رسالة توجيهية إلى المسلمين في أوروبا في منهجية التعامل مع الأزمات
الدكتور حسين حلاوة
يعيش المسلمون في أوروبا هذه الأيام ظروفاً صعبةً بسبب تصاعد الجدل السياسي والإعلامي الدائر في عدد من الدول الأوروبية حول الوجود الإسلامي في الغرب وتكرر الإساءة للمقدسات الإسلامية.
وينبغي لحسن التعامل مع هذه الأزمات أن نُحاول إلقاء الضوء على ثلاثة جوانب للإجابة على الأسئلة التالية:
ما هي الأسباب التي تقف وراء هذه الأوضاع الصعبة؟ وما هي منطلقاتنا الإسلامية الشرعية التي ينبغي أن تُوجّه تعاطينا معها؟ وما هي التدابير العملية التي ينبغي الأخذ بها لتجاوز الإشكالات القائمة؟
1 ـ أسباب الأوضاع الصعبة:
يمكننا القول بأن حالة التوتر والقلق التي تعيشها عدد من المجتمعات الأوروبية بخصوص الحضور الإسلامي في أوروبا تعود إلى عوامل عدة يجب فهمها حتى نُحسن تحليل الوضع والتعامل الصحيح معه؛ ويمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي:
- مرور العالم بحالة من عدم الاستقرار المتمثلة في حروب ونزاعات في عدد من مناطق التوتر التي تمس المسلمين في عدد من الدول: فلسطين، سوريا، العراق، إيران، أفغانستان، إفريقيا ... وانعكاس هذه الحالة على الملف الإسلامي عموما، والحضور الإسلامي في أوروبا بالتبعية.
- الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها العديد من الدول وتراجع مستويات الرفاه المادي لفئات اجتماعية عديدة في أوروبا، ويزيدها حدّة اليوم الأزمة الصحية المرتبطة بكورونا وتداعياتها اقتصاديا واجتماعيا.
- تصاعد الأفكار العنصرية في بعض الأوساط السياسية الأوروبية وأثرها في التجاذبات والمزايدات السياسية بين الأحزاب، خصوصا بمناسبة المواعيد الانتخابية.
- الأعمال الإرهابية التي حصلت وتحصل في بعض الدول الأوروبية ويتورط فيها أشخاص من المسلمين ممن لهم علاقة، أو تأثر بجماعات إرهابية كداعش وغيرها.
2 ـ منطلقاتنا الإسلامية الشرعية المُوجهة لتعاطينا مع الظروف الصعبة:
إن الظروف الصعبة المتمثلة في النظرة السلبية للإسلام والمسلمين التي تعرفها بعض المجتمعات الأوروبية، وتراجع مبادئ التسامح والقبول بالتعددية وما يمكن أن يصحبه من تضييق في مجال الحريات الدينية والثقافية لا يخرج عن قاعدة الابتلاء التي يتعرض لها المسلم في حياته، والتي يجب أن يتعامل معها من منطلق التوجيه القرآني الذي يذكرنا بما لقيه أنبياء الله من أقوامهم، وما تحلوا به من الصبر والتحمّل مع حسن التعامل والسعي للبيان ودرء الشبهات والمخاوف بالتي هي أحسن؛ والقرآن الكريم يزخر من خلال القصص القرآني بالعديد من التوجيهات التي يجب استلهامها في كل بيئة وزمان.
ومن هذه التوجيهات الربانية ما جاء خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم أمام ما كان يتعرض له من المعارضة والانتقاص والإيذاء؛ فيقول الله تعالى له: "فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين*إنا كفيناك المستهزئين*الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون*ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون*فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين* واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" الحجر 94 ـ 99
هذه الآيات تُرشدنا إلى مجموعة من المبادئ:
ـ الاجتهاد في بيان حقيقة الدين والتعريف به بالحكمة والموعظة الحسنة في كل الأحوال، دفعا للريبة والجهل وتصحيحا للمغالطات؛ فالإنسان عدوّ ما جهل وكل ما زادت معرفة الناس بحقائق الأشياء زال خوفهم منها
ـ الإعراض عن الأذى وعدم الانشغال به عن العمل الإيجابي في التواصل مع الناس وحسن معاملتهم
ـ اليقين بأن الله تعالى هو الحافظ لدينه ولأوليائه "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" الحج 38
ـ دوام اللجوء إلى الله تعالى، إذ أن المؤمن أمام ما يجده من ضيق في صدره بسبب الأذى الذي يلحقه في دينه وفي نفسه، فإن عليه أن يلجأ إلى الله تعالى ويحتمي بحماه ذاكرا مُسبّحا وساجدا وعابدا حتى يأتيه اليقين.
3 ـ التدابير العملية للتعاطي مع الأوضاع الصعبة:
ـ الاستمرار في تعميق معاني الانتماء والولاء للوطن الأوروبي الذي ينتمي إليه المسلم، وما يقتضيه ذلك من الحرص على الصالح العام وتوطيد عوامل الاستقرار والأمن والعيش المشترك في المجتمع؛ وذلك أسوة بأنبياء الله تعالى الذين، على الرغم مما كانوا يجدونه من أقوامهم من أذى، كانوا متمسكين بالانتساب إليهم والارتباط المصيري بهم فينادي كل نبي قومه: "يا قومي"
ـ بذل الجهد واستفراغ الوسع في مواجهة الإساءات العنصرية وخطاب الكراهية عبر الأشكال القانونية والحقوقية وطرق الاحتجاج السلمي.
.دوام الانفتاح والتواصل مع المجتمع وخصوصا مع قادة الرأي من المفكرين والسياسيين والإعلاميين لتوطيد عوامل العيش المشترك، وتجنب التعميم في الحكم السلبي على المجتمع ككل بسبب مواقف البعض؛ قال تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاَّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " المائدة 8
ـ التعاون مع جميع المُنصفين الذين يتبنّون خطابا تجميعيا لأبناء المجتمع الواحد، والاهتمام في هذا المجال بالحوار الديني مع أتباع الديانات المختلفة لتحقيق التقارب والتعاون لخدمة المجتمع
ـ توسيع المشاركة الاجتماعية للمسلمين في المجتمع ومشاركته همومه العامة في كل المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تجعل المسلم شريكا في كل ما يخدم الصالح العام ويحفظ الاستقرار والانسجام.
ـ الانحراط في العمل الخيري الإنساني الموجه للفئات الضعيفة في المجتمع والتخفيف من معاناة كبار السن والمحرومين من الرعاية النفسية والاجتماعية
ـ تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى بعض المسلمين خصوصا في مجال العلاقات مع غيرهم من خلال التعليم والتوجيه الإسلامي الرصين، وفق منهج الوسطية والاعتدال.
ـ العناية بتأطير الشباب المسلم وتحصينه من الأفكار المتطرفة التي يتم نشرها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتوجيههم للانشغال ببرامج مفيدة تُفجّر طاقاتهم فيما ينفعهم وينفع مجتمعاتهم
ـ الانفتاح في مجال نشاطاتنا الإسلامية على المجتمع لإزالة حالة الجفوة والتباعد، وتبني بعض التجارب المفيدة في هذا المجال كتجربة الأيام المفتوحة للمساجد والمراكز الإسلامية أمام الجمهور الواسع.
.التمسك بالمؤسسات الإسلامية الأوربية والالتزام بقراراتها وتوجيهاتها، وتثبيت مرجعيتها في التعامل مع الأزمات التي يمر بها الوجود الإسلامي في الغرب.
ـ الانتباه إلى مسؤولية الكلمة فيما نقوله وما نكتبه وما ننشره وما ننقله عن غيرنا سواء كان ذلك في المجال العام أو الخاص، دفعا لكل التباس أو تأويل خاطئ لما يصدر عنا.
ـ الالتزام الدقيق بالقوانين في مؤسساتنا الإسلامية وحسن إدارتها بشفافية تامة.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لنكون هداة مهتدين نافعين ومسددين، والحمد لله رب العالمين.