البحث

التفاصيل

منهجية الفتوى والافتاء في عصر التواصل الاجتماعي

منهجية الفتوى والافتاء في عصر التواصل الاجتماعي

بقلم: أ.د. محمد غورماز

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلقنا فأبدعنا ، ثم علمنا ما نفعنا وينفعنا ، والصلاة والسلام على خير من اقتُفي أثره، ودُرس خبره ، محمد بن عبدالله الأمين ، وعلى آله و صحبه أجمعين..

ثم أما بعد..

لقد شهد العالم خلال المئة عام الماضية تطوراً لم يشهده العالم خلال الخمسة آلاف عاماً الماضية، وقد تغير مع هذا التطور واقع الحياة، وطبيعة المعاش، وشكل الخطاب. ولم تعد تجدي بعض الآليات القديمة في إنتاج المعرفة، وزاد الطين بلة أننا نعيش اليوم لا في عصر التطور فحسب بل في عصر وسائل التواصل ، فقد فتحت الأخيرة هذه علينا باباً لا نعرف هو إلى جحيم أم نعيم، ووضعت البشرية في حالة من الإدمان لمتابعة المستجدات والأحداث لحظة بلحظة. وقد ترتب على هذا نقلة نوعية في كل الحقول المعرفية. فأصبحت المعلومات متاحة لكل أحد في أي وقت وفي أي مكان. ولم يعد لمجرد تجميع المعلومات تلك قيمة لا في الأكاديمي ولا حتى في المجال العام.

إن هذا التغيير الحاصل في العالم يوجب علينا تغيير منهجيتنا في التعامل معه ، بل يحتّم علينا تغير الاستراتيجية الكلية التي نتعامل بها مع عناصر المنظومة العلمية الإسلامية كافة، وخاصة جانب الفتوى والافتاء ، لأنها موجهة إلى عموم المسلمين ، وهي سهلة الحركة والتنقل، فهي تدخل كل بيت ، وتظهر في كل شاشة ، وتبرز في كل رسالة بعد دقائق بل ثوان من إصدارها.

أيها الإخوة الكرام.. أيها العلماء الأفاضل

إنني اليوم أتكلم بين يدي أساتذتنا وعلماءنا، الذين تعلمنا منهم كيف يكون التجديد على أصوله، فقد تعلمنا من حضراتكم فقه الميزان، وفقه المصالح ، وفقه المقاصد ، وغيرها الكثير، لكننا – واسمحوا لي بعد إذنكم أن أقول- نرى أن الفتوى في الواقع بعيدة عن الميزان والمصالح والمقاصد، ونعرف هذا بآثارها ، فقد أبعدت الشباب عن دينهم ، وشككت الجيل في منهج أمتهم ، ولم تترك لنا حجة في وجه من ينتقد الإسلام وعلماءه.

اسمحوا لي أن أطرح مثالين عمليين، عندما أحرق البوعزيزي نفسه قبل اثني عشر عاماً تقريباً ، انشغلت وسائل التواصل الاجتماعي وانشغل الكثير من العلماء معهم للأسف بحكم الانتحار، وأحكام المترتبة على قتل النفس، بدل التركيز على الظلم الذي أدى برجل إلى حرق نفسه، والطغيان السياسي والاقتصادي الذي أهلكه قبل أن يهلك نفسه، فخسر الكثير من العلماء رصيدهم من الاحترام والمرجعية العلمية  بسبب الخوض في تلك المسألة بتلك الطريقة .

وقبل أيام غرقت مواقع التواصل الاجتماعي بالكلام عن الصحفية بنت القدس شيرين أبو عاقلة ، وبدلاً من أن نركز على ظلم الاحتلال الإسرائيلي ، وانتهاك أعراض الناس وأموالهم ، وسرقة الأرض واغتصاب الحياة ، بل منع وصول الحقيقة بقتل الصحفيين ، ضجننا بالحديث عن حكم الترحم عليها ، وعن مآلها . وكلنا يعرف حكم من مات على غير الإسلام ، بل هو آية في كتاب الله، ولكن هل سألنا أنفسنا : هل هذا وقت الكلام أم وقت الصمت، وهل هذا أوان الوقوف إلى جانب القضية أم الانتصار لسائل أو مستفت.

أيها العلماء الكرام ..

إننا بحاجة إلى تجديد شامل في منهجية الفتوى والافتاء في عصر التواصل الاجتماعي، نحتاج استراتيجية قائمة على أربعة أركان:

  1. التأسيس على الأخلاق
  2. الحكمة في الخطاب كما وكيفا
  3. النظر إلى المآلات والنهايات
  4. التوازن بين العموم والخصوص

أما التأسيس على الأخلاق فهو إعادة بناء فقنا على الأصل الائتماني لا على الأصل الائتماري ، وجعل الأخلاق في الفتوى أساسا لا إضافة ، وضرورة لا تحسينياً، ونحن بهذا نعيد مركزة البوصلة مرة أخرى إلى ما يريده منا الله سبحانه ، وما أراده منا رسوله : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

وأما الحكمة في الخطاب كما وكيفا، فنعني به أن نعرف الكمية والكيفية التي ينبغي أن يخاطب بها كل مستوى من مستويات المجتمع، فما يُتحدث به في مجلس علمي كهذا بين علماء أفذاذ ، لا يتحدث به على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا أمام الكاميرات التي تبث لكل أحد. لا لأن هناك أسراراً ، بل لأن طبيعة الخطاب تختلف وطبيعة المصطلحات وطبيعة اللغة تختلف، ومن الظلم تعريض جيل كامل من الشباب لما يصده عن دينه وعقيدته.

وأما النظر إلى المآلات فهو أصل متعلق بالنظر إلى ما تنتهي إليه الفتوى، فقد تكون الفتوى صحيحة في ذاتها ، لكنها ليست مناسبة لسياق ما ، لأنها ستفهم بشكل مختلف، أو ستصدر للصحافة بشكل مختلف، أو سيتم توظيفها بشكل مختلف، والعالم ابن عصره أيضاً لا ابن تراثه فقط. فالفتوى ينبغي أن تكون من اسمها فتية ، فما بال فتاوينا أصبحت شائبة متهالكة يهدها طرف من ريح التغيير.

أما التوازن بين العموم والخصوص ، فهو أصل يدور حول التفكير حين الفتوى بين ما يجب تعميمه وما يجب تخصيصه، والغلط في هذا كما تعرفون يؤدي لنتائج كارثية ، فالشاب الذي يستمع إلى الحكم عليه بالكفر مطلقاً لارتكابه خطأ نتج عن جهله ، سيغلق الباب وراءه.

أيها العلماء الكرام ..

إن هذه الأصول ليست جديدة ، بل هي متجددة من داخل تراثنا وعلومنا ، وأنا فيها تلميذكم، ولا مناص أمامنا أيها الإخوة الكرام من تشكيل استراتيجية جديدة للفتوى والافتاء في عصر التواصل الاجتماعي هذا، حتى لا نعرّض أنفسنا وأمتنا للمهالك المعرفية والإيمانية والسلوكية، فالعالم لا يكون عالماً إلا إذا خاطب العالَم، والمؤسسة العلمائية لا تكون مؤسسة علمائية بحق إذا لم يكن علمها شعاراً وحكمتها دثاراً. وأذكر نفسي أولاً وإياكم بأننا إذ ندخل فرن التواصل الاجتماعي، علينا أن نحرص أن يخرج خبزنا غذاء يحيي الإنسان ويبنيه ، لا رماداً يعمي الإنسان ويؤذيه.

واقترح نهاية أن نحيل إلى لجنة فتوى في الاتحاد مشروع كتابة كتاب عن استراتيجية الفتوى ، يحال إليها عند كل مشكلة كتلك المشاكل ، وأن يلتزم أعضاء الاتحاد جميعاً بأصول الفتوى والافتاء فيها، علنا ننتقل إلى تفعيل الفتوى الجماعية الحقة في كل ملمة من ملمات الأمة .

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أ.د. محمد غورماز . رئيس الشؤون الدينية السابق في تركيا ، عضو مجلس الامناء في الاتحاد





التالي
بمشاركة ثُلة من علماء الاتحاد.. "منار الإسلام" يقيم ندوة علمية حول "يوسف القرضاوي: قرن من البذل والعطاء"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع