البحث

التفاصيل

"وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

الرابط المختصر :

"وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

الحلقة الخامسة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441ه/يناير 2020م

ما ينفع الناس يمكث في الأرض:
قال تعالى:" أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ" (الرعد، آية : 17).
يضرب الله مثلاً للحق والباطل، للدعوة الباقية، والدعوة الذاهبة مع الريح، للخير الهادئ والشر المتنضح والمثل المضروب، هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار، ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء.
فسيلان هذه الأودية بقدرها، كل بحسبه وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء.
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان، هذا الزبد نافش راب منتفخ، لكنه بعد غثاء والماء من تحته سارب ساكن هادئ، ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل ولكنه يعد حيث يذهب ويبقى المعدن في نقاء وذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه يعد زبداً وخبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق يظل هادئاً ساكناً وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس، كذلك يضرب الله الأمثال وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات ومصائر الأعمال والأقوال وهو الله الواحد القهار، المدبر للكون والحياة، والعليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل، والباقي والزائل.
ويقول السعدي في تفسيره: شبه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح، وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد بما في المطر من النفع العام الضروري وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول فواد كبير يسع ماء كثير، كقلب كبير يسع علماً كثيراً، وواد صغير يأخذ ماء قليلاً كقلب صغير يسع علماً قليلاً وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها بالزبد الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها وأنها لاتزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة كذلك الشبهات والشهوات لايزال القلب يكرهها ويجاهدها بالبراهين الصادقة والإرادات الجازمة حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصاً صافياً ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره والرغبة فيه، فالباطل يذهب ويمحقه الحق، وقال هنا:" كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ" ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال.
هذا المثل القرآني الرائع يشبه باطل الدنيا بالزبد الذي يطفو فوق أسطح السيول المتدفقة بالماء في الأودية الضيقة والواسعة على حد سواء، أو بما يشبهه من الزبد الذي يطفو فوق أسطح المعادن الفلزية النفيسة والنافعة حينما يتم صهرها مع بعض المواد لتنقيتها من الشوائب العالقة بها وفي الحالتين يتضح أن الزبد الذي يحمله السيل ـ غثاء السيل ـ والزبد الذي يطفو فوق أسطح الفلزات المصهورة خبث الفلزات ـ لا قيمة لهما ولا فائدة في أي منهما، وكلاهما نهايته النبذ والإلقاء، وكذلك الباطل.
وفي المقابل يشبه هذا المثل القرآني الحق بما يمكث في الأرض مما ينتفع به الناس في الحالتين: ففي حالة السيول الجارية في الأودية ينتفع الناس بمائها ـ والماء سر من أسرار الحياة كما ينتفعون بما يحمله السيل من ثروات معدنية كبيرة تترسب بالتدريج على طول قاع الوادي الذي يندفع فيه السيل، وذلك مع سرعة جريان الماء المتدفق في الأودية وتناقض قدرته على الحمل فتترسب هذه المعادن كل حسب حجم حبيباته وكثافته النوعية: الأثقل فالأقل كتلة بالتدريج حتى يتم تمايز حمولة تلك السيول من المعادن وتركيز كل منهما في مناطق محددة من مجاري السيول، وتعرف هذه الترسبات المعدنية باسم رسوبيات القرارة وكثير من الثروات الأرضية كالذهب والفضة تتجمع بمثل هذه الطريقة لوجودها أصلاً بنسب ضئيلة في صخور الأرض، ويتم ذلك بتكرار هذه العملية لمرات عديدة عبر آلاف السنين، إن لم يكن عبر عشرات الآلاف من القرون، وهذه حقيقة لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله.
وفي حالة خامات الفلزات النفيسة كالذهب والفضة والبلاتين، والمفيدة كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير وغيرها، فإنه يضاف إلى تلك الخامات بعض المواد التي تساعد على انصهارها، وعلى تنقيتها مما فيها شوائب وهذه المواد المساعدة من مثل الحجر الجيري والرمل، وثاني أكسيد المنجنيز وغيرها تتحد مع مابتلك الفلزات من شوائب عند صهرها وتطفو فوق سطح الفلز المنصهر الصافي، وحينما يترك ليتبرد يتجمد على هيئة طبقة زجاجية سوداء، مليئة بالفقاعات الهوائية تشبه إلى حد بعيد غثاء السيل وما يحمل معه من شوائب وبانفصال طبقة الخبث يصبح الفلز في درجة عالية من الصفاء والنقاء وبه يشبه القرآن الكريم الحق في صفائه ونقائه.
والتشبيه في الحالتين: تشبيه الباطل بالزبد الجاف، وتشبيه الحق بما يمكث في الأرض فينتفع به الناس، جاء على قدر من الدقة اللغوية والعلمية، والإحاطة والشمول بالمعنى المقصود لم تكن متوافرة لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم ولا لأكثر من عشرة قرون بعد تنزله، مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، ويشهد بالنبوة والرسالة للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.

المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم


: الأوسمة



التالي
بعض وصايا أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)
السابق
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والشعر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع