البحث

التفاصيل

الوضع الكارثي في غزة والعالم المتحضر

الرابط المختصر :

الوضع الكارثي في غزة والعالم المتحضر

بقلم: د. محمد وثيق الندوي

 

منذ أكثر من أربعين يومًا تضيف إسرائيل كل يوم إلى سجلها الإجرامي الأسود جرائم إنسانية بشعة، وجرائم حرب تقشعر منها الجلود، ويعافها الضمير الإنساني الحر، ويستهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي المدارس والمستشفيات ومراكز الخدمات والرعاية الطبية، والمجمعات السكنية في غزة بالقصف الظالم المستمر، وعملية الإخلاء القسري ضمن عدوانه المسمى بـ "السيوف الحديدية" ردًّا على "طوفان الأقصى" الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية يوم السابع من أكتوبر 2023م،ردًّا على العدوان الإسرائيلي، ولا يستغرب ذلك، فقد استمرت مثل هذه الجرائم منذ إنشاء الكيان الصهيوني الظالم في أرض فلسطين المحتلة بمساندة الدول الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا، ثم واصلت تربيتها وتقويتها أمريكا والدول الأوروبية الأخرى، كفرنسا وروسيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، تحت خطة مدروسة لتحقيق الأهداف الاستعمارية، والمصالح السياسية المغرضة، فتاريخ الصهيونية الغاشمة مليء بالدموية والوحشية.

وإن الجرائم التي ترتكب في غزة حاليًا، قد فاقت الجرائم السابقة في شناعتها وبشاعتها، فإن إسرائيل تقصف على أهل غزة العزل، بالصواريخ والدبابات المدرعة، والأسلحة الفتاكة المدمرة، حتى لم تحترز من استخدام ذخائر الفسفور الأبيض المدمر وفقًا للتقارير الدولية، وقد دمَّر جيش الاحتلال الإسرائيلي مستشفى الشفاء، كما ارتكب مجزرة في مستشفى المعمداني في غزة، وإن مئات من جنود الاحتلال اقتحموا مستشفى الشفاء وأطلقوا النار بكثافة داخل أروقة المستشفى، فحوَّل الجيش الإسرائيلي مستشفى المعمداني والشفاء إلى مقبرة، كما حوَّل مراكز الرعاية الطبية إلى سجن كبير بلا ماء أو كهرباء أو غذاء، أو غياب مستلزمات وأدوات طبية في جريمة بشعة لا ينساها التاريخ، وتوصف الأوضاع في غزة بالمأساوية، وأن الجرحى والمصابين في غزة لا يجدون دواء ولا علاجًا، فيذهبون ضحايا للقهر الصهيوني، ويصرخ الأطفال والشيوخ والنساء من العطش والجوع، فلا يجدون من ينقذهم و يسد رمقهم.

المأساة البشرية والكارثة الإنسانية تستمر في فلسطين حيث تواصل إسرائيل بقوة وشراسة قمع الشعب الأعزل الذي يدافع عن حقه في الوطن، فقد دمرت إسرائيل غزة  بدعم من الطائرات والحاملات الحربية والبوارج الأمريكية، ولا تتصدى لهذا الغزو الصهيوني الدول التي تطالب بحقوق الإنسان، وتدعي بصيانة القيم الإنسانية، وحرية الشعوب والنظام الديموقراطي، وتحترز عن نصرة المظلوم الدول الديموقراطية التي تعلن معارضتها للاحتلال والإرهاب، فلا تندد بهذا الظلم والهمجية والبربرية، وتستخدم إسرائيل الطائرات المقاتلة والدبابات وسائر الوسائل الحربية المتطورة بتأييد ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، وأما الدول العربية والإسلامية فإنها تبدو عاجزة أو لها حسابات، وتلزم الصمت حيال التهجير والتجويع والتدمير الذي يمارسه الكيان الصهيوني الغاشم.

قصة الجرائم الإسرائيلية والصهيونية طويلة، علاوة على الحروب والاعتداءات المسلحة على الدول العربية المجاورة، وتشريد المواطنين العرب، وإنشاء المستوطنات في أراضيهم، وإجراءات تهويد القدس والاعتداءات على المسجد الأقصى، والمذابح المتكررة التي ذهب ضحيتها اللاجئون الفلسطينيون في مخيماتهم كصبرا وشتيلا، والعدوان على سكان غزة العزل، وفرض الحصار عليها، ثم تدمير غزة بالكامل، ومنع الماء والطعام والغذاء والكهرباء والدواء عن أهل غزة، وهي جرائم معروفة، ومخالفة إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية مستمرة، فلا تؤثر عليها القرارات الأممية، ولا مناشدة منظمات رعاية الحقوق الإنسانية، ولا الاحتجاجات والمظاهرات العارمة ضدها في مختلف أنحاء العالم.

كل ذلك يدخل في سجل إسرائيل الأسود للجرائم والاعتداءات الحربية، وبدعم القوى الكبرى تنجو -رغم الإدانات على المستوى العالمي- من العقوبات والإجراءات الرادعة، بينما تواجه الدول الأخرى عقوبات شديدة على أدنى مخالفة لحقوق الإنسان أو معارضة لمصالح الدول الكبرى، أو مخالفة لميثاق حقوق الإنسان للأمم المتحدة.

هذا ظاهر للعيان، وأما ما يجري تحت الستار وتخفيه وسائل الإعلام، فهو أكبر من الهجمات والغارات والاعتداءات، ولكن أوروبا تدعي بأنها حاملة للحضارة والحرية، وحامية لحقوق الإنسان، وداعية للقيم الإنسانية، رغم فرض نظم لا ترغب فيها الشعوب، رغم إبادة آلاف مؤلفة من الأبرياء، وتشريد وتهجير السكان الأصليين من أراضيهم، وتدمير مساحات شاسعة.

إن الاعتداءات الإسرائيلية على غزة ومعاناة الأبرياء والشعب الأعزل يثير الضمير الإنساني من سائر الجهات، وقد قامت المظاهرات والاحتجاجات في مختلف دول العالم حتى داخل إسرائيل وأمريكا، وتبذل محاولات لوقف الحرب وإيصال مساعدات للمنكوبين والجرحى والمرضى، ولكنها تذهب سدى وتفشل لموقف إسرائيل المعاند، ومساعدة القوى العالمية، وعجز الدول العربية المجاورة، ولمثل هذا يذوب القلب من كمد، وينطبق على الوضع المأساوي والكارثي في فلسطين ما قاله الزهاوي في أهوال الحرب العالمية الأولى:

في كل أرض   **  وصقع مدافع ثائرات

يقتلن كل فتى قد   **   تفيد منه الحياة

وليس يبقين إلا   **   أرامل ويتامى

هناك بحر خضم   **   يجري ليغمر بحرا

هناك بركان نار   **   تسعى لتأكل أخرى

هناك جيش لهام   **   يؤم جيشا لهاما

من قارعات صياحا **  يهتز منها المكان

وبارقات مساء   **   يحمر منها الدخان

وناسفات بليل   **   يبعثن موتا زؤاما

القتل قتل ذريع   **   والخطب خطب جسام

فوق الرغام دماء  **  يحمر منها الرغام

والأرض تشرب منها **  ولا تبل أواما

فإن إسرائيل تقتل وتدمِّر وتحرق الأطفال الرضع والشيوخ الركع والنساء في القصف الوحشي في الحرب التي تشنها، ويمنح الوقود لها الدول الأوروبية، وهكذا تستمر المجزرة بل المحرقة الصهيونية بحق الفلسطينيين في ظل الحضارة الغربية، في عهد العلم والحرية والنور، والدليل على ذلك ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من فيديوهات مؤلمة للممارسات الإسرائيلية الوحشية، وجثث محروقة وأشلاء ممزقة للأطفال في غزة.

إن اعتداءات إسرائيل التي تشارك فيها أمريكا ودول أوروبا الأخرى وتبررها بأن اعتداء إسرائيل دفاع عن النفس، وضربة الفلسطينيين إرهاب يجب أن يُوقف، مثال واضح لاستمرار سياسة الاستعمار التي أصبحت سمة الحضارة الأوربية، وهي مهزلة من مهازل التاريخ المعاصر، وقد غرقت أمريكا رغم تقدُّمها العلمي والحضاري والصناعي، في المهازل.

إن أمريكا لم تتحرك لوقف المجازر التي تقوم بها إسرائيل في غزة حيث يتعرض الأبرياء والأطفال الرضع والشيوخ الركع والنساء للقصف العشوائي، والتشريد والتهجير والتجويع، ولم تتحرك لمنع نتن.ياهو، ولكنها تزود الكيان الصهيوني بالأسلحة الفتاكة والطائرات والبوارج الحربية، وفي جانب آخر تجبر الدول العربية والإسلامية على تأييد إسرائيل وحمايتها باسم التطبيع، وتهدد باتخاذ إجراء مشدد ضد من لا يقبل حكمها وموقفها، ففرضت بعض الدول الحظر على إبداء عواطف الحماية أو المساعدة لأهل غزة حتى الدول التي كانت تهدد بالقضاء على إسرائيل في ثواني ودقائق، تلازم الصمت وتتفرج على ما يجري في غزة من إراقة الدماء المعصومة، وقصف المستشفيات والمساجد، وتدمير المدارس، بمن فيها من المرضى والمصلين والطلاب، يقول محمود سامي البارودي:

ظننت بهم خيرًا فأبت بحسرة ** لها شجن بين الجوانح لاصق

وقد أقسموا ألّا يزلوا فما بدا ** سنا الفجر، إلّا والنساء طوالق

أسود لدى الأبيات بين نسائهم  **  ولكنهم عند الهياج نقانق

إذا المرء لم ينهض بقائم سيفه  **  فيا ليت شعري كيف تحمى الحقائق

وأقول بلسان الشاعر العربي عمر أبو ريشة الذي يعبر عن حالة الأمة العربية الحاضرة:

أمتي هل لك بين الأمم  **  منبر للسيف أو للقلم

أتلقاك وطرفي مطرق  **  خجلا من أمسك المنصرم

أين دنياك التي أوحت إلى  **  وتري كل يتيم النغم

أي جرح في إبائي راعف  **  فاته الآسي فلم يلتئم

أ لإسرائيل تعلو راية  **  في حمى المهد وظل الحرم؟

كيف أغضيت على الذل ولم  **  تنفضي عنك غبار التهم؟

أمتي كم صنم مجدته  **  لم يكن يحمل طهر الصنم

لا يلام الذئب في عدوانه  **  إن يك الراعي عدوَّ الغنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما  **  كان في الحكم عبيدُ الدرم

أين العالم اليوم الذي يصرخ بالقيم الإنسانية وعدم انتهاك الكرامة الإنسانية في أوكرانيا، وهو الآن يتفرج بل يساند المحرقة الصهيونية في فلسطين، ولا يقلقه ما يتعرض له النساء والأطفال من إبادة كل يوم في غزة، وكأن أهل غزة ليسوا سوى "حيوانات بشرية" كما قال وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي.

وإن آلاف الفلسطينيين العزل منذ أربعين يومًا يذهبون ضحايا لاعتداءات الكيان الصهيوني، ولا يحرك العالم ساكنًا ولا يتخذ إجراء عالميًا -سوى الإدانات أو التصريحات والقرارات كحبر على الورق، أو المظاهرات الفاشلة- لوضع حدّ على الاعتداءات الإسرائيلية، إنه العالم الذي انزعج وصرخ - كما أشار إلى ذلك عبد العزيز مبارك في مقال له في مجلة المجتمع-أمام فظاعات "راوندا" في تسعينيات القرن الماضي وقال قولته الشهيرة: (Never Again) (لن يحدث أبدًا مرة أخرى) يشاهد اليوم فظاعات غزة، ولا يقول شيئاً فضلاً عن فعل شيء".

وإن إسرائيل تسير على نفس الطريق الذي اختاره هتلر في القتل والإبادة والتدمير والتشريد كما تدل على ذلك تقارير منظمات رعاية حقوق الإنسان، ويدل عليه القصف الإسرائيلي العشوائي على المستشفيات والمدارس في غزة، وإن هتلر لم يكن شخصًا واحدًا عاش في عصر واحد، وولى عهده، بل هو رمز القهر والظلم والغطرسة والتجبر، كما كتب الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي، فكان خطرًا للإنسانية كلها، فتحالفت القوى العالمية لمحاربته والقضاء على نظامه، فإذا اختار شخص آخر خصائص هذا الشخص ونظام آخر خصائص ذلك النظام، فمن مصلحة الإنسانية وبقائها أن تتحالف القوى العالمية للسيطرة عليه، وكبح جماحه لمنع وقوع مأساة إنسانية أخرى، وتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني المضطهد.

إن الوضع الكارثي في غزة وغطرسة الكيان الصهيوني وإصراره على المضي قدمًا لقهر السكان الأصليين، وإبادة الشعب الفلسطيني الأعزل، يطالب بتحالف عالمي لمنع إسرائيل من القتل والتدمير والتهجير والتجويع، كما تحالفت القوى العالمية ضد النازية، ومن مسئولية المجتمع الدولي أن ينهض لكبح جماح الكيان الصهيوني ويعاقب مرتكبي جرائم الحرب في غزة.

 

ــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع