كل الذي يراد من إصلاح الظاهر والباطن، وإصلاح الروح والقلب والعقل والنفس هو الوصول إلى الاستقامة، التي هي أعلى مراتب المؤمنين، والتي رتب الله تعالى عليها درجات عليا، وأعطى عليها أجراً كبيراً، وجعل لها آثاراً عظيمة في الدنيا والآخرة.
وقد بين الله تعالى في أعظم سورة في القرآن الكريم، السبع المثاني، والسورة التي تعتبر ركناً أساساً في الصلاة، ولا تصح الصلاة بدون قراءتها، سورة الفاتحة، بين أن الاستقامة أول أساس للمؤمنين، ومطلباً سامياً من مطالب الإيمان، قال تعالى آمراً المسلمين والمؤمنين أن يلجؤوا إليه بالدعاء طالبين الهداية والاستقامة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهو الطريق الذي أوجب الله تعالى على المؤمن أن يسير فيه دون توقف عند حد معين، حتى لا تبدأ مرحلة التأخر.
والصراط المستقيم ليس خاصاً بالآخرة، فطريقنا في الدنيا من التعمير والاستخلاف في الأرض يمر من خلال طريق الاستقامة، وهي تعمير الكون بمنهج الله تعالى وشريعته، والتخلق بأخلاق الإسلام مع الكون من حولنا، وبذلك نصل إلى الآخرة بسلام وأمان.
جمع الله تعالى طرق الاستقامة التي أرادها وأكد عليها، وبين وسائلها وآلية الوصول إليها، وكيفيتها في سورة الفاتحة، وعالج من خلالها كل المشاكل التي تعاني منها البشرية، من مشاكل الطغيان واتباع الشهوات؛ شهوات المال والجاه والشهوة، حيث هي الباعثة لكل مشاكل الإنسان، ومنشأ هذه المشاكل عدم تمسك النفس وعدم ثباتها على العقيدة الصحيحة والإيمان بالله تعالى واليوم الآخر.
ولو استقرت تلك العقيدة الحقة في القلب، وبانت آثارها على سلوك الفرد وتصرفاته، وملكت عليه روحه وقلبه وعقله ونفسه لما استسهل التضحية بالآخرة ونعيمها في سبيل متاع دنيوي زائل، ولا قدم ما ادّخره الله تعالى له من الأجر والمثوبة فداء مال يطغيه، أو شهوة ترديه، أو جاه يفنيه.
إن الله تعالى ذكر لنا أمثلة لمن استقام على أمره، ورفض شهوات نفسه وحظوظها، من خلال سيدنا يوسف عليه السلام، حين تزينت له الفتنة في أبهى حللها دون رقيب، فما كان منه إلا أن قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{
إن الاستقامة مطلب أساس لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الله تعالى، ويرجو رحمته، ويخشى عذابه، وقد أمر الله تعالى أنبياءه ورسوله عليهم الصلاة والسلام بها، كما أوجبها على المسلمين والمؤمنين، قال تعالى آمراً موسى وهارون عليهما السلام: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، كما أمر سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، موضحاً أن هذه الاستقامة ينبغي أن تكون قائمة على أمر الله تعالى، وكما أوجبها، وليس لأحد أن يدعي الاستقامة في منهج لا تقره الشريعة:{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، كما أمر المؤمنين بقوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ{
بين الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية آثار الاستقامة، حيث يقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، في هذه الآية بشارة عظيمة لمن آمن بالله رباً، وهي أن الله تعالى يحفظه في الدنيا من كل سوء ومكروه، ويحميه من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويقيه من التردي والهلاك، ويرسل عليه ملائكته تطمئنه وتبشره بما يقدم عليه من نعيم في الجنة، وتكون في معيته في الدنيا وفي القبر وعند قيام الساعة، وفي كل مرحلة يحتاج فيها الإنسان إلى مؤنس وصديق وثبات، تبين له الحق وتوضحه وتثبته عليه وتدعوه إلى التمسك به، لأنهم استقاموا على النهج الصحيح القويم، بالإضافة إلى ما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وكرم الضيافة.
كما بين الله تعالى أن المستقيم على أمره ونهجه ودينه لا يسكن الخوف قلبه، ولا يعرف الوجل، ولا يغشاه الحزن، ولا يتسربله القلق، بل يحيط به الاستقرار من كل جانب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{
وقد وضح الله تعالى أن نعم الدنيا كلها وسعادتها وما فيها من سرور وحبور، وما ينبت من خيرات الأرض، وما تجود به السماء من بركات، كلها راجع إلى الاستقامة، وهي لن تكون إلا لمن استقام كما أمر الله تعالى، قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا{
إن الله تعالى حين تحدث عن قضية الاستقامة عرف بالطريق المستقيم من خلال الأشخاص المستقيمين، وذلك أبلغ، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وكأن سائلاً سأل: ما الصراط المستقيم؟ فأتى الجواب: إذا أردت معرفة الاستقامة ووسائلها والطريق إليها وكيفيتها عليك أن تنظر إلى أحوال الرسل والأنبياء والصالحين، وفي ذلك دلالة على أهمية القدوة في الحياة.
إن سورة الفاتحة ذكرت عشر مبادئ لإصلاح وبدايته، ومن أهم مبادئ الإصلاح ربط الإنسان بخالقه، وذلك حين يبين الله تعالى أن من موجبات العقيدة الحقة أن ينسب الإنسان النعم إلى منعمها، فجميع ما يتمتع به الإنسان من النعم هي من الله تعالى، وله وحده سبحانه، وهو المتفضل بها، فمن الإصلاح والاستقامة أن تستخدم هذه النعم فيما يُرضي الله تعالى، وذلك غاية الاستقامة والشكر.
فالآية الأولى في سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إشعار بأن على الإنسان أن يحمد الله تعالى على كل نعمه، وأن هذه النعم كلها بيد الله تعالى، وليس لأحد الفضل في ذلك، ومن تمام الشكر والحمد أن يستخدمها الإنسان فيما يرضاه الله تعالى، وفي ذلك تحلية للقلب وربط بالله تعالى، وعار على العاقل أن يستخدم إحسان الله تعالى في معصية الله تعالى، وعار على العاقل أن يقابل نعم الله تعالى بالكفران والجحود، فذلك ليس من الوفاء مع الله تعالى، ولا من فعل العقلاء، ولا من شيم المستقيمين.
بداية طريق الإصلاح ملء القلب بالعبودية الحقة لله تعالى، وذلك بإرجاع جميع النعم إلى الله تعالى، فحين يستقر هذا الإيمان في القلب يشعر الإنسان بالراحة، ويقضي على القلق بكافة أشكاله وصوره، ولا يعرف اليأس ولا القنوط.
والاستقامة على طريق الإصلاح يقتضي شكر الله تعالى وحمده على هذه النعم، وليس باللسان فحسب، وإنما يجب أن يكون الشكر بثلاثة أمور؛ الأول: بامتلاء القلب وشعوره بأن هذه النعم لله وحده، والثاني: الحمد باللسان، والثالث: استعمال هذه النعم في طاعة الله حسب النعمة ومصرفها.
إن القرآن الكريم بين لنا أسباب كل المشاكل التي تنزل بالعالم الإسلامي والعربي، وأن سببها الأول أننا لا نستعمل نعم الله تعالى المحضة ــــ التي لا يد للإنسان في اكتسابها ولا في إيجادها ـــ في غير طاعة الله تعالى.
هذه النعم المحضة هي الثروات الباطنية، حيث لا دخل للإنسان في وجودها، وهي من نعم الله تعالى المحضة.
فكيف يجوز لنا أن نصرفها في معصية الله تعالى؟ ونتمنى على الله الأماني.
وكيف يجوز لنا أن نجود بها بسخاء على أعداء الأمة؟ ونترك إخواننا فرائس النكبات والكوارث.
وكيف يجوز لنا أن نمول بها صفقة القرن، للقضاء على قضية الأمة الأولى، قضية القدس والأقصى.
وكيف يجوز لنا أن نحولها إلى أداة حرابة وإحداث الفوضى والقطيعة؟
إن لم تجد هذه النعم طريقها إلى الشكر والحمد نخشى أن تسلك بنا المفاوز والتهلكة، وأن تجر على أمتنا الوبال.
أسأل الله تعالى أن يعرفنا نعمه بدوامها وشكرها، وأن يصلح أحوالنا.