مما لا غبار عليه في الشريعة الإسلامية وفقهها، أن الأفعال لا يُحكم عليها بمجرد صورها وظواهرها، ولا بمجرد أسمائها، ولا ببداياتها دون مآلاتها ونهاياتها. بل الحكم الصحيح على أي فعل إنما يكون بالنظر إلى ظاهره وباطنِه، والباطنُ أولى، وبالنظر إلى صورته ونية صاحبه، والنيةُ فيه أولى، وبالنظر إلى بدايته وعاقبتِه، وعاقبته أولى، وبالنظر إلى اسمه وحقيقته، وحقيقته أولى. وفي كل هذه الوجوه صاغ الفقهاء قواعد فقهية مستمدة من القرآن والسنة، أذكر منها:
الأمور بمقاصدها
المقاصد أرواح الأعمال
العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني
نَوْطُ الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال
الأعمال بخواتيمها
العبرة بالخواتيم
الأمور بعواقبها
اعتبار المآلات
هذه القواعد تفيد بمجموعها معنى منهجيا كليا مفاده: أن النظر إلى الأمور وتقويمها ومعالجتها، يجب أن يكون بالاستحضار والاعتبار لكافة جوانبها، وخاصة منها ما هو جوهري وبعيد الأثر.
ومن الأمثلة والأدلة الجلية في هذا الباب ما جرى في (صلح الحديبية) الشهير، الذي عقده رسول الله مع قريش. وهو مروي ومفصل في مظانه المعروفة. ولذلك أقتصر منه على مشهدين هما بيت القصيد عندي.
المشهد الأول:
ويتعلق بكتابة وثيقة الصلح، وما شهدته من أخذ ورد حول بعض ألفاظها. وفيه:
"… فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتبْ بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم”، فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدري ما هو … ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” اكتب: باسمك اللهم”. ثم قال: ” هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله”، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله…"[1[
فهاهنا نرى نبي الله صلى الله عليه وسلم يتنازل لمندوب قريش عن جملة من العبارات الصحيحة التي أملاها على كاتب الوثيقة، ويقبل بالعبارات التي أملاها سهيل بن عمرو. لماذا؟
- 1 لكون العبارات المعنية لم تكن من صميم العقد ولا تقدم في مضمونه شيئا ولا تؤخر. وقد كان إنجاز الصلح بما فيه من بنود والتزامات هو المقصود وهو المطلوب. وأما العبارات التي وردت فيه عرضا وليس لها تأثير فيه، فالأمر فيها هين.
- 2 لكون العبارات البديلة التي تمسك بها سهيل بن عمرو لا تتضمن في معانيها زورا ولا كفرا، فقبولها له وجه سائغ في ذاته، فكيف إذا تم ذلك لغرض جليل، كتحقيق الصلح والسلم وحرية الدعوة؟
المشهد الثاني:
ويتعلق بتذمر الصحابة من بنود الصلح وبعض نتائجه الفورية، حيث رأوها مهينة لهم ومجحفة بحقهم. وقد كان أقسى بنوده عليهم هو: أن من خرج من صف المشركين، والتحق بالمسلمين — مسلما أو يريد الإسلام — فإنه يرد إلى المشركين.
وقبل أن توقع وثيقة الاتفاق، إذا بشاب مسلم يتفلت ويفر من جهة قريش، ويصل إلى المسلمين وهو ما زال يرسف في أغلاله. ولم يكن هذا الشاب سوى أبي جندل، وهو ولدٌ لسهيل بنِ عمرو، مندوب قريش وممثلها في عقد الصلح. وبعد أخذ ورد، كان لا بد مما لا بد منه — على قسوته ومرارته — وهو إعادة أبي جندل إلى أبيه وقومه. وهنا وصل غليان المسلمين إلى ذروته…
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكي عن حالته هو فيقول: "فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ق : إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال: قلت لا ، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا، إذا قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به."[2[
وهاهنا نجد أن الحكم على صلح الحديبية من خلال صيغته وظاهر بنوده، ومن خلال نتائجه القريبة والمباشرة، يعطي أنه كان مهينا ومستفزا للمسلمين ومضيعا لحقوقهم، ومُمَكِّنا للمشركين من فرض استعلائهم وشروطهم…ولكن لم يمض وقت طويل حتى انعكس ذلك كله، وظهر أنه كان فتحا مبينا على الإسلام والمسلمين…
والعبرة من هذين المشهدين:
أنه لا بأس أحيانا، أو لا بد،
- من تقديم تنازلات شكلية أو خفيفة،
- ومن تحمل أضرار قريبة ومؤقتة،
إذا عُلم أو ترجح في تلك الحالة أن العواقب البعيدة والنتائج الكبيرة ستكون مربحة ومريحة.
فهذا من أهم قواعد السياسة الشرعية والفقه الرشيد.