إذا كان الإسلام قد دعا إلى الإحساس بالجمال وتذوقه وحبه , فإنه قد شرع التعبير عن هذا الإحساس والتذوق والحب بما هو جمال أيضاً .
وأبرز ما يتجلى ذلك في فنون القول من الشعر والنثر والمقامة والقصة والملحمة , وسائر فنون الأدب , وقد استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر وتأثر به , ومنه قصيدة كعب بن زهير الشهيرة « بانت سعاد » وفيها من الغزل ما هو معروف , وقصيدة النابغة الجعدي , ودعا له , ووظف الشعر في خدمة الدعوة والدفاع عنها , كما صنع مع حسان . واستشهد بالشعر كما في قوله : « أصدق كلمة قالها شاعر : كلمة لبيد : ألا كل شئ ما خلا الله باطل ».
واستشهد أصحابه بالشعر , وفسروا به معاني القرآن , بل منهم من قاله , وأجاد فيه , كما يروى عن على كرم الله وجهه . وهناك عدد كبير من الصحابة كانوا شعرا ء .
وكثير من الأئمة الكبار كانوا شعرا ء , مثل الإمام عبد اله بن المبارك , والإمام محمد بن إدريس الشافعي وغيرهما .
وقال صلى الله عليه وسلم « إن من الشعر حكمة » , « إن من البيان لسحراً »« إن من البيان سحرا , وان من الشعر حكما ».
ومفهوم الحديث أن من الشعر ما هو بعيد عن الحكمة بل هو نقيضها , مثل شعر المديح بالباطل , والفخر الكاذب والهجاء المتعدى , والغزل المكشوف , ونحو ذلك مما لا يتفق مع القيم الأخلاقية والمثل العليا .
ولهذا ذم القرآن الشعراء الزائفين والمزيفين , الذين لا يتورعون عن شئ , والذين تكذب أفعالهم أقوالهم . وذلك في قوله تعالى : ( والشعراء يتبعهم الغاوون *ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراًً وانتصروا من بعد ما ظلموا . ) . ..
فالشعر - والأدب عامة , والفن بوجه أعم - له هدف ووظيفة , وليس سائبا , فهو شعر ملتزم, وأدب ملتزم , وفن ملتزم .
أما القوالب التي يظهر فيها الشعر أو الأدب فلا مانع من تغيرها وتطورها، واقتباس ما يلائمنا مما عند غيرنا . المهم هو الهدف والمضمون والوظيفة .
اخترع العرب قديما قوالب في الشعر كالموشحات , وغيرها . ولهذا لا بأس من قبول القوالب الجديدة في الشعر المعاصر . كالشعر الحر .
كذلك ابتكر العرب في العصور الإسلامية قوالب أدبية كالمقامات , والقصص الخيالية , كما في « رسالة الغفران » , و « ألف ليلة وليلة » وترجموا مثل « كليلة ودمنة » , وألف المتأخرون الملاحم الشعبية مثل قصة « عنترة » , وسيرة « بنى هلال » إلى غير ذلك من القوالب .
وفى عصرنا يمكننا أن نستحدث من القوالب ما شئنا , وأن نقتبس من غيرنا ما ينفعنا , كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة .
والذي نود تأكيده هنا هو ضرورة الالتزام بالعربية الفصحى , والحذر من المحاولات المشبوهة لترويج اللهجات العامية المختلفة للشعوب العربية , فإنها تهدف إلى المباعدة بينها وبين القرآن والسنة , كما تهدف إلى تثبيت الفرقة والتجزئة الإقليمية , التي تحرص على بقائها القوى المعادية للعروبة والإسلام .
ويغني عن ذلك اللغة السهلة التي تفهم الجماهير العربية بها نشرات الأخبار في الإذاعة والتلفاز , وتفهم بها الصحف التي تطالعها كل يوم .
كما أن الفصحى هي التي تقرب بين العرب وسائر أبناء الإسلام ممن يتعلمون العربية , فإنهم لا يتعلمون إلا الفصحى , ولا يستطيعون التفاهم مع الجميع إلا بها .
وقد وجهت إلي في أكثر من مكان أسئلة حول شرعية بعض القوالب الإسلامية الأدبية كالمسرحية والقصة , حيث يخترع القصاص أو المؤلف المسرحي شخصيات , وينطقها بأقوال وأمور لم تحدث في الواقع , فهل يدخل هذا في دائرة الكذب المحرم شرعاً ؟
وكان جوابي : أن هذا لا يدخل في الكذب المحظور : لأن السامع يعرف جيدا أن المقصود ليس هو إخبار القارئ بوقائع حدثت بالفعل . إنما هو أشبه بالكلام الذي يحكى على ألسنة الطيور والحيوانات , فهو من باب التصوير الفني واستنطاق الأشخاص بما يمكن أن ينطقوا به في هذا الموقف . كما حكى القرآن عما تكلمت به « النملة » أو نطق به « الهدهد » أمام سليمان عليه السلام . فمن المؤكد أنهما لم يتحدثا بهذا الكلام العربي المبين , إنما ترجم القرآن عما يمكن أن يكون قولهما في هذا الوقت , وذلك الموقف .
وقد شاركت شخصياً في التأليف المسرحي بعملين :
أحدهما : مسرحية شعرية عن « يوسف الصديق » عليه السلام . وذلك في مطلع حياتي الأدبية , وأنا في السنة الأولى من المرحلة الثانوية , وكنت متأثراً في ذلك بمسرحيات شوقي الشهيرة .
والثاني : مسرحية تاريخية عن سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف , سميتها «عالم وطاغية» وقد مثلت في أكثر من بلد , ولاقت قبولا حسنا . بخلاف الأولى ! لأنها تتعلق بقصة نبي مرسل , والاتفاق بين علماء العصر منعقد على أن الأنبياء لا يمثلون .