من الأولويات المهمة شرعا: تقديم الكيف والنوع على الكم والحجم، فليست العبرة بالكثرة في العدد، ولا بالضخامة في الحجم: إنما المدار على النوعية والكيفية.
لقد ذم القرآن الأكثرية إذا كان أصحابها ممن لا يعقلون أو لا يعلمون أو لا يؤمنون أو لا يشكرون: كما نطقت بذلك آيات وفيرة من كتاب الله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:63)، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) (هود:17)، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ)(البقرة:243)، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)(الأنعام:116)
في حين مدح القرآن القلة المؤمنة العاملة الشاكرة، كما في قوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ)(ص:24)، (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبأ:13)، (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ)(الأنفال:26)، (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ)(هود:116)
ولهذا ليس المهم أن يكثر عدد الناس، ولكن المهم أن يكثر عدد المؤمنين الصالحين منهم.
يذكر كثيرون الحديث النبوي: "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مكاثر بكم الأمم"، ولكن الرسول لن يباهي الأمم بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، إنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة". دلالة على ندرة النوع الجيد من الناس، كندرة الراحلة الصالحة للسفر والركوب والحمل في الإبل، حتى إن المائة لا يكاد يوجد فيها واحدة من هذا النوع.
والتفاوت في بني الإنسان أكثر منه في جميع الفصائل والأنواع الأخرى من الحيوان وغيره. حتى جاء في الحديث: "ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان".
إننا مولعون بالكم وبالكثرة في كل شيء، وإبراز الأرقام بالألوف والملايين، ولا يعنينا كثيرا ما وراء هذه الكثرة، ولا ماذا تحمل هذه الأرقام.
لقد أدرك الشاعر العربي الجاهلي أهمية النوع على الكم فقال:
تعيرنا أن قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل، وجارنا عزيز، وجار الأكثرين ذليل
والقرآن ذكر لنا كيف انتصر جنود طالوت، وهم قلة على جنود جالون وهم كثرة: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة:249)، إلى أن قال: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ)(البقرة:251)
وذكر لنا القرآن كيف انتصر الرسول وأصحابه في بدر، وهم قلة على المشركين وهم كثرة كما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(آل عمران:123)، (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ)(الأنفال:26)
على حين كاد المسلمون يخسرون في حنين، إذ نظروا إلى الكم لا الكيف وغرتهم الكثرة، وأهملوا القوة الروحية، والحيطة العسكرية، فدارت الدائرة عليهم أولا، حتى يتعلموا وينتبهوا أو يتوبوا، ثم فتح الله عليهم وأيدهم بجنود لم يروها.
يقول الله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ)(التوبة:25-26)
ولقد بين القرآن أن الإنسان إذا اجتمع له الإيمان وقوة الإرادة المعبر عنها بالصبر، يمكن أن تتضاعف طاقته إلى عشرة أضعاف أعدائه ممن لا يملك إيمانه وإرادته: يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال:65).
وهذا في حالة القوة، أما في حالة الضعف فيمكن أن تكون طاقته ضعف طاقة خصمه، كما أشارت إلى ذلك الآية اللاحقة في سورة الأنفال: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ).
المدار إذن على الإيمان والإرادة لا على العدو والكثرة.
ومن قرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن عنايته كانت بالنوع لا بالكم.
ومن قرأ سيرة أصحابه وخلفائه، رأى ذلك بجلاء ووضوح أيضا.
بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مددا، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة قال عمر: كل واحد منهم بألف، واعتبر المجموع اثنى عشر ألفا! ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة.
لقد كان عمر مؤمنا بأن العبرة بنوع الرجال وقدراتهم ومواهبهم لا بأعدادهم وأحجامهم.
روى عنه أنه جلس يوما مع بعض أصحابه في دار رحبة، فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دارهم من فضة أنفقتها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكون له ملؤها ذهبا ينفقه في سبيل الله، أما عمر فقال: لكني أتمنى ملء هذه الدار رجالا مثل أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة، فأستعملهم في سبيل الله.
وفي عصرنا بلغ عدد المسلمين في العالم ما يجاوز المليار وربع المليار من البشر. ولكنهم للأسف الشديد كما وصفهم الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولنزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
لقد بين هذا الحديث أن الكثرة وحدها لا تغني، إذا كانت منتفخة من الخارج، واهنة من الداخل، كما في المراحل "الغثائية" من حياة الأمة، التي تتصف الأمة فيها بما يتصف به الغثاء من الخفة، وعدم التجانس، وفقدان الهدف والطريق، كما هو شأن غثاء السيل.
العناية إذن يجب أن تتجه إلى الكيف والنوع لا مجرد الكم، والمقصود بـ "الكم" هنا: كل ما يعبر عن مقدار الجانب المادي وحده، من كثرة العدد، أو سعة المساحة، أو كبر الحجم، أو ثقل الوزن، أو طول المدة، أو غير ذلك مما يدخل في هذا المجال.
وما قلناه في كثرة العدد نقوله في الأمور الأخرى.
فالإنسان مثلا لا يقاس بطول قامته، أو قوة عضلاته، أو ضخامة جسمه، أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته، فما الجسم ـ في النهاية ـ إلا غلاف الإنسان ومطيته، أما حقيقة الإنسان فما هو إلا العقل والقلب.
وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ)(المنافقون:4).
كما وصف عادا على لسان نبيه هود بقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)(الأعراف:69).
ولكن هذه البسطة في الخلق جعلتهم يغترون ويستكبرون كما قال تعالى: (أَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)(فصلت:15).
وفي الحديث الصحيح: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرأوا إن شئتم: (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)(الكهف:105).
وصعد ابن مسعود يوما شجرة، فظهرت ساقاه، وكانتا دقيقتين نحيلتين، فضحك بعض الصحابة من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد"
ليس المهم إذن ضخامة الجسم، إذا لم يكن يسكنه عقل ذكي، وفؤاد نقي، وقديما قال العرب: "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل".
وقال حسان بن ثابت يهجو قوما:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير!
ليس معنى هذا: أن الإسلام لا يقيم وزنا لصحة الجسم وقوته. كلا، فهو يهتم بذلك غاية الاهتمام، وقد مدح الله طالوت بقوله: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(البقرة:247). وفي الصحيح: "إن لبدنك عليك حقا"، "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ولكنه لا يجعلها معيار الفضل.
وكما أن ضخامة الجسم وقوته ليست هي مقياس الرجولة، ولا معيار الفضل في الإنسان، فكذلك جمال الوجه وحسن الصورة.
وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".
وقد مدح أحد الشعراء عبد الملك بن مروان بقوله:
يأتلق التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب!
فلام الشاعر، لأنه مدحه بما يشبه مدح الغيد الحسان. وقال له: هلا قلت في ما قاله الشاعر في مصعب بن الزبير:
إنما مصعب شهاب من الله تجلت بنوره الظلماء
حكمه حكم قوة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء
أجل، إنما يقاس الرجال بما في رؤوسهم من علم، وما في قلوبهم من إيمان، وما يثمره الإيمان من عمل، على أن العمل في نظر الإسلام لا يقاس بحجمه ولا عدده، إنما يقاس بمدى إحسانه وإتقانه، وإحسان العمل في الإسلام ليس نافلة، بل هو فريضة كتبها الله على المؤمنين، كما كتب عليهم الصيام وغيره من الفرائض.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
والأصل في كلمة "كتب": أنها تفيد الوجوب والفرضية.
ويقول: "إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن".
فكما أن الله تعالى كتب الإحسان في العمل وأوجبه، فهو يحبه ويحب صاحبه.
بل إن القرآن لا يكتفي من المكلفين بعمل "الحسن"، بل يدعوهم إلى عمل "الأحسن" قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم)(الزمر:55).
(فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(الزمر:17-18)
بل القرآن يأمر بجدال المخالفين بالتي هي أحسن: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).(النحل:125)
ويأمر بدفع السيئة بالتي هي أحسن: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(فصلت:34)
وينهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)(الأنعام:152)
بل جعل القرآن الغاية من خلق الأرض وما عليها، وخلق الموت والحياة، وخلق السموات والأرض وما بينهما: ابتلاء المكلفين: (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا)(الكهف:7).
كما نطقت بذلك عدة آيات في كتاب الله: (هود: 7، والملك: 2، والكهف: 7)، فكأن التسابق بينهم ليس بين الحسن والسيئ، بل بين الحسن والأحسن. وينبغي أن يكون هم الإنسان المؤمن التطلع أبدا إلى الأحسن والأرفع، وفي الحديث: "إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن".
وفي حديث جبريل المشهور تفسير "الإحسان" حين سأل عنه جبريل فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وهذا تفسير لمعنى الإحسان في العبادة، وأنه يعني المراقبة والإخلاص لله تعالى، فالأعمال المقبولة عند الله تعالى لا ينظر إلى صورتها ولا إلى كمها، بل إلى جوهرها وكيفها، فكم من عمل مستوف لظاهر الشكل، ولكنه فاقد للروح الذي يهبه الحياة، ولذا لا يعتد به الدين، ولا يضعه في ميزان القبول.
يقول الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ)(الماعون(4-6).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الصوم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ويقول: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس من قيامه إلا السهر".
يقول تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)(البينة:5)، ويقول الرسول الكريم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
ولهذا عنى علماء الإسلام بهذا الحديث، وبدأ به البخاري جامعه الصحيح، واعتبره بعضهم ربع الإسلام، وبعضهم ثلث الإسلام، لما للنية من أهمية في قبول الأعمال، واعتبروه ميزانا لباطن الأعمال، كما أن حديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ـ أي مردود على صاحبه ـ يعتبر ميزانا لظاهر العمل.
وسئل أبو علي الفضيل بن عياض عن "أحسن العمل" في قوله تعالى: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فقال: أحسن العمل: أخلصه وأصوبه، قيل له: ما أخلصه وما أصوبه؟ فقال: إن الله لا يقبل العمل ما لم يكن خالصا صوابا، فإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وخلوصه: أن يكون لله، وصوابه: أن يكون على السنة.
وهذا معنى أحسن العمل في أمر الدين والتعبد، وأما الإحسان في أمر الدنيا، فهو الوصول به إلى درجة الجودة التي ينافس فيها غيره، بل يتفوق عليه، فلا مجال في الحياة إلا للمتقنين.
ومن الأحاديث النبوية التي لها دلالة في هذا المقام: ما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك".
فالحديث يرشد إلى أهمية إتقان العمل وحسن أدائه، ولو كان في أمر صغير كقتل الوزغة (ما يسميه العامة: البرص)، فهذا من إحسان القتل: "فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". وفي القتل السريع إراحة للمقتول أيا كان.
وكما لا تقاس الأعمال بكمها وحجمها، كذلك لا تقاس أعمار الناس بطولها.
فقد يعمر الإنسان عمرا طويلا، ولكن لا بركة فيه. وقد لا يطول عمره، ولكنه حافل بأعمال الخير، وخير العمل.
وفي هذا يقول ابن عطاء الله في حكمه: رب عمر اتسعت آماده، وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده، كثيرة أمداده! من بورك له في عمره، أدرك في يسر من الزمن من منن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة!
وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة ـ هي كل زمن البعثة ـ بارك الله في حياته فأسس أعظم دين، وربى أفضل جيل، وأنشأ خير أمة، وأقام أعدل دولة، وانتصر على الوثنية الكافرة، واليهودية الغادرة، وورث أمته ـ بعد كتاب الله ـ سنة هادية، وسيرة جامعة.
وأبو بكر رضي الله عنه في سنتين ونصف استطاع أن يسحق المتنبئين الكذابين، ويعيد المرتدين إلى حظيرة الإسلام، ويجندهم في فتح فارس والروم، وأن يؤدب مانعي الزكاة، ويحفظ للفقراء حقوقهم التي فرض الله لهم في أموال الأغنياء، ويسجل التاريخ أن الدولة الإسلامية هي أول من قاتل من أجل حقوق الفقراء.
وعمر بن الخطاب في عشر سنوات: فتح الفتوح في الخارج، وأرسى قواعد دولة العدل والشورى في الداخل، وسن سننا حسنة لمن بعده "أوليات عمر"، ورسخ دعائم الفقه الجماعي، وخصوصا فقه الدولة، القائم على اعتبار المقاصد، والموازنة بين المصالح، والتكافل بين الأجيال، وجرأ الناس على النصح للحاكم ونقده: "لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها" مع زهد في الدنيا، وقوة في الحق، وتحقيق للعدالة والمساواة بين الناس جميعا، إلى حد الاقتصاص من ولاة الأقاليم وأبنائهم.
وعمر بن عبد العزيز في ثلاثين شهرا (هي كل مدة خلافته): أحيا الله به من سنن العدل والهدى، وأمات به من بدع الجور والضلالة، ورد من المظالم، وأقر من الحقوق، ما أعاد للناس الثقة بالإسلام، فأمنت الأنفس من خوف، وطعم الناس من جوع، وانتشر الرخاء، حتى أصبح صاحب المال يهمه: أين يضع زكاته، فقد أغنى الله الناس.
والإمام الشافعي عاش أربعا وخمسين سنة ـ قمرية ـ (150_ 204هـ) وخلف وراءه هذه الكنوز العلمية الجليلة الأصيلة.
والإمام الغزالي عاش خمسا وخمسين سنة (450_ 505هـ)، وترك للأمة هذه الثروة العلمية المتنوعة الهائلة.
والإمام النووي عاش خمسا وأربعين سنة (631_ 676هـ) ترك فيها تراثا نفع الله به المسلمين كافة: في الحديث وفي الفقه، من الأربعين النووية في الحديث إلى شرح مسلم، ومن المنهاج في الفقه إلى روضة الطالبين والمجموع، وفي غيرها نجد له تهذيب الأسماء واللغات.
والأئمة الآخرون مثل: ابن العربي والسرخسي وابن الجوزي وابن قدامة والقرافي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن خلدون وابن حجر وابن الوزير وابن الهمام والسيوطي والدهلوي والشوكاني وغيرهم ملئوا الأرض علما وفضلا.
إن من الناس من يموت قبل موته، وينتهي عمره وهو محسوب على الأحياء، ومنهم من يحيا بعد موته، ويخلف من صالح الأعمال، أو نافع العلم، أو صالح الذرية والتلاميذ ما يضيف إلى عمره أعمارا تطول وتطول