فتاوى كورونا بين السياسة والتقليد والإبداع
أ. د. مجدي شلش
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
جدل كبير حول فيروس كورونا، هل من صنع الإنسان أو أنه لا دخل له فيه، من قال بأنه من صنع الإنسان اختلفوا هل خرج عن سيطرة من صنعه وأصابه كباقي البشر، أو أن التوظيف للفيروس يتم بعناية فائقة، لكل طرف شواهده وقرائنه التي يدعم بها وجهة نظره.
الواقع على كلا التصورين أن العالم يعيش أزمة كبيرة جراء انتشار الفيرس بصورة مذهلة أدت إلى شل حركة العالم بأسره، قويه وضعيفه، غنيه وفقيره، الكل حذر من القادم، حيث يتوقع ما هو أسوأ مما عليه الحال الآن.
منذ أن ظهر الفيروس في الصين وانتشر في غالب الدول، إلا وخرجت سيول من الفتاوى الشرعية المتعلقة بالتجمعات العبادية من صلاة جمعة وجماعة وعمرة وحج وصيام، وكانت الفتاوى تتسم بالآتي:
أولا: كثير من الهيئات والمؤسسات الشرعية التابعة للدول التي ظهر فيها الفيروس نظرت إلى التوجه السياسي لنظام الحكم، فإن اتجه إلى المنع من الجمع والجماعات خوفا من زيادة الانتشار، وحتى لا تحدث كارثة بين هذه التجمعات جاءت الفتاوى الشرعية قاطعة بالمنع، وبعضها حكم بالإثم إن خالف المسلم الفتوى، وأظهر الأدلة لهذه المؤسسات هو أن حفظ النفس مقدم على تلك الشعائر الدينية، لأنها ليست من قبيل الضروريات، وإنما من مكملاتها، والتي يقدم عليها حفظ النفس.
ثانيا: البعض الآخر من الهيئات والمؤسسات وبعض العلماء لم يأخذ نفس الموقف الحاد في فتواه، إنما تحفظ قليلا على المنع المطلق، ورأى أن هذه نازلة غير مسبوقة، فلم يشهد التاريخ الحديث أو القديم غلق المساجد،ومنع الجمع والجماعات، ومنع العمرة وفي الطريق الحج، والصيام على الأبواب، نعم نزلت بالأمة كوراث كثيرة لكن لم تؤد إلى المنع المطلق، ولذا جاءت الفتاوى وفق روح النظام السياسي ومدى حدته أو مرونته مع الجائحة.
ثالثا: كثير من الفتاوى الفردية لبعض العلماء الأحرار الذين لا يولون وجوههم نحو لقمة العيش، أو النظر السياسي للدولة التي يعيشون فيها جاءت أدق نظرا، وأبعد أثرا، حيث غلب عليها جانب التحفظ من المنع المطلق، أو الإذن المطلق، لكنها دارت حول النصوص الشرعية التي تلزم المسلم بهذه الشعائر، وأن التفريط فيها أمر لابد من حسابه جيدا، وبالأخص لو قلنا إن هذه الجائحة ابتلاء من الله للمسلم ولغير المسلم، لبعد الناس عن ربهم، فالفساد ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
فرفع البلاء لا يكون بالبعد عن الشعائر الظاهرة التي أساس مشروعيتها يجلب النفع والقرب من الله سبحانه وتعالى، وإنما يكون بكثرة التضرع واللجوء إليه، وشواهد هذا الاتجاه الذي لا يرى المنع المطلق من الكتاب والسنة كثيرة على أن هذه الجائحة سببها كثرة الظلم الذي وقع على العباد من الحكام، والأنظمة المجرمة التي لا ترعى في مسلم إلا ولا ذمة.
رابعا: هناك علماء يعيشون بعيدا تماما عن هموم الأمة، لا يرون في الجائحة لا عقابا ولا شيئا من ذلك، وأكثر أدلتهم على ما حدث في عصر الصحابة من طاعون عمواس الذي قضى على كثير من الصحابة، وهم خير خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لهم عقابا أبدا، لأنهم ما عصوا ولا أذنبوا حتى يبتليهم الله بالطاعون.
كان يسعهم عدم القطع الذي وقع في كلامهم بأنها ليست عقابا، أن يقولوا: لا تلازم بين الجائحة والعقاب، فقد تكون عقابا، وقد تكون محض ابتلاء للناس بلا سابق ذنب أو جريرة منهم، وفي هذا جمع بين النصوص والشواهد، حتى لا يظهر التعارض، فظواهر النصوص مع الطرفين، والمرجح مع النصوص فهم الواقع بآلامه ومرارته.
لكن الأكثر من العلماء وبالأخص الذي أوذي في نفسه أو ولده أو ماله، أو أخرج من بلده، ورأى الظلم الذي وقع على أبناء أمته، فصاروا على أيدي الظالمين قتلى وشهداء ومعتقلين ومشردين، والفيروس نال من الظالم بأن أذل كبرياءه، وحطم عظمته، وجعل جميع الظلمة يعانون مما يعاني من المظلومين من القتل والحبس والخوف، وشواهدهم من القرآن والسنة كثيرة.
وفي نظري عدة ملاحظات أراها مهمة، أولها: لا يستطيع أحد أن ينكر أن بعض الهيئات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية لا تسطيع أن تخرج عن إطار الدولة التي تعيش فيها، بعضها يهرول إلى الفتاوى التي ترضي السادة الذين يحكمون، وبعضها لا تصطدم وتمسك العصى من الوسط، حتى لا تتهم بالخروج عن الدولة أو الإرهاب، أو غير ذلك من التهم المعلومة، وهذه الهيئات والمؤسسات الفتوى منها غير ملزمة، مهما اتسقت مع شواهد شرعية ونصوص ظاهرية.
ثانيها: المؤسسات والهيئات التي تعيش في الغرب، ويعطي لها مساحة، الفتاوى منها في هذه الجوائح مسيسة في الغالب أيضا، حسب طبيعة النظام التي تعيش في كنفه، وتصبح في غالب الفتاوى لقمة العيش، والوجود من أجل الحياة،وهامش الحرية والأمن الهم المسيطر على الفتوى، ولذا في مثل هذه الجوائح التي يفتى فيها بتعطيل الشعائر، فيها نظر، ولو اتسمت أيضا بروح الشرع، ولبست ثوب المقاصد والحكم والعلل وغير ذلك.
ثالثا: بعض العلماء الذين لا يعرفون إلا مبدأ السلامة في الكلام والحركة، ولم يقع عليهم أي جانب من الظلم الذي عم على إخوانهم، وهم يعلمون مدى البلاء الذي وقع على البلاد والعباد وأثر الظلم الطافح في كل أرجاء البلاد، لا تؤخذ منهم فتوى متعلقة بأمر شعائر الله، الذين هم أول الناس تفريطا فيها، خوفا ووجلا من غدر السلطان.
رابعا: بقي الأمر عند أحرار العلماء الذين لم ترهقهم دنيا، ولم تذلهم مناصب أو كراسي أو وظائف، الفتوى منهم ملزمة، والرؤية منهم واجبة، والنصيحة لهم ألا يكونوا تقليدين أو مقلدين في الفتوى، فلكل عصر ما يناسبه، وهنا يأتي دور الإبداع في التعامل مع الجائحة، لا هو بالمنع المطلق لشعائر الله التي يكون المسلم في أشد الاحتياج لها، حتى يرفع الله البلاء، ولا بالإذن المطلق الذي يوقع المسلم في الضرر.
بعض العلماء فتحوا المساجد، وأقاموا الشعائر بالقدر الذي تيسر، فالميسور لا يسقط بالمعسور، فإذا تيسر بدون ضرر متيقن أو مظنون أن تؤدى الشعائر فالأمر بأدائها واجب لمن وجب منها، ومستحب لمن كان مسنونا، أما الغلق المطلق، أو الفتح المطلق فشر مطلق، والتوسط الذي لا يميل إلى أحدهما، بصورة مبدعة تقيم الشعيرة ولا يحصل الضرر فهذا موقف نبلاء العلماء.