حوار بين حاجين حول جبر الخواطر
الأستاذ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(سلسلة خطبة الجمعة)
عباد الله، يقول تعالى في سورة يوسف: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ)؛ [يوسف: 15]، لقد أوحى الله ليوسف ما يُؤنِسُ وحشته، حين ألقاه إخوته في الجُبِّ الذي ابتعد فيه عن حنان أبيه وأنسه بأخيه ، ومفارقته لبلده التي درج فيها، وأُنْسه بالبيئة التي اعتاد عليها . [تفسير الشعراوي (ص: 4377)]، وفي هذا جبر من الله تعالى ليوسف عليه السلام بقوله: “أوحينا إليه”، حيث فسرها العلماء بأنها مواساة، وجبر لخاطر النبي يوسف عليه السلام عندما أجمع إخوته أن يرموه في البئر، فواساه الله عز وجل؛ لأنه تعرض للظلم من إخوته، فكان بحاجة للتسلية وجبر الخاطر، ليربط على قلبه ويصبر على أذاهم.
عباد الله، جبر الخواطر، من العبادات المهجورة في مجتمعنا والتي ينبغي على كل مؤمن أن يدخلها ضمن برنامج يوم المؤمن وليلته، والجبر من اسم الله الجبار، والجبر؛ أي المواساة، وجبر الخاطر؛ أي تطييب قلبٍ المؤمن، ومواساةُ الغني للضعيف، والقويٍّ للفقير، وجبرُ الخاطر قد يكون بكلمة بإدخال السرور على قلب أخيك، ومشاركته أحزانه، فجبر الخاطر لا يقتصر على المال، والكلمةُ الطيبة هي جبر للخاطر، وجبر الخواطر عبادة لها أجر عظيم عند الله عز وجل؛ لأن من جبر خاطر أحد، سيجبر الله خاطره ولو بعد حين.
عباد الله، لعل الخاطر الذي تجبره، يُحبه الله تعالى، فيُحبك الله بجبرك لخاطر يُحبه. يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله: (ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، مثل: جبر خاطر أخيه المسلم). وصنائع المعروف تدخل ضمن جبر الخواطر، فقد روى الطبراني، عن أبي أمامة الباهلي -رضيَ الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (صَنائعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، وصدَقةُ السِّرِّ تُطفئُ غضبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ تَزيدُ في العُمُرِ). [أخرجه الطبراني (8/261 ، رقم 8014) . قال الهيثمي (3/115) : إسناده حسن]، وفي الرواية الأخرى التي رواها الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك -رضيَ الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (صَنائِعُ المَعْرُوفُ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ والآفَاتِ والهلكَاتِ، و أهلُ المعروفِ في الدنيا هُمْ أهلُ المعروفِ في الآخرةِ). [أخرجه الحاكم (1/213 ، رقم 429)] . ويأتي مصطلح صنائع المعروف ليشمل كل ما يمكن أن يقوم به المسلم من الطاعات المختلفة التي يكون من شأنها أن ينال رضا الله -تعالى-، ويكون محسناً مع الخلق من حوله. وطالما كان الإنسان قادراً على تقديم المعروف والقيام به فليعجّل في ذلك، خوفاً من أن يفوته فيورثه ندماً لا يمكنه العودة فيه، فمن أتته الفرصة وأضاعها في وقتها فقد فاتته. ويُقصد بمصارع السوء؛ أيّ ميتة السوء، فمن كان حريصاً على تقديم المعروف والإحسان للآخر من برّ الوالدين، والصدقة، وصلة الرحم، وإعانة المحتاج، وغيرها، عافاه الله من ميتة السوء. وقد استعاذ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من ميتة الهدم، والتّردي، والغرق، والحرق، وأن يُقتل في أرض المعركة مدبراً مولياً، ثمّ فسّر بعض العلماء مصرع السوء بالموت فجأة، أو الموت على مرأى الناس؛ كمن يموت مصلوباً. ومن الأمثلة على صنائع المعروف، ما رواه مسلم في صحيحه، فيما ذكرت سيدتنا خديجة -رضيَ الله عنها- لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وهي تطمئنه على نفسه لما أخبرها أنه خشي على نفسه عند بدء الوحي، فقالت له: (أبْشِرْ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ). [صحيح مسلم ( 1/97 ح 422)]، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث المتضمّنة للكثير من أشكال المعروف التي يقوم بها المسلم، فتكون سبباً للوقاية من مصرع السوء،ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي: إعانة الآخر، والتيسير على المسلمين، وسترهم، وقضاء حوائج الناس، والسعي في خدمتهم، وبذل المعروف والإحسان إليهم، روى مسلم في صحيحه، أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ). [صحيح مسلم 8/71 ح 7021)]، وفي شأن جبر الخواطر، هناك قول مشهور بين الناس: (من سار بين الناس جابرًا للخواطر، أدركه الله في جوف المخاطر)، أيّ أنّ الإنسان الذي يُغيث الملهوف، ويُسارع في جبر خاطر المنكسرين من حوله، فإنّه وفي يوم من الأيام، عندما يقع في شدة كبيرة، سوف ينقذه الله -عز وجل- من هذا الخطر، كما سارع في إنقاذ غيره، وجبر بخاطره.
عباد الله، إن أجمل شعورٍ يُمكن أن ينقلك إلى عالم من السعادة ويغير حياتك، هو أن تجبر خواطر الناس، وهذه القصة الواقعية نموذج عملي، وكافية لأن تصحح لك الأمور، وتغير نظرة حياتك.
فهذان رجلان حجا بيت الله الحرام، وأثناء العودة إلى ديارهم، جلسا في قاعة الانتظار بمطار جدة الدولي، فتحدث رجل إلى الآخر، فقال لصاحبه بالجنب وهو يفتخر: أنا أعمل مقاولا، وقد أنعم الله علي بالحج هذا العام للمرة العاشرة، فأومأ الرجل الآخر – وكان اسمه سعيد – برأسه وقال : حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا، وابتسم الرجل وقال لسعيد :أجمعين إن شاء الله تعالى، وأنت هل حججت قبل ذلك؟
أجاب سعيد بعد تردد:والله يا أخي إن لحجتي هذه الوحيدة قصة طويلة، ولا أريد أن أوجع رأسك بها.
ضحك الرجل وقال: بالله عليك أخبرني ، فكما ترى ؛نحن لا نفعل شيئا سوى الانتظار ، ابتسم سعيد وقال :نِعْم الانتظار؛ وهو ما تبدأ به قصتي، فقد انتظرت سنين طويلة حتى حججت هذه الحجة في هذ السنة المباركة، فبعد ثلاثين عاما من العمل، وأنا معالج فيزيائي في مستشفى خاص، استطعت أن أجمع كلفة الحج، نظرا للمصاريف العائلية التي تثقل كاهلي، وفي نفس اليوم الذي ذهبت لأخذ حسابي من المستشفى، وافقت في طريقي إحدى الأمهات التي أعالج ابنها المشلول، وقد كسا وجهها الهمَّ والغمَّ؛ وقالت لي : أستودعك الله يا أخ سعيد؛ فهذه آخر زيارة لنا لهذا المستشفى، استغربت من كلامها ، وحسبت أنها غير راضية عن علاجي لابنها؛ وتُفكر في نقله لمكان آخر، فقالت لي: لا يا أخ سعيد، يُشهد الله أنك كنت لابني أحن من الأب، وقد ساعده علاجك كثيرا بعد أن كنا قد فقدنا الأمل به ، ومشت حزينة ! استغرب الرجل الحاج، وقاطع سعيد قائلا: غريبة هذه السيدة، إذا كانت راضية عن أدائك، وابنها يتحسن، فلم تركت العلاج ؟! أجابه سعيد : هذا ما شغل تفكيري وقتها، فذهبت إلى الإدارة، وسألت عن ظروف الصبي، فتبين أن والده فقد وظيفته، ولم يعد يتحمل نفقة العلاج، حزن الرجل الحاج وقال :لا حول ولا قوة إلا بالله، مسكينة هذه المرأة، وقال لسعيد: وكيف تصرفت ؟ أجاب سعيد :ذهبت إلى مدير المستشفى، ورجوته أن يستمر علاج الصبي على نفقة المستشفى، ولكنه رفض رفضا قاطعا وقال لي: هذه مؤسسة خاصة، وليست جمعية خيرية .خرجت من عند المدير حزينا مكسور الخاطر على المرأة وابنها.
وفجأة وضعت يدي على جيبي الذي فيه نقود الحج، فتسمرت في مكاني لحظة، ثم رفعت رأسي إلى السماء وخاطبت ربي قائلا :(اللهم أنت تعلم بمكنون نفسي، وتعلم أنه لا شيء أحب إلى قلبي من حج بيتك؛ وزيارة مسجد نبيك صلى الله عليه وسلم، وقد سعيت لذلك طوال عمري، ولكني آثرت هذه المسكينة وابنها على نفسي، فلا تحرمني فضلك)، وذهبت إلى المحاسب، ودفعت كل ما معي له عن أجرة علاج الصبي لستة أشهر مقدما جبرا لخاطرها ومساعدة لعلاج ابنها، وتوسلت إليه أن يقول للمرأة بأن المستشفى لديها ميزانية خاصة للحالات المشابهة،. تأثر الرجل الحاج، و دمعت عيناه وقال : بارك الله فيك ،وفي أمثالك، ثم قال : إذا كنت قد تبرعت بمالك كله، فكيف حججت إذن ؟! فأجاب سعيد: رجعت يومها إلى بيتي حزينا على ضياع فرصة عمري في الحج ، ولكن الفرح ملأ قلبي، لأني فرجت كربة المرأة وابنها ، وجبرت خاطرهما، فنمت ليلتها ودمعتي على خدي، فرأيت في المنام أنني أطوف حول الكعبة، والناس يسلمون علي ويقولون لي : (حجا مبرورا يا حاج سعيد، فقد حججتَ في السماء قبل أن تحج على الأرض ، دعواتك لنا يا حاج سعيد). فاستيقظت من النوم وأنا أشعر بسعادة غير طبيعية ، فحمدت الله على كل شيء، ورضيت بأمره .وما إن نهضت من النوم، حتى رن الهاتف، وإذا به مدير المستشفى يقول لي : أنجدني يا سعيد؛ فصاحب المستشفى يريد الذهاب إلى الحج هذا العام، وهو لا يذهب دون معالجه الخاص، لكن زوجة معالجه في أيام حملها الأخيرة، ولا يستطيع تركها، فهلا أسديتني خدمة ، ورافقته في حجه، فسجدت لله شكرا، وكما ترى، فقد رزقني الله حج بيته دون أدفع شيئا والحمد لله، وفوق ذلك؛ فقد أصر الرجل صاحب المستشفى على إعطائي مكافأة مجزية لرضاه عن خدمتي له ، وحكيت له عن قصة المرأة المسكينة، فأمر بأن يعالج ابنها في المستشفى على نفقته الخاصة، وأن يكون في المستشفى صندوق خاص لعلاج الفقراء ، وفوق ذلك، فقد عين زوجها بوظيفة في إحدى شركاته، وأرجع إليَّ مالي الذي دفعته مقابل علاج الطفل. أرأيت يا أخي الحاج؛ فضل ربي أعظم من فضلي؟ والله تعالى الجبار الكريم إذا أعطى أدهش، وإذا بدأ أتم، وقد جبر خاطري أكثر مما قمت به!
نهض الرجل الحاج صاحب عشر حجات، وقبَّل الحاج سعيد على جبينه قائلا :والله لم أشعر في حياتي بالخجل مثلما أشعر الآن، فقد كنت أحج المرة تلو الأخرى، وأحسب نفسي قد أنجزت شيئا عظيما ، وأن مكانتي عند الله ترتفع بعد كل حجة، ولكني أدركت الآن؛ أن حجك بألف حجة من أمثالي؛ فقد ذهبت أنا إلى بيت الله، أما أنت فقد دعاك الله إلى بيته، ومضى الرجل الحاج وهو يردد: تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
عباد الله، هذه صورة واحدة من صور جبر الخواطر المتعددة، و ثمرة من ثمرات هذه العبادة المهجورة في عالم الماديات والأنانيات، والتي هي كافية لتغيير حياتنا إلى أفضل، وقلب موازيننا إلى ما هو أحسن.
عباد الله، إن لعبادة جبر الخواطر فوائد عديدة منها ؛ أن جبر الخواطر لا تكون آثره الطيبة على من له حاجة فقط، وإنما تفيد صاحب جبر الخاطر إذ يكون الله عز وجل بجانبه، ويكون معه في حاجته في الدنيا وفي الآخرة، وينال صاحبها الأجر العظيم، فقد وعده الله عز وجل بأفضل الجزاء. ويبقى صاحب جبر الخاطر هانئاً مطمئن البال؛ لأنه يعلم أنه قد نفس كربة عن أخيه، فمن نفس عن أخيه كربة في الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. وقد أخبرنا رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أن من لقي أخاه بما يحب لِيُسرَّه في ذلك؛ سرّه الله عز وجل يوم القيامة، وعندها يلقى الله على الوجه الذي يحب، فيتمنى لو يعود فيعمل أكثر وأكثر، فهنيئاً لمن عمل وجعل خبيئته ممتلئة، وما أجمل هذه العبادة التي تكون ولو بكلمة طيبة! لا يُبذَل مجهوداً بها ، لكنها تجبر الخواطر. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.