البحث

التفاصيل

ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب

الرابط المختصر :

بسم الله الرحمـن الرحيم

ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب

بقلم: د. أحمد الإدريسي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمرنا الله تعالى أن نعظم شرعه وشعائره، وأن نحتسب العبادات وأعمال الجوارح لله عز وجل؛ لأن القصد من الأعمال التعبدية تعظيم شعائر الله تعالى، فقال عز وجل: "ذَلكَ وَمَنْ يُعَظِّم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب"(الحج:32).

ولتعظيم شعائره سبحانه؛ ينبغي للمؤمن، وطالب الإحسان أن يعيش معاني الحج وأسراره وهو في بلده، وأن يحضُـر بروحه وقلبه مع الحجاج وهم يؤدون مناسك الحج، وذلك منذ أول يوم من شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق. فيكثر من التكبير، والتهليل، والتحميد؛ فهي الأيّام المعلومات التي ورد الحضّ فيها على الذكر. إضافة إلى التوبة، والاستغفار، والإقلاع عن المعاصي. والتقرُّب إلى الله بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن. وتعظيم شعائر الله لما يُـستقبل من أيام مناسك الحج، يأتي مرتبا زمانا ومعنًى، كما يلي:

  1. العشر الأولى من شهر ذي الحجة:

هذه الأيام أيام مباركة، حيث يضاعف فيها الأجر والثواب، قال تعالى: وَاَلفَـجْرِ وَلَيَـالٍ عَشْرٍ وَاَلشَّفْعِ وَاَلْوَتْرِ"(الفجر:1-3). قال ابن كثير: (والليالي العشر؛ المراد بها عشر ذي الحجة)[1]. وقد أجمع العلماء على تمـيُّز هذه الأيام، ففيها فريضة الحجّ التي تُعَدّ من أعظم الفرائض. لذلك فضّلها الله تعالى، وأَفردَها عن غيرها من الأوقات بالعديد من الفضائل والميّزات؛ شَحذاً للهِمَم والعزائم، وسَعياً إلى زيادة الأجور والحَسنات؛ إذ تجتمع فيها أمّهات العبادات؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وغيرها، ولا يكون ذلك في غير العَشر من أيّام السنة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها؛ وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها)[2].

 ويستحبُّ لمن أراد أن يضحي ألا يمس من شعره وبشره شيئا فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا)[3].

2- يوم عرفة:

الإكثار من الذكر يوم عرفة، الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم من صامه[4]، بتكفير ذنوب السنة الماضية والسنة القابلة، فقد روى الإمام الترمذي عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عرفة؛ إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله) [5].

3- الأضحية وأيام التشريق:

وبعد يوم عرفة يأتي يوم النحر وأيام التشريق، وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من هذا الشهر المبارك، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)[6]. فقد شرع فيها أعلى العبادات، ولم يمنع فيها إلا الصيام، ومما ورد عن أيام التشريق؛ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: (وسِـرُّ كون العبادة فيها أفضل من غيرها؛ أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها، وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب، فصار للعابد فيها مزيد فضل على العابد في غيرها، كمن قام في جوف الليل وأكثر الناس نِـيام)[7].

والمقصود الأساس من الأضحية هو؛ تحقيق معاني العبودية، وأن يخضع العبد لربه ومولاه لتأتي الثمرة وهي تقوى الله عز وجل، وإصلاح ما يكون به صلاح للفرد والمجتمع، ألا وهو القلب، كما يُقصد من الأعمال التعبدية تعظيم شعائر الله، قال عز وجل: "وَمَنْ يُعَظِّم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب". وقد رد في فضل أضحية العيد أحاديث كثيرة، ومنها:

- عن عليٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأيها الناس ضحُّوا واحتَسِبُوا بِدِمَائِها فإن الدم وإن وقعَ في الأرض فإنه يقعُ في حِرْزِ الله عز وجل"[8].

- ما روي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل آدميٌّ من عمل يَوْمَ النَّحْرِ أحبَّ إلى اللهِ من إِهْرَاقِ الدَّمِ، وَإنَّهُ لتَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فِي فَرْشِهِ بِقُرُونِهَا وَأشْعارِهَا وَأظْلافِهَا، وَإنَّ الدم ليَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَان قبل أن يَقَعَ منَ الأرضِ فَطِيبُوا بِها نفساً"[9].

- عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضَحَّى طَيِّبَةً نَفْسُهُ مُحْتَسِباً لأضحيتِهِ كانت له حجاباً من النار"[10].

       ومن تعظيم شعيرة الأضحية أن نجعلها قربة إلى الله، وذلك من خلال ما يلي:

- ذكر الله عز وجل عند ذبحها.

- التعبد لله تعالى وطاعته فيما أمرنا به، امتثالا لقوله تعالى: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرِ"[11].

وقوله تعالى: "قُلِ إنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَماتِيَ للهِ رَبِّ العَالَمينَ لا شَريكَ لَهُ"[12].

- اتباع سنة أبينا إبراهيم عليه السلام؛ ففي اتباعنا له في هذه السنة تذكير بذالك الموقف الكبير والفداء العظيم والامتثال الكبير من سيدنا إبراهيم لله رب العالمين في طاعته حيث أمره أن يذبح إبنه إسماعيل، وكيف كان التعاون الأب مع ابنه في تنفيذ أمر الله تعالى، وفي دلك حكم بالغة.

- شكر الله تعالى على نعمه وعلى ما سخر لنا من بهيمة الأنعام، وذلك بإطعام الفقراء والمحتاجين بالصدقة عليهم. قال عز وجل: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ"[13].

- التوسعة على النفس والعيال يوم العيد، وأيام التشريق.

4- صلاة عيد الأضحى:

شرع الإسلام صلاة عيد الأضحى وهو يوم الأضحى المبارك ويوم النحر، الذي يرتبط بأداء فريضة الحج. ويدخل وقت صلاة العيد بارتفاع الشمس قدر رمح في نظر العين، ويُقَدّر بمرور ربع ساعة بعد شروق الشمس، وينتهي وقتها بزوال الشمس. يُسن في صلاة العيد خطبتان بعد الصلاة.

كما يُسن التكبير من أول شهر ذي الحجة إلى نهاية اليوم الثالث عشر، قال تعالى: "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات"(الحج:28)، وهي أيام العشر. وقوله عز وجل: "واذكروا الله في أيام معدودات"(البقرة:203)، وهي أيام التشريق.

5- صلة الرحم:

المناسبات الدينية، وخاصة أيام العيد، فرصة لصلة الرحم، وتعني الإحسان إلى الأقارب وإيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم. وفي المقابل ذم الإسلام "قطيعة الرحم" وتعني الإساءة إلى الأقارب. وقد ورد في فضائل صلة الرحم أحاديث وآثار كثيرة، نذكر منها:

- عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (أوصاني خليلي أن لا تأخذني في الله لومةُ لائم، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرت)[14]

- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من سرهُ أن يبسط له في رزقه ، ويُنسأ له في أثرة فليصل رحمه)[15].

- عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) [16].

خاتمة:

سُئـل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟ فأجاب: (أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة)[17].

وقال الإمام الطبراني: (ما من أيام أعظم عند الله وأحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)[18]. بمعنى أكثروا في هذه الأيام من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إلـه إلا الله، والله أكبر.

ولما كان الصيام من أفضل القربات فإنه يُستحبُّ صيام أيام العشر، والإكثار فيها من العمل الصالح؛ من صدقة وبر وإحسان ودعوة إلى الله عز وجل.

ولتحقيق هذه العبودية، خصوصا في هذه الأيام المباركة -يوم العيد وأيام التشريق- ينبغي أن نستحضر عند ذبح الأضاحي قول الله تعالى: "لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ"[19]. فلا ينبغي أن تتحول النسك والقربات عند الناس إلى عادة يتنافسون عليها ويتباهون ويتفاخرون، ويتبارون في الأعمال الظاهرة، لـذا ينبغي أن يُعرف أن المقصود في الأعمال الظاهرة هو التأثير على القلب، وأنها فرصةً لتصفية القلب، فحسنات القلوب أهم من حسنات الجوارح، وهي الأصل لحسنات الجوارح. قال ابن عَبَّاس: لَنْ يَصْعَد إِلَيْهِ. وقال ابن عِيسَى: لَنْ يَقْبَل لُحُومَهَا وَلَا دِمَاءَهَا، وَلَكِنْ يَصِل إِلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ؛ أَيْ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهه، فَذَلِكَ الَّذِي يَقْبَلهُ وَيُرْفَع إِلَيْهِ وَيَسْمَعهُ وَيُثِيب عَلَيْهِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيث؛ "إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ").
     
نسأل الله تعالى أن يجعل أضحيتنا وجميع أعمالنا صوابا وخالصةً لوجهه الكريم، لتكون نسكا متقبلا عنده سبحانه. وأن يرفع هممنا لتعظيم شعائره، ولمزيد من الطاعات والعمل الصالح، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

[1] - تفسير ابن كثير، ج: 3 / ص: 635.

[2] - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني، ج: 3 / ص: 139.

[3] - رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: الأضاحي، باب: “نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا”، حديث رقم: 39-1977.

[4] - لغير الحاج لأنه؛ يكره للحجاج صيام يوم عرفة.

[5] - رواه الإمام الترمذي في سننه، كتاب الصوم، باب: ما جاء في فضل صوم يوم عرفة، حديث رقم: 749.

[6] - رواه والإمام مسلم، كتاب: الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق، حديث رقم: 144/1141.

[7] - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني ج: 3 / ص: 137.

[8] - أخرجه الإمام المنذري في الترغيب في الترغيب والترهيب.

[9] - رواه الإمام الترمدي، وقال حسن غريب، والحاكم وقال: صحيح السند.

[10] - أخرجه الإمام المنذري في الترغيب.

[11] - سورة الكوثر / الآية: 2.

[12] - سورة الأنعام / الآية: 164-165.

[13] - سورة الحج / من الآية: 26.

[14] - رواه الطبراني في الكبير، وفي الصغير، حديث رقم: 758.

[15] - رواه الإمام مسلم، حديث رقم: 2557.

[16] - رواه الإمام مسلم، حديث رقم: 2555. وينظر فتح الباري؛ ج:10 / ص: 5989.

[17] - مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ج: 25 / ص: 287.

[18] - المعجم الكبير للطبراني، حديث رقم: 12278.

[19] - سورة الـحج / الآية: 35.





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع