والبربرية، والحداثة والوحشية، وأضحى العالم عالمين مسيحية ضد الإسلام، كما كتب هاغمن لودينغ: “مسيحية ضد الإسلام حوار انتهى إلى الإخفاق” بيروت 205 ص 165.
فقد العالم التوازن الذي كان قائما بعد الحرب الباردة، واتجه النظام الدولي إلى الارتماء في أحضان المنتصر الغربي، والاستسلام لقطب واحد(2) بقيادة غربية أمريكية، امبراطورية مسيطرة، وكأن هذا نهاية التاريخ، والغلبة المطلقة لها، فاشتد الهجوم على المسلمين سياسيا واقتصاديا وعسكريا إلى حدوده القصوى، وأخذت الجيوش الأجنبية مرة أخرى موقعها وحضورها الاستراتيجي في قلب العالم الإسلامي، وامتدت الهيمنة الأمريكية من أرخبيل الملايو إلى المحيط الأطلسي باستعمال الأسلحة الفتاكة، والطائرات بدون طيار، وارتكاب الجرائم عدوانا على المدنيين، مع الكذب الاعلامي، والتشويه الثقافي، واستباحة دماء المسلمين، وحساباتهم المصرفية بالمساءلة والتدقيق(3)، وما إلى ذلك من دعاوى هستيرية لا ترى في الإسلام إلا الإرهاب، والمقاومة التحريرية انقلبت لديهم إلى إرهاب.
فالغرب أصبح وحدة حضارية استراتيجية ضد الإسلام، وأصبح المسلمون في بلادهم بين مطرقة الاحتلال الغربي والصهيوني، وسندان الانظمة الدكتاتورية، تمسك بأعناق المسلمين وأرزاقهم، وتسلمها للأجنبي، سائرة في ركاب الغرب تبيح ثروات البلاد للنهب، وتقطع أوصال المسلمين التناقضات والعشائرية والطائفية والمذهبية، والنزعات السياسية(4) المتآكلة.
أصبح العالم تقوده حفنة من البيروقراطيين، يملكون 500 شركة تسيطر على اقتصاد العالم، وتسعى أمريكا وأوروبا لفرض ثقافتها وسياستها على العالم بالقوة العسكرية الهائلة والتجويع، كما كتبZigler Jean في كتابه L’empire de la honte أي امبراطورية العار(5).
هوّل الغرب الأخطار المفرطة المزعومة في تضخيمه لتهديد جماعة محدودة من المسلمين المغامرين ضد الأمن القومي للبلدان الغربية، ومجتماعتهم، وقيمهم، وما حدث في 11 سبتمبر 2001 ضخموه وحسبوه هجوما attaque، فهي غارة محدودة قام بها غلاة مغامرون ردا لفعل الظلم الغربي واستعلائه، فلا يمكن أن يحسب هجوما للإسلام على الغرب، فليس الذين هاجموا هم الإسلام، ولا هم يختصرون المسلمين، ولا نيويورك هي الغرب في جملته.
هل تبدو بارقة أمل للمسلمين في هذه الأزمة في بعض الحركات الإسلامية، التي يبدو أنها ذات مصداقية إيجابية، ولها قدرة على أن تنهض، وعدم وجود بديل ينافسها بثقلها الشعبي، وقدرتها على الاستقطاب، إلا أنها عموما تشكو من اضطراب في الرؤية، والبرامج والآليات، القادرة على وضعها موضع التنفيذ، وهي محاطة بضغوط هائلة أخطرها غلاة يستعملون العنف والتدمير في الداخل، والتورط بهذا العنف في الخارج، فأضرّ ذلك أيما ضرر بالمشروع الحضاري الإسلامي، وشوه صورة الإسلام في العالم، فنشأت ظاهرة الإرهاب الإسلامي والتخويف منه، وحملة شاملة منظمة ضد ما يسمى بالإرهاب، واتخذ ذريعة وأداة للعدوان ضد كل ما هو إسلامي.
وزعموا أن التمدد الديمغرافي الإسلامي خطر مهدد، ويزعمون أن القرن الواحد والعشرين سيسبب أعظم تحول في التاريخ، وأن هذا النمو الديمغرافي الإسلامي يؤدي في نهاية القرن الواحد والعشرين إلى أكثرية مسلمة في الغرب نفسه. وتقوم بعض الدراسات والمواقع البحثية بتغذية هذا التخوف بإثارة المشاعر ضد المسلمين حتى دعا أحد الوزراء الإيطاليين وهوRoberto Caderoli إلى حرب صليبية، كما دعا بوش من قبله في حربه على العراق، وأخذوا يذكّرون بحصار الأتراك لفيينا والدعوة إلى وقف الحوار المسيحي الإسلامي لأن الإسلام في زعمهم “دين مغلق لا يقبل النديّة”.(6) وهذه دعوة إلى صدام الأديان كما وقعت الدعوة إلى صدام الحضارات وأن المسلمين سيتحالفون مع الصين ضد الغرب.
فهل يمكن مع هذا كله الدعوة إلى عالم أكثر عدالة وتوازنا، وأكثر أمنا وسلاما، بمواجهة الاستبداد الداخلي والفتن ومصادرة إرادة الأمة وإبعاد التبعية، ويكتشف المسلمون أنفسهم بما يملكون من إرادة قوية للدفاع عن أنفسهم وتحقيق المطلب الديمقراطي في العالم الإسلامي، لأن الغرب يتخيل إسلاما مرعبا في الذاكرة الجماعية للغرب عموما وتحض على عداوته بعض الدراسات الأكاديمية والخلايا الفكرية الاستراتيجية.
لكن الحل ممكن لإصلاح العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، ففي العالمين قوى حية صادقة ترفض ما يُفرض على العالم الإسلامي ضد إرادته، للنهوض بمجهود مشترك المصالح والأمن وليوضع نسق جديد من المبادئ الأخلاقية الإنسانية، فإن الشر الذي يلحق بأحد العالم يمر بالضرورة إلى الآخر، والتوقف عن التضليل الإعلامي والسيطرة التي
تدفع إلى الغلو في كلا العالمين، وللخروج من النفق المظلم والهاوية التي يدعو إليها الغلو، وعدم الوقوف إلى جانب المعتدي، وهو أمر لا يقبله أي عقل سليم لأنه إمعان في الظلم.
هذا ما نرجوه وندعو إليه العقلاء من العالمين الإسلامي والعربي.
الهوامش:
· Le Réveil du monde Mususlman, 1953, p.7-8
· سمير سليمان، مسلمو العالم والغرب، 1327هـ/2006م.
· المرجع نفسه.
· المرجع نفسه.
· Fayar, Paris 2003.
· المرجع نفسه.