البحث

التفاصيل

معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين الزنكي (2)

الرابط المختصر :

معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين الزنكي (2)

(بناء دولة العقيدة على أصول أهل السنة)

بقلم: د. علي الصلابي

(اقرأ: معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين الزنكي (1) (الحرص على تطبيق الشريعة)

كان نور الدين رجل عقيدة ، وكان أظهر ما في خصائصه هو إيمانه الإسلامي العميق ، قال عنه ابن كثير: «... كان مجاهداً في الفرنج ، امراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، صحيح الاعتقاد ، وكان قد قمع المناكر وأهلها ، ورفع العلم والشرع ، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله».

وكان رحمه الله يملك رؤية نهوض قائمة على إحياء السنة ، وقمع البدعة. قال عنه ابن كثير: «أظهر نور الدين ببلاده السنة ، وأمات البدعة ، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح ، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده ، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرفض كان ظاهراً». (الجهاد والتجديد ص 330)

وكان يعاقب المبتدعة بأشد العقوبات: قيل: إن رجلاً أظهر شيئاً من التشبيه ، فأُركب على حماره ، وأمر بصفعه ، وطيف به في البلد ، ونفاه إلى حرَّان. وكان نور الدين يتحرى السنة في أموره كلها ، ومن أعظم إنجازات دولته هو إسقاط الدولة الفاطمية ، وكان الفضل لله ثم للحملات المتوالية ، التي أرسلها نور الدين محمود؛ حتى خلص المسلمين من شرورها ، وأعلن تبعيتها للخلافة العباسية السنية، وكان رأي نور الدين في الدولة العبيدية الفاطمية ، يتلخص في رسالته للخليفة العباسي ، وهو يبشره بفتح مصر ، وسقوط دولة الإلحاد ، والرفض ، والبدعة. (الجهاد والتجديد ص 331)

يقول فيها: «وطالما بقيت 280 سنة مملوءة بحزب الشياطين... حتى أذن الله لغمتها بالانفراج ، واجتمع فيها داءان: الكفر ، والبدعة ، وتمكنا من إزالة الإلحاد والرفض ، ومن إقامة الفرض»، وسيأتي الحديث عن أساليب ومنهج نور الدين في إزالة الدولة الفاطمية في مصر. (الجهاد والتجديد ص 331)

دور نور الدين في دعم المذهب السني:

مهدت مدارس نظام الملك ـ رحمه الله ـ السبيل ، ويسرته أمام نور الدين ، والأيوبيين ، فأضحى الطريق معبداً لتحقيق الهدف الذي أنشئت النظاميات من أجله؛ وهو العمل على مناهضة الفكر الشيعي ، ودعم المذهب السني ، وقد عقد نور الدين العزم على صبغ دولته بالكتاب والسنة ، ومواجهة الفكر الشيعي الرافضي ، والذي كان محصوراً في حلب ، ودمشق ، ومصر ، وبذل جهوداً كبيرة ليمكّن لمذهب السنة إلا أن هذه الجهود كانت تختلف في طبيعتها باختلاف هذه البيئات الثلاث. وإليك جهود نور الدين محمود في الأقاليم الثلاثة: (التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني ص 206)

1 ـ جهود نور الدين في حلب: أخذ نفوذ الشيعة في حلب يظهر بوضوح في أواخر أيام سيف الدولة الحمداني (333 ـ 356 هـ / 944 ـ 967) لأن بني حمدان كانوا يعتنقون مذهب الشيعة الإمامية ، فيسَّروا لدعاة هذا المذهب الطريق لنشر الدعوة فيها ، ثم عملوا بعد ذلك على إزالة شعائر السنة ، وإحلال شعائر الشيعة محلها ، وذلك عندما غير سعد الدولة أبو المعالي (356 ـ 381 هـ / 967 ـ 991 م) ابن سيف الدولة الأذان بها في عام 367 هـ / 977 م ، وزاد فيه: حيَّ على خير العمل محمد وعلي خير البشر، فكان هذا مبدأ ظهور الإمامية بحلب، وما زال نفوذهم يزداد نتيجة لتعاقب بعض الأسر الشيعية على حكمها: كال مرداس ، والعقيليين ، حتى أصبح شعار الرفض بها ظاهراً. إلى جانب الشيعة الإمامية وجدت قلة من الشيعة الإسماعيلية ، ازداد نفوذهم في حلب في عهد رضوان بن تتش الذي أمل أن ينصروه على أخيه دقاق ، ويساعدوه في أخذ دمشق منه ، ومن ثم بنى لهم بحلب أول دار للدعوة ، ودعا على منابرها للفاطميين فترة يسيرة من الزمن ، ومن هؤلاء وأولئك تكون مجتمع الشيعة في حلب. (زبدة تاريخ حلب، 1/172)

ومعظم هؤلاء الشيعة كانوا متعصبين ، فقد كان المذهب الشيعي متغلغلاً في حلب، فقام نور الدين محمود باتخاذ خطوات سياسية ، واكبتها في الوقت نفسه خطوات فكرية هامة؛ ففي رجب من عام 543 هـ / 1148 م أي بعد عامين تقريباً من استقراره في حلب ، رأيناه يأمر الشيعة بترك حي على خير العمل في الأذان ، وينكر عليهم إنكاراً شديداً ، ويمنعهم من سَبِّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، ويحذرهم من مغبة العودة إلى ما نُهوا عنه ، فعَظُمَ هذا الأمر على الإسماعيلية ، وأهل التشيُّع ، وضاقت به صدورهم ، وهاجوا ، وماجوا ، ثم سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية المشهورة ، والهيبة المحذورة.

2 ـ جهود نور الدين في الإحياء السني في دمشق: استولى نور الدين على دمشق في صفر من عام 549 هـ / 1154 م ، ومن ثم واصل جهوده لتنفيذ خطته في دعم العقيدة السنية ، وكان منهجه في دعم المذهب السني في دمشق قد خضع لزيادة في أعبائه العسكريـة ، حيث أصبح مجاوراً لمملكة بيت المقدس أكبر المراكز الصليبية قوة ، وأخطرها شأنـاً ، ولذا فإن المنهـج الذي سلكـه نور الدين في دعم المذهب السني قصد إلى مواجهة هذه الحالة من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا بدَّ أن تصبح دمشق بمثابة مركز إشعاع عقائدي ، تنطلق منه جهود علماء السنة ، للقضاء على المذاهب المنحرفة ، وتمهيد الطريق لسيطرة المذهب السني ـ الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأصحابه ـ ولذلك رأينا خطة نور الدين في دمشق تسير في ثلاثة اتجاهات رئيسية. (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، 1/202)

الاتجاه الأول: تركز في العناية بإنشاء المدارس السنية ، وَرُبُطِ الصوفية ، غير أن مدارسه في دمشق اهتمت بفقهاء المذهبين الحنفي ، والشافعي ، وكانت عناية نور الدين بمدارس الفريق الأول أكثر ، استجابة لميل طبيعي إلى هذا المذهب ، الذي كان يعتنقه دون تعصب.

وأما الاتجاه الثاني: فكان منصباً على العناية بالحديث الشريف دراسة وتدريساً ،ومن ثم بنى أكبر دار للحديث في دمشق ، ووكَّل أمر مشيختها إلى أحد أعلام عصره ، وهو الحافظ الكبير: تقي الدين أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عساكر (ت 571 هـ / 1175 م).

 

الاتجاه الثالث: كان موجهاً إلى العناية بتربية النشء تربية سنية ، فإن نور الدين بنى في دمشق وغيرها من البلاد مكاتب للأيتام ، وأجرى عليهم وعلى معلميهم النفقات الوفيرة ، كما خصص للأيتام الذي يقرؤون القران ـ بالمساجد التي شيدها ـ أوقافاً معلومة. يذكر ابن كثير: «أن نور الدين وقف وقفاً ، على من يعلم الأيتام الخط والقراءة ، وجعل لهم نفقة وكسوة».

3 ـ عوامل نجاح نور الدين في تحقيق برنامجه الإصلاحي: إنَّ جهوده جاءت تالية لجهود المدارس النظامية ، فانتفع بما حققته من نتائج ، وفي مقدمتها: تخريج جيل يحمل على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السني ، والانتصار له.

كان نور الدين كقائد سياسي وعسكري على قناعة راسخة بالخطورة العظيمة التي يمثلها المدُّ الشيعي الرافضي في سبيل نهوض الأمة ، والاستمرار في المقاومة للصليبيين ، ولذلك جعل من أهدافه القضاء على الدولة الفاطمية ، التي ترعى الفكر الشيعي الرافضي ، والعمل على التصدي لدعاة التشيع الرافضي بالفكر ، والعلم ، والثقافة ، والسياسة ، والقوة.

إن نور الدين محمود أيقن بأن العقيدة التي تصلح لجمع شتات المسلمين ، هي ما كان منبعها كتاب الله ، وسنة رسوله، ويمكن التدليل على كل أصل من أصولها ، أو جزئية من جزئياتها ، ثم إن السلف الصالح ، الذين استقاموا على عقيدة الإسلام الحق دوَّنوا هذه العقيدة تدويناً ميزها عن عقائد أهل الفرق والضلال ، فلذلك عمل على معرفتها، وتعليمها ، وتربية الناس عليها من خلال جهاز العلماء في الدولة ، فالطريق للنهوض لابد فيه من وحدة الصف ، ووحدة الصف ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح ، والإسلام الصحيح مصدره القران والسنة ، والطريق لفهم القران والسنة هي طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأصحابه الكرام ، والتابعين بإحسان ، ومن سار على نهجهم وطريقتهم إلى يوم الدين. (البداية والنهاية نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري ص 217)

 

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: "عصر الدولة الزنكية" للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • البداية والنهاية، عماد الدين ابن كثير.
  • كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، أبو القاسم شهاب عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المشهور: بأبي شامة.
  • الجهاد والتجديد، إبراهيم العبادي.
  • التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني، د. عبد المجيد بدوي.
  • عصر الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع