البحث

التفاصيل

القرآن وتكامل مصادر المعرفة

الرابط المختصر :

المقال الرابع عشر- القرآن وتكامل مصادر المعرفة

بقلم: بدران بن لحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(اقرأ: المقال الثالث عشر- التوحيد؛ رؤية تُوَحِّدُ المعرفة وتُكَامِلُها)

 

عند النظر في الجدالات التي قامت منذ القدم ولا زالت بين الفلاسفة والمفكرين ممن تكلموا عن مصادر المعرفة، سنجد نجد مذاهب شتى في هذا الأمر؛ فإذا كانوا اتفقوا على أن الإنسان هو الذات المدركة العارفة، وهو الذي يحصل المعرفة ويسعى إليها، فإنهم اختلفوا في أي المصادر هي الأولى والمعتمدة مرجعا؟!

فهناك من ذهب إلى أن الحس هو مصدر المعرفة، وأن إدراك الأشياء لا يكون إلا بالحواس، وما عمل العقل إلا تابع للحواس في ذلك. وهناك من ذهب إلى أن العقل هو مصدر المعرفة الوحيد، وهو الذي يقدر على تحصيل الحقيقة. وهناك من ذهب إلى أن الحقيقة لا يمكن تحصيلها لا بالعقل ولا بالحواس، وإنما بطريق الباطن أو الإشراق والرياضة الروحية. وبين هذه الاتجاهات الثلاثة اتجاهات كثيرة أخذت بنصيب من هذا وبنصيب من ذاك، ولذلك نجد هذه الاتجاهات الثلاثة الأساس منذ بدايات النظر في مسألة الحقيقة ومصادر المعرفة وطرق الإدراك.

فهل في الإسلام إجابة عن هذا الجدل؟ وهل فيه رؤية أخرى وطرحا آخر يخرجنا من هذا التشظي والجدال بين هذه المصادر؟ وماذا يقول لنا القرآن في هذا الأمر؟!

  1. القرآن منبع التصورات والمفاهيم:

إن القرآن جاء ليؤسس رؤية توحيدية لشؤون الحياة وشؤون الآخرة، وليجعل حياة الانسان متكاملة غير متنافرة، قائمة على سنن ناظمة في كل مجالات حياته، تتكامل فيها شخصيته، وتتحقق فيها سعادته، ويحقق بها خيريته، فيعمر الأرض، ويحقق الاستخلاف.

فالقرآن جاء بالمنهج المتكامل الذي يحقق مصالح الإنسان في العاجل والآجل، ومن أهم ما يميز الإسلام (والقرآن مصدره) أنه وجّه الإنسان إلى أن حياته وما فيها ينبغي أن تقوم على العلم والمعرفة، فكانت "اقرأ" التي أسست للوعي بضرورة العلم أساساً للدين والدنيا، وأساساً للحياة الدنيا والآخرة.

إن القرآن يعتبر مصدرا لتشكيل التصورات والمفاهيم والقيم كليها وجزئيها، ومنبعا للإنسان لبناء مفاهيمه ومناهجه في الدين والعلم والحياة، ولهذا فإنه يمثل منبع استمداد لا ينضب لدراسة مختلف الظواهر والقضايا والأفكار والأحداث. فمنه نستمد الرؤية، والمنهج، والمقاصد. ومن القرآن نستمد مختلف العلوم والمعارف؛ إما بطريق مباشر فيما يتعلق منها بسنن الهداية، وإما بطريق غير مباشر فيما يتعلق منها بسنن الأفاق والأنفس والتاريخ. إنها رؤية تجعل القرآن مركز اهتمام شامل ومتعدد الجوانب.

لأن القرآن كما يقول ابن عاشور "جامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسِّره"[1].

وهو كتاب الله الجامع لخيري الدنيا والآخرة، ومنبع الحق والهداية، ومصدر العلوم على تنوعها، ومستمد الكليات في التشريع وفي العلم والأخلاق. وبالنظر في القرآن وتدبره نولد منه نماذج معرفية ومنهجية وعملية. وهو ليس كتابا دينيا بالمفهوم الضيق للدين، وإنما هو كتاب هداية ورحمة وتبيان لكل شيء. ذلك أنه منبع للمعاني والمفاهيم والتصورات، والقيم والآداب، والأحكام والقصص، ومقاصده شاملة لمختلف جوانب الفكر والعمل، ومبثوثة في كل آياته.

وينبغي أن يأخذ القرآن مركز الاهتمام والاشتغال في تشكيل التصورات، وتحديد الرؤية، وبناء المناهج والمفاهيم، وفي مباشرة عملية التجديد الفكري والعلمي، والإصلاح التربوي والاجتماعي، بغية "التوصل إلى الوعي الحضاري العمراني بالقرآن" كما يقول الشيخ محمد الغزالي[2]. لأن القرآن منبع الهداية ومصدر الصواب لهذه الأمة؛ منه يتكون الإنسان السوي والمجتمع السوي في كل زمان ومكان.

وعندما يتعامل الإنسان مع القرآن تعاملاً حسناً، فإنه يصل إلى فهم حسن للقضايا الكبرى التي تشغل بال الإنسان في كل مكان؛ قضية الخالق سبحانه، والخلق والكون والحياة والهدف منها، ودور الإنسان في هذه الحياة، ومصيره بعدها، ويصل أيضا إلى فهم حسن للمشكلات الحياتية والحضارية التي يعاني منها العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر وتعاني منها الحضارة الإنسانية كلها[3].

ولعل من أهم القضايا التي ينبغي الرجوع فيها إلى القرآن قضية المعرفة ومصادرها، والجدل المثار بين مختلف المدراس لنعرف ما يزودنا به القرآن في هذا الموضوع.

 

  1. القرآن يوجهنا إلى تكامل مصادر المعرفة:

إن الرؤية التوحيدية التي أشرنا إليها سابقاً، وقلنا إنها توحِّد المعرفة، هي التي تؤسس للتكامل بين المصادر الممكنة للمعرفة، وتجعلنا ننظر إلى الحس والعقل والباطن بأنها متكاملة، وهذا بفضل توجيه الوحي (القرآن والسنة).

فالمعرفة لا تقوم على مصدر واحد، بل تتكامل فيها الإدراكات الحسية، والادراكات العقلية، والوحي، ولكل واحد منها مجاله الذي يغطيه، وشرطه الذي يجعله مصدرا للحقيقة وللمعرفة. وإذا كان الوحي هو المصدر الأعلى للحقيقة، فإنه تضمن حقائق الغيب، كما تضمن توجيها كليا لحقائق عالم الشهادة وتفصيلا في بعضها، ليتجه الإنسان إلى إدراكها حسا وعقلا.

فهناك عناية كبيرة بالإدراك الحسي في القرآن، وآيات كثيرة تأمر باستعمال الحواس للوصول إلى الحقائق، ولعل منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [سورة الإسراء: 36]. ولكن آيات الحس كلها يعقبها تنبيه القرآن على النظر والتأمل والتعقل؛ أي إلى استعمال الادراك العقلي في هذا الادراك الحسي، فهما مترابطان. ولهذا نجد معظم الآيات التي تأمر باستعمال الحواس لمعرفة الحقائق، تختتم بأمر بالتعقل، والتفقه، والتأمل، والتدبر، والإيمان، ومنها قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج: 46]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩]

إنه تكامل ينطلق من رؤية توحيدية، ويقوم على تصور توحيدي تتكامل فيه حياة الانسان، وتتكامل قواه الإدراكية على معرفة الحقيقة، بتوجيه القرآن الكريم.

 

 

[1] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مج1، ج1، ص5.

[2] الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص3. من تصدير الشيخ طه جابر العلواني.

[3] إسماعيل، كيف نتعامل مع القرآن والسنة، ص81.





التالي
في ذكرى العلامة محمد سليم مولوي
السابق
الاتحاد يعزي في وفاة البروفيسور عبد المنعم خليل الهيتي أحد فقهاء العراق "74 عامًا" بعد صراع مع المرض

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع